ولدت المعتقدات والقناعات الفلسفية والدينية السورية مواقف من الموت خاصة من محبته أو كرهه، أومن الخوف منه أو استسهاله، كما أدت إلي نشوء طقوس وتقاليد وقيم وعادات ترتبط بالموت، وتجعل منه وله مظاهر اجتماعية وطقسية بل مواقف نفسية وإنسانية، إرادية أو إلزامية، فرضت نفسها علي الناس جميعاً، ونتج عنها تفصيلات طاولت السلوك والتصرف تجاه حادثة الموت، وطقوس دفن الميت، والتعامل مع أهله وأحبائه، وإجراءات التعزية به، وتطبيق تعاليم الدين،والفقه، والعادات،والتقاليد، وتحديد عدد أيام الحداد،وما يجب عمله خلالها، واختلط في هذه الأمور الديني بالتاريخي،والطقسي بالفلسفي، والاجتماعي بالاقتصادي، والقيمي الأخلاقي بالسياسي، والمواقف الجادة بالمواقف المظهرية، ونشأت تشكيلة معقدة من الطقوس والعادات، كان السوريون دائماً يحافظون عليها،ويرتضون بها، ويرفضون تعديلها تعديلاً جوهرياً، ويكتفون ببعض التعديلات الشكلية التي لا تمس البنية والجوهر، وبقي الأمر كذلك، حتي قبل عام أو بعض عام أي إلي ما بعد انطلاق ثورتهم ببضعة أشهر، حيث صار الموت لكثرة القتلي جائحة تشبه جائحة المرض المعدي الذي يقف المجتمع أمامه عاجزاً عن فعل أي شيء، فتغير كل شيء. كان من تقاليد السوريين اعتبار المشاركة بعزاء أهل الميت واجباً لا يتدناه الشك ولايجوز إهماله، وكانوا يسارعون إلي بيت المتوفي، ويشاركون في الجنازة، وفي العزاء، ويحدد الأهل والأصدقاء من منهم سيقدم وجبات الطعام لأهل الميت خلال أيام الحداد الثلاثة، ورهبة الموت تغشي الجميع، ولعل التعاون والتضامن والمشاركة كانت تخفف علي أهل المتوفي وقع فقدان عزيز عليهم، وتفرض الروح الجماعية المتضامنة نفسها علي الجميع، لأن الوفاة تهم كلاً منهم. عندما كانت (الجنازة) تمر في شارع ما، يقتضي التقليد السوري أن يقف جميع الجالسين علي طرفي الشارع، ولعله تقليد إسلامي، فقد وقف الرسول (ص) عند مرور جنازة كتابي