تختلف وجهات النظر في الميدان السياسي اللبناني بشأن ما اذا كانت احداث سوريا قد خلقت نوعا من الفراغ في لبنان. هناك من يعتقد ان انشغال سوريا بالدفاع عن وحدتها في وجه الهجمات الامريكية من ناحية التوجيه والاهداف والقوى شغلها عن دور اساسي قامت به تاريخيا في لبنان منذ استقلال الدولتين. وهناك من يعتقد ان النفوذ السوري في لبنان قد تراجع بسبب الاحداث اللبنانية الداخلية التي تتسم ببروز الخلاف بين انصار الاتجاه العربي وأنصار الاتجاه الغربي لسياسة لبنان. وأيا كان السبب في ابتعاد سوريا عن لبنان فالحقيقة الواضحة – كما تعكسها التطورات في لبنان خلال السنوات الثلاث الاخيرة – قد زادت من شعور التيار العربي في لبنان بالتراجع والضعف. وهو يشكل مؤشرا خطرا بكل المعاني على سياسة لبنان والاهم من ذلك على مستقبله وموقعه. ويزيد من خطورة هذا المؤشر ان لبنان منذ اندلاع الصراع العربي-الاسرائيلي لعب دورا بالغ الاهمية في هذا الصراع على الرغم من ان لبنان لم يشارك في حرب عربية-اسرائيلية مباشرة الا بعد بروز دور حزب الله كقوة سياسية وعسكرية وهو تطور حديث العهد بالمقارنة ببداية الصراع العربي-الاسرائيلي. والان، وعلى الرغم من الدور العسكري المهم الذي يلعبه حزب الله في الصراع الداخلي في سوريا لكن الحزب لم يفقد فيما يبدو اي جزء من دوره الداخلي في لبنان. الامر الذي يؤكد الوزن الكبير لحزب الله في الشأن اللبناني الداخلي. ولكن حجم الدور الذي يقوم به حزب الله في الشأن اللبناني لا يغير من حقيقة الشعور الحاد بغياب دور مصر في لبنان، مع الاختلاف الكبير في صفات الدورين. فدور حزب الله داخلي لبناني اولا كما انه يتخذ الطابع السياسي والعسكري(المسلح) معا. اما دور مصر فانه دور خارجي وفي الوقت نفسه دور سياسي ولا عسكري ولكنه دور مؤثر عندما يكون له حضور في المشهد اللبناني. وقد كتبت صحيفة «الاخبار» اللبنانية (26 ابريل) مقالا تحت عنوان «غياب توازن النفوذ العربي في لبنان يهدد بالفراغ» تعرضت فيه لغياب الدور العربي في أحداث لبنان الاخيرة. ولكن من الواضح ان الكاتب (داود الرمال) اشار من بداية مقاله الى ان دور مصر كان له تأثير فعال في لبنان خاصة في زمن جمال عبدالناصر. وقال «كانت الساحة اللبنانية محل تجاذب عربي- دولي، فهي في الحقبة التي سبقت العام 1975 اي الدخول السوري كان يتنازعها النفوذ المصري والسوري. وكان للرئيس الراحل جمال عبد الناصر التأثير الاكبر، وتحول السفير المصري في بيروت الى قبلة المسئولين اللبنانيين في حين كانت سورية شريكة الى حد ما بحكم الجوار الجغرافي والتداخل الاجتماعي. وأضاف الكاتب اللبناني «بعد وفاة عبدالناصر تحولت الساحة اللبنانية الى ساحة نفوذ متعددة المشارب لكل من منظمة التحرر الفلسطينية بزعامة ياسر عرفاتوسوريا حافظ الاسد وليبيا معمر القذافي والعراق صدام حسين، ولم يكن للسعودية اي نفوذ اساسي الى حين دخول الجيش السوري حيث عمد الاسد الى ابعاد الساحة اللبنانية من كل التأثيرات العربية الاخرى». النفذو الإسرائيلي اما الان وبعد كل هذه السنين التي مضت فقد شهد لبنان تغيرات كبيرة ومهمة اصبح فيها للنفوذ السعودي دور كبير وبالتنسيق مع القوى الكبرى، وفي مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة دور بالغ الحجم والنفوذ. ولا يمكن في هذا المجال اغفال الدور الاسرائيلي الذي تلقى هزيمة كبرى على يد حزب الله على الارض اللبنانية في عام 2006 ولكنه يلعب دورا خفيا في الضغط على السلطة اللبنانية من خلال نفوذ الاطراف السياسية والمسلحة في لبنان التي ترتبط بعلاقات سرية مع اسرائيل وفي مقدمتها القوات اللبنانية التي يتزعمها سمير جعجع وحزب الكتائب اللبنانية التي يتزعمها أمين الجميل (وهو رئيس سابق للبنان) وهي علاقات كانت قد اتخذت طابعا علنيا قبل ذلك في زمن الحرب الاهلية اللبنانية.. أما الان فيمكن التأكيد بان علاقات هذه الاطراف باسرائيل قد عادت الى سابق عهدها من السرية بعد ان حدث تصعيد قوي في المواجهة بين حزب الله واسرائيل، وهو تصعيد أعقبه وحتى الان ترسيخ لعلاقات الردع المتبادل. ان اسرائيل لم تعد تفكر في شن عدوان على لبنان بقصد توجيه ضربة او ضربات لحزب الله، حتى وهو مشغول في مساعدة سوريا بالرجال والعتاد ضد المعارضة الخارجية والداخلية. وهو وضع من الصعب تصور نهاية له تعيد المواجهة بين حزب الله والجيش الاسرائيلي الى سابق عهدها. ومن الجدير بالذكر ان هذه المسالة تحظى بنقاش داخلي في اسرائيل ولا توجد مؤشرات الى نهاية حاسمة لهذا النقاش. ما يعني ان حزب الله أصبح يلعب دورا اساسيا في المواجهة العربية لاسرائيل وان اسرائيل اصبحت تدرك هذه الحقيقة. ما يعني بدوره ان اسرائيل قد اخفقت تماما في تغيير قواعد المواجهة مع لبنان. وقد عبر عن هذا المعنى الكاتب اللبناني يحيي دبوق في قوله (السفير-30 أبريل 2014) «يمكن القول، وبمستوى مرتفع من الاطمئنان، ان الاسرائيلي اعتقد بان واقع حزب الله مأزوم ومشغول على نحو متزايد في سوريا. وأن في مقدور تل ابيب استغلال انشغاله وفرض قواعد اشتباك جديدة في لبنان، تتيح لها شن اعتداءات بلا اثمان، هذا الاعتقاد كان مترسخا في التقديرات الاسرائيلية، لدرجة توقع حزب الله اي اعتداء تشنه اسرائيل على الاراضي اللبنانية. وما حدث حتى الان هو صد محاولة تجاوز الخط الاحمر الذي لا يمكن لحزب الله ان يسمح بتجاوزه». عودة الصراع في ضوء هذه الايضاحات الجديدة يمكن التأكيد بانه في الوقت الذي يجري التساؤل عن دور حزب الله في مواجهة اسرائيل بقوة السلاح من لبنان يجري التساؤل ايضا عن دور مصر في مواجهة اسرائيل واصدقائها في لبنان دون استخدام السلاح. انما مواجهة مصر لاسرائيل في لبنان بهدف اقصاء النفوذ الاسرائيلي عن لبنان. وهذا يعني ان دور مصر اصبح مطلوبا في لبنان الان لمواجهة اسرائيل في الوقت الذي يغيب فيه الدور نفسه الذي كانت تقوم به سوريا. ان مصر هي الدولة العربية الوحيدة القادرة في الظروف الراهنة على مواجهة اسرائيل وصدها عن لبنان سياسيا ودبلوماسيا في غياب وانشغال سوريا, وهو دور لا تستطيع دولة عربية أخرى غير مصر ان تقوم به. ومن المتوقع ان تصبح مصر مهيأة وجاهزة لاداء هذا الدور بمجرد ان تخرج من ظروفها الحالية التي يمثلها انخراطها في النزاع مع الاخوان. لكن هذه النقاط لا تسمح باي حال باغفال الدور الذي دخلت به المملكة العربية السعودية في المشهد اللبناني. فالسعودية – من ناحية – كانت طرفا في النفوذ الدبلوماسي والعربي والاجنبي (العربي وغير العربي)، وفي الوقت نفسه فان مصر تبدو الان في حالة استعداد للعودة الى دورها التقليدي في لبنان. فاما ان نتوقع تنسيقا بين مصر والسعودية او نتوقع تنافسا بينهما على العودة الى الشأن اللبناني. ومن المؤكد ان الدور الأمريكى سيلعب دورا في هذه المنافسة العربية ازاء النفوذ في لبنان لان النفوذ الأمريكى يبقى ماثلا في كل الاحوال. ان المرحلة القادمة من المواجهة او المنافسة العربية على النفوذ في لبنان مرحلة ستكون بالتأكيد مرحلة بالغة التعقيد والحساسية. ولكن الامر المؤكد ايضا وفي الوقت نفسه هو ان الدور المصري – خاصة عندما يختفي الاخوان وتنظيمهم الداخلي والخارجي من المشهد المصري – سيزداد فاعلية وتأثيرا في جهود العودة الى ما كان عليه في السابق، وخاصة في لبنان. ذلك لان لبنان هو المدخل الطبيعي لسوريا كما كانت سوريا في السابق هي المدخل الطبيعي الى لبنان.. ومن المؤكد ان المعركة الرئيسية على التأثير في اتجاهات لبنان ستكون معركة ضد النفوذ الامريكي الذي لايريد ابدا الانصراف عن المنطقة. لهذا فان ما يمكن توقعه الان هو عودة الصراع في الشرق الاوسط كله الى ما كان عليه ابان فترة جمال عبد الناصر.