مناضلون يساريون محمد شطا «1» «هربت من القرية إلي المحلة هربا من الفقر، وهربت من المحلة هربا من الاعتقال». محمد شطا «من حواره معي» ولد في عام 1918 في قرية كفر قرشوم (محافظة المنوفية) الأب هارب من السخرة وعقاب الهارب من السخرة أن يضرب حتي الموت في غالب الأحيان. وتظل حكاية هرب ابيه سرا يغلف حياة الفتي ويمنحه طاقة نضالية لا تنتهي. ابوه كان ضمن عمال السخرة الذين اختطفوا قسرا من قراهم ليحفروا قناة السويس. الضرب والتعذيب والتجويع كانت أبسط العقوبات، واحد من زملائه المقربين انزلقت رجله خلال الحفر وحاولوا أن يمدوا له يدا لانقاذه. أن تمد يدا تعني أن تترك الفأس لدقيقة، لكن ذلك ممنوع، انهال كرباج الخولي، وأمرهم أن يستمروا في الحفر، وانهال التراب علي زميله ليموت رويدا رويدا أمام زملائه. ليلتها تجمع عدد منهم، وعلي رأسهم أبوه قرأوا معا الفاتحة وأكلوا معا عيشا وملحا وتعاهدوا عهد الله أن يهربوا معا وألا يفشي أحدهم سر ترتيبات الهروب. ويهرب الأب إلي كفر قرشوم حيث لا أحد يعرفه. والمثير للدهشة أنه ظل يخفي سره حتي بعد أن أصبح لا مبرر لاخفائه. لكن محمد ظل يغلي من داخله بهذا السر حتي آخر أيام حياته. الأب امتد به العمر إلي ما بعد التسعين بكثير وفي سن التسعين أو بعدها بقليل أنجب «محمد»، وفي أيام طفولته ذهب إلي الكتاب لكن العريف (زوج أخته) كان يقسو عليه كطلب الأب. فترك الكتاب والتحق بكتاب الشيخ قرموط في تلا. لكن المشوار اليومي أفسد عليه مشروعه لحفظ القرآن وتجويده. وفي عام 1927 (وهو في التاسعة) افتتحت في القرية مدرسة إلزامية . كان يحفظ عديدا من آيات القرآن ليتفوق بها علي تلاميذ المدرسة، ويصبح الأول دائما. الأب يزهو به ويحلم بابنه موظفا فكان يشتري له من سوق تلا كتبا قديمة، اغلبها ممزق وبلا غلاف لكنه كان يقرأها بنهم. لكن أحوال الوالد تتدهور وهو ملزم أن يتعلم وأن يساعده في الغيط. وذات يوم سمع المنادي ينادي «اللي عايز ياكل عيش يروح المحلة الكبيرة». هناك الاجر قرش واحد في اليوم والعمل 13 ساعة. والجدد لا يقبضون في الأشهر الثلاثة الأولي. واحتمل الاولاد مثله ينامون كل 24 في الغرفة. واذا لم تكفهم الغرفة يتمددون أمامها في الشارع. الجيران يغضبون من هذا القطيع من الغرباء الذين ملأوا الشوارع وأفسدوا هدوء المدينة . فشكل السكان فيما بينهم جماعات لضرب هؤلاء الغرباء وتطفيشهم من المحلة. والعمال شكلوا جماعات للدفاع عن أنفسهم وعن رزقهم. ففي المصنع يعملون في الظل وليس تحت شمس الغيط، والأجر ثابت صحيح قرش في اليوم لكنه مضمون. وبعد فترة يمكنه أن يعود للقرية يوم الجمعة ليزهو بجلباب جديد و«تلفيعة». وإدارة الشركة تخشي هي ايضا من هذا القطيع من العمال فوضعت خطة لإلهاء العمال عن أوضاعهم البائسة، وسعي عملاؤها إلي الوقيعة بين ابناء المديريات المختلفة خاصة أبناء المديريات الثلاث المجاورة للمحلة. المنوفية والغربية والدقهلية، وبعد فترة أصبح وبلا منازع فتوة ابناء المنوفية. وينغمس العمال في خلافاتهم وفي صراعاتهم حول ابطال المواويل القديمة. ابو زيد الهلالي وعنترة بن شداد وغيرهما. ويظل حلم أن يصبح مثل عنترة بن شداد يراوده. وعندما يتزوج وينجب ولدا وجد لزاما