ويأتى بنا الحديث إلى البطلة الحقيقية لمعارك تحرير المرأة.. ولقد يبدو هذا الوصف مثيرا لدهشة الكثيرين الذين تصوروا أن درية شفيق كانت مجرد سيدة أرستقراطية قالت كلمتها فى موضوع تحرير المرأة وقامت ببعض حركات ذات طابع استعراضى ثم صمتت وبينما الدراسة التاريخية المتأنية أكدت أنها كانت بطلة حقيقية فى معارك حرية الوطن والشعب والمرأة وأنها دفعت ثمنا غاليا جداً بل ووحشيا انتهى بالقتل المعنوى وربما القتل العمدى ونبدأ قصة درية شفيق من بدايتها.. ولدت درية شفيق عام 1908 ودرست فى مدرسة الليسييه فى طنطا ولتفوقها أرسلتها وزارة المعارف ضمن أول دفعة من الفتيات للدراسة فى جامعة السوربون بباريس على نفقة الدولة وحصلت على ليسانس الفلسفة ثم حصلت على درجة الدكتوراة فى الفلسفة من ذات الجامعة وكان موضوع دراستها "المرأة فى الإسلام" حيث أكدت أن الإسلام الصحيح قد ضمن للمرأة حقوقا أكثر بكثير مما تحصل عليه الآن وذلك بسبب التخلف الفكرى والتعنت الذكوري، وعادت درية شفيق إلى مصر لتجابه بأن عميد كلية الآداب "جامعة فؤاد" رفض تعيينها لأنها امرأة، واضطرت إلى قبول وظيفة مفتشة للغة الفرنسية لكل المدارس الثانوية فى مصر، لكن رتابة العمل الوظيفى دفعتها إلى الكتابة فى الصحف وتكاثرت مقالاتها دفاعا عن حقوق المرأة وخاصة حقها فى تولى كل الوظائف بعد أن عانت هى شخصيا من هذا التمييز وفى عام 1945 عرضت عليها الأميرة شويكار رئاسة تحرير مجلة المرأة الجديدة التى كانت تصدر بالفرنسية وقبلت بحماس ثم أصدرت مجلة باللغة العربية أسمتها "بنت النيل" وفى عام 1946 وبعد وفاة الأميرة شويكار أصدرت المجلتين بالفرنسية لتتحدث للغرب عن أحوال المرأة المصرية والعربية لتوجهها إلى الطبقة الوسطى من النساء والرجال وللمثقفين لتستنهض الهمم من أجل صحوة جديدة للدفاع عن الحقوق الكاملة للمرأة المصرية، وفى أحد المؤتمرات العامة أعلنت درية شفيق عن تأسيس حركة جديدة باسم "من أجل التحرر الكامل للمرأة المصرية" والتى تحولت إلى "اتحاد بنت النيل" وقد اتخذت درية شفيق خطوات عملية دفاعا عن حقوق المرأة وعن حرية الوطن وعن حق المرأة فى الإسهام فى خطى النهوض بمصر، فقامت بتأسيس مدارس لمحو أمية الفتيات وكانت أولاها مدرسة فى بولاق أقامتها فى مدرسة ابتدائية حكومية فى فترة ما بعد انتهاء اليوم المدرسي، وفى عام 1950 نشرت برنامجا طموحا للإصلاح الاجتماعى أكدت فيه أن النهوض بالمرأة تعليميا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا هو أحد أهم محاور هذا الإصلاح، وركزت نشاطها فى هذه الفترة على الدفاع عن حقوق النساء العاملات فسعت لإقامة دور حضانة لأطفالهن وكافيتيريات بالمصانع لتقديم وجبات ساخنة ورخيصة للعاملات، كما افتتحت مكتبا لتوظيف خريجى الجامعة وهنا نستشعر رائحة عطر اليسار فى تحركها لنكتشف أن رئيس تحرير بنت النيل فى هذه الفترة كان لطفى الخولى وأنه كان يحفزها على مزيد من التوجه للعمل الوطنى والدفاع عن الفقراء كجزء من معركة تحرير المرأة، وتزوجت درية شفيق من الكاتب اللامع أحمد الصاوى محمد ونقرأ لمصطفى أمين "شخصيات لا تنسي.. ص257″ "صدرت جريدة الأهرام ذات صباح وفى صدر الصفحة الأولى صورتان كبيرتان بعرض أربعة أعمدة بعنوان "قران سعيد ودهش القراء فهذه أول مرة تنشر جريدة الأهرام صورة عروسين فى الصفحة الأولي، وحتى خبر زواج الملك فؤاد من الملكة نازلى نشرته جريدة الأهرام الوقورة فى صفحة المحليات فى داخل الجريدة، وسعد القراء لأن العروسين هى الآنسة درية شفيق الحاصلة على شهادة من السوربون فى الآداب وتحدث المجتمع عن جمالها ونبوغها أما العريس فهو الكاتب الشاب المحبوب أحمد الصاوى محمد صاحب باب "ما قل ودل" فى صفحة الأهرام الأولى وهو من نجوم الصحافة الموهوبين وكانت مقالاته وقصصه موضع إعجاب السيدات والآنسات فقد عاد من دراسته فى باريس بفكر متفتح وركز كتاباته فى نصرة المرأة وتأييد تعليمها والتحاقها بكل الوظائف وكان هذا الزواج هو زواج الموسم خاصة أن العروسين كانا من أنصار المطالبة بحقوق المرأة، وتم عقد القران وفق رغبة العروسين المودرن فى قصر هدى شعراوى زعيمة النهضة النسائية المصرية وكانت قيمة الصداق خمسة وعشرين قرشا "هما اخترعا هذه الفكرة لأول مرة" والمؤخر مائة قرش، لكن هذا الزواج الذى أحدث ضجيجا ما لبث أن أحدث ضجيجا آخر بانفصال العروسين قبل الزفاف، فقد كان أحمد الصاوى محمد أوروبيا من الخارج وصعيديا من الداخل فقد ولد فى مدينة أسوان وتعلم فى باريس فهو متحرر فى كتابته ومحافظ جدا فى بيته، أما درية شفيق فكانت متحررة ومتأثرة بدراستها فى باريس وتطالب بحقوق كاملة للمرأة المصرية، وكان الصاوى لا يمانع من أن تنال جميع النساء المصريات ذات حقوق المرأة الفرنسية إلا زوجته فمكانها البيت وعندما تزوج مرة أخرى بعد سنوات لم تنشر صورة زوجته أبدا، وواصلت درية شفيق بمساندة من لطفى الخولى معاركها من أجل حرية الوطن والشعب والمرأة فى نسيج نضالى واحد، وعندما تصاعد النضال المسلح فى منطقة القنال أعلنت جمعية بنت النيل عن تأسيس أول فرقة نسائية مسلحة للكفاح المسلح فى منطقة القنال وتشكلت أولى مجموعة من الفتيات تدربن على العمل القتالى كما قامت بتدريب مئات من الفتيات على الإسعافات الأولية والتمريض وقامت بحملة تبرعات لمساعدة العمال الذين فقدوا عملهم فى القاعدة البريطانية بمنطقة القنال، كما أسهمت فى حركة مقاطعة المصالحة والبضائع الأجنبية وقبض عليها لتنظيم مظاهرة نسائية قمن بمحاصرة بنك باركليز البريطانى فى يناير 1951 داعيات لمقاطعة البنك وعدم التعامل، وفى هذه الأيام أصبحت درية شفيق زعيمة حقيقية ليس فقط على نطاق الطبقة الوسطى المصرية وإنما على نطاق العالم.. وتلقت دعوات عدة لمقابلة العديد من الرؤساء منهم رؤساء الهند وسيلان والعراق وإيران وباكستان مما أثار عليها حفيظة عديد من السياسيين والقوى الرجعية، وعندما كتبت مهاجمة الرئيس الباكستانى عندما اتخذ زوجة ثانية ثار الرجعيون عليها منددين بها وباندفاعها فى اتجاه الثقافة الغربية والملابس الغربية وبدأوا يتهمونها بالكفر بما دفعها إلى أن تؤكد فى مذكراتها "أن الإسلام الصحيح لا يضع العراقيل أمام المرأة" لكن أعداء التحرر أطلقوا عليها ألقاباً عدة: مثل سيدة المارون جلاسيه، زعيمة البارفان، والمانيكان.. أما هى فقد ردت على ذلك بترجمة معانى القرآن إلى الإنجليزية ثم إلى الفرنسية.