لم يندهش أحد بإقرار مجلس الشيوخ الفرنسي لقانون التقاعد الجديد، في 22 أكتوبر (177 مع 153 ضد) برغم الاعتراضات الشعبية المستمرة عليه حتي الآن. ولقد قامت النقابات والأحزاب المعارضة بتهدئة الحركة بعدم ممارسة إضراب واسع عن العمل إبان فترة عطلة "عيد القديسين" (23 أكتوبر - 4 نوفمبر) حتي يتمكن من شاء من المواطنين التنقل. وبذلك تحافظ الحركة علي المساندة الشعبية القوية التي تتمتع بها والتي ترجمتها كل استطلاعات الرأي العام. وبرغم ذلك فإن الاحتجاج يستمر بأساليب أخري. إذ قامت النقابات الطلابية بمظاهرات واسعة عشية العطلة وعاودت التظاهر يوم 26 أكتوبر. ومن جهة أخري سوف تقوم النقابات والأحزاب بالتظاهر يومي 28 أكتوبر و6 نوفمبر. وسيكون ذلك بعد معاودة البرلمان إقرار القانون في نصه النهائي بعد تعديلات طفيفة جرت عليه في مجلس الشيوخ وفي انتظار اعتماده نهائيا في منتصف نوفمبر من قبل رئيس الجمهورية. وما له أهمية هو أن العاملين بمعامل تكرير البترول البالغ عددهم 12 ألفا يواصلون إضرابهم عن العمل دون توقف ومازالت 1300 من 4300 محطة بنزين تعاني من عدم الإمداد بالمحروقات. وما يلوح من استطلاعات الرأي العام هو أن 43 % من المواطنين يطالبون بمواصلة محاصرة العاملين لمعامل التكرير بينما 59 % لا يوافقون وهذا يجد تفسيره في الضرورة الملحة لاستخدام السيارات الخاصة في العمل. العمل أو المحاكمة ولقد لجأت الدولة إلي مواجهات عنيفة مع المضربين عن العمل لفض محاصرة معامل التكرير ومستودعات البترول بقرار من الرئيس ساركوزي. وكذلك باللجوء إلي "قانون استثناء" أصدره "مأمور مدينة" وبمقتضاه قامت باستدعاء وتجنيد كل العاملين في بعض معامل التكرير للعودة إجباريا إلي العمل وإلا تعرض المتخلف للسجن 6 شهور وغرامة 10 آلاف يورو. إذ اعتمد هذا الاستدعاء علي بند في القانون يجبر علي ضرورة العمل لتأمين المصالح العامة و"من اجل الدفاع الوطني" ! ورفع العاملون قضية ضد الدولة في المحكمة باعتبار ذلك الاستدعاء يتنافي مع الحق الدستوري في الإضراب عن العمل. وبالفعل قضت المحكمة لصالح العاملين ضد قرار الدولة. غير أنه في اليوم نفسه أصدر نفس "المأمور" استدعاء آخر ولكن في هذه المرة لا يخص كل العاملين وإنما العدد الضروري الذي يؤمن سير عملية الإنتاج. وعاود العمال رفع قضية جديدة في انتظار البت فيها خلال أيام غير أن من تم استدعاؤه لا خيار أمامه: "العمل الإجباري أو التعرض للمحاكمة". مزيد من اليمين ويجب التنويه إلي أن الجو العام اليوم في أوربا يكشف عن توجه لسياسات ليبرالية يمينية متشددة مثلما هو الحال في اليونان وإنجلترا بل وفي أسبانيا برغم اللافتة الاشتراكية لرئيس وزرائها. أما في فرنسا فالأمر يتعلق باستمرار تكرير وإنتاج وتوزيع البترول بكل مشتقاته وعدم توقف عجلة الإنتاج. والسؤال المطروح علي حركة رفض قانون التقاعد محدد وهو كيف يمكن للحركة أن تستمر وأشكال هذه الاستمرارية ومدتها وعمقها ؟ ثم سؤال آخر وهو جوهري ما مدي تحمل المواطنين عامة لحالة توقف للأنشطة الاقتصادية برغم موافقتهم علي كل من المظاهرات بنسبة 69 % ؟ ثم هل يمكن أن تتراجع الدولة أم لا ؟ الشروط الموضوعية والذاتية لاتساع الحركة غير متوافرة إذ لا توجد قيادة موحدة والمثقفون يشاركون كأفراد ولا يمكن الإدعاء اليوم بأنهم يلعبون أكثر من دور المواطن العادي. فهي حركة تتخذ كإستراتيجية ما يسمي بالإضراب عن العمل بالنيابة عن الآخرين. إذ تقع الإضرابات بنسبة متفاوتة في الأنشطة في يوم التعبئة الذي يحدث في يوم عمل (الثلاثاء) بجانب حدوثه يوم السبت الذي يحدد عادة للكل من الممارستين (التظاهر والإضراب). غير الإضراب مستمر بشكل تام في قطاع إنتاجي واحد وهو قطاع تكرير البترول وجزئيا في المواصلات وفي قطاع النظافة في بعض المدن. ولقد عبأت الدولة القوات المسلحة لجمع القمامة في مدينة مرسليا وأثار ذلك غضب المضربين عن العمل واعتبرت تدخل الدولة منافيا لحقوقهم الدستورية في الإضراب عن العمل. وإن كانت الدولة تجد بعض المخارج لمواجهة حدوث أزمة عامة باستيراد البترول من دول مجاورة فإن ذلك من الممكن التعرض له من قبل المضربين عن العمل بقطع الطرق لكيلا تصل الشاحنات إذا تصاعد الصراع مثلما يحدث في حالة رفض دخول منتجات زراعية مستوردة منافسة للمنتجات الفرنسية. التلاميذ والطلاب وهناك اعتبارات مهمة أخذتها النقابات في الاعتبار. إذ في حال شح البترول وشل كل الأنشطة فإنه قد يحدث تغيرا في الرأي العام ويجعله اقل مساندة لحركة الاعتراض لأنه يمس نشاط قطاعات واسعة من المواطنين. ومن أجل تلك المخاوف فان النقابات الكبري تقاوم وتبني شعار شل الاقتصاد بتفجير إضراب عام ومفتوح . ولا يمكن إغفال فاعلية دخول التلاميذ والطلاب في الحركة كمساندين للعاملين وكمدافعين أيضا عن مستقبلهم فهم الذين سيكتب عليهم العمل سنوات أطول من آبائهم أي 62 سنة بدلا من 60 الآن. ولكن دخول الشباب في حركة الرفض يفتح بابا للعنف باختلاط عناصر غاضبة من الشباب لا تنتمي في غالبيتها لقطاع الطلاب ويقع اغلبهم من فئة المهملين من قبل الدولة ويعانون من البطالة. لا إضراب شامل فواقع الحال يقول بوضوح أن القيام بإضراب عام شامل ومفتوح افتراضية بعيدة لا ترفعها النقابات ولا الأحزاب السياسية الأكثر جذرية مثل حزب "مناهضة الرأسمالية" الذي رأي في بداية الحركة احتمال وقوع "ثورة 68" مرة جديدة غير أن شعاره تحول سريعا بعد أن تبين أن مطلب النقابات الكبري هو فتح المفاوضات مع الحكومة من أجل التوصل لقانون مختلف. وللحرص علي وحدة الحركة النقابية كان من الضروري أن تخف حدة المطالب لتستمر التعبئة. وبناء علي تلك المعطيات نرصد التحول لدي "حزب مناهضة الرأسمالية" ليصبح مطلبه هو "تعميق النضال والحفاظ علي وحدة الحركة معا". في ظل تلك المعطيات تظل القضية الجوهرية الخاصة بلجوء الحكومة لبند من القانون يجبر العاملين المضربين علي العمل. وهو وإن كان يتنافي مع حق الإضراب الذي أقره الدستور فإن حق الإضراب خاضع في النهاية لما يمليه القانون. بمعني أن الكلمة النهائية تعود لتقديرات الدولة وللكيفية التي سوف يتم بها تفسير تلك الفقرة وتأويلها. وسوف يكون أمام القوة العاملة أحد الخيارين إما بالخضوع للقانون للعمل بدعوي أنها "قضية دفاع قومي" أو الرفض الجماعي لكل من تم استدعاؤهم. أي تعرضهم للسجن والغرامة. فماذا سيكون رد فعل النقابات والأحزاب المعارضة بل والشعب في أي من الحالين؟ هذا ما سترد عليه الأيام القادمة.