عليه أن يسميه شطا علي اسم والده لكنه ظل يناديه «عنترة» وأصبح يزهو وحتي نهاية العمر بلقب «أبو عنترة» . لكن الوعي العمالي ينبثق مجتمعيا من التجمع في صالات المصنع ومن الظلم الذي يعم الجميع ومن ظروف عمل اقل ما توصف به أنها بشعة. ومثل نبت تلقائي ينهض قائد عمالي اسمه محمد الكفوري يراقب العمال ليختار أكثرهم وعيا وأكثرهم شجاعة وكانت عينه بالطبع علي محمد شطا. وبدأوا معا في تأسيس نقابة سرية. ليست نقابة بالضبط وانما تجمع عمالي سري قادر علي تحريك مجموعات لا بأس بها من العمال في مختلف الصالات وهنا يستفيد المناضلون السريون من ترتيبات إدارة الشركة، فعمال كل مديرية لهم تجمعهم ويجلسون جميعا في قهوة خاصة بهم، بل كانت لهم علامات تميزهم فالجلابية الكستور المخططة تلزمها طاقية من ذات القماش. وتفنن الخياطون من ابناء كل مديرية في تمييز الطواقي، حتي يتميز الرجال بها. فبعض الطواقي تكون خطوطها بالطول وأخري بالعرض، وثالثة لها تفصيلة متميزة. وبهذا كان من السهل تجميع الكثيرين من الموثوق بهم. وكأن إدارة المصنع كانت تعمل لصالحهم. وتحت قيادة محمد الكفوري، وهو قائد تلقائي، يتحول الفتوة المنوفي محمد شطا إلي مناضل عمالي ينسي دور الفتوة وينسي الصراع بين أبناء المديريات المختلفة، المناضل العمالي يخوض الآن وبشكل تلقائي وبدائي جدا صراعا طبقيا . وتحركت المياه الراكدة، فالقيادة السرية لها في كل صالة مندوبون سريون وذوو نفوذ ، وتبدأ تحركات تتمرد ضد ظلم «مشرف» ما علي صالة ما وضد تشدده. وفي البداية كان الانتقام بدنيا. ففي المساء تتربص مجموعة ملثمة من العمال لتضرب هذا المشرف الظالم، أو تضرب عملاء الإدارة. ورويدا رويدا يتحول هذا الانتقام غير الواعي إلي صدامات جماعية داخل المصنع وإلي اضرابات تصحبها هتافات ضد الظلم وضد المشرفين والمديرين، وتحاول إدارة الشركة عبثا أن تتعرف علي الفاعلين. لكن تكرار العمل النضالي وبدائيته كشفت عديدا من الاسماء منهم محمد الكفوري ومحمد شطا. وفي هذه الاثناء قامت الحرب العالمية الثانية وأعلنت مع قيامها من الأحكام العرفية، وبدأت حملات اعتقال للعمال «المشاغبين». وذات مساء وفيما يخطو محمد شطا نحو البيت الذي يسكن فيه لمح من بعيد مخبرين يحاصرون البيت، وأيقن أنهم يريدون اعتقاله. فتسلل من المدينة ليركب أول قطار وكان متجها إلي كفر الدوار وهناك ووسط عمال النسيج وجد أن البعض يسمعون باسمه وبأنه فتوة عمال المنوفية، وبأنه يدافع عن العمال وتكاثرت الثرثرة البدائية المغلفة بمبالغات كبيرة وأحس بأن أعين الامن تتابعه، فهرب مرة أخري. وفي شبرا الخيمة يجد لنفسه مستقراً واستطاع أن يتحصن بهؤلاء الذين سمعوا به وبما فعل في المحلة. ولقنهم دروسا في حماية المناضلين من الأمن. وهنا في شبرا الخيمة ينهض قائد عمالي جديد متسلح بخبرة النضال العمالي في المحلة وكفر الدوار ومتخلص من النزعات الإقليمية ومن تصرفات «الفتوة» ويقول «أدركت أن مهمتي أن أقود الجميع من العمال ضد الجميع من الرأسماليين، لكنني لم أكن قد سمعت كلمة طبقة ولا عرفت معني ولا مغزي الصراع الطبقي. وفي شبرا الخيمة تلقفته منظمة الحركة المصرية للتحرر الوطني (ح.م). ليبدأ معها حياة جديدة ونضالا جديدا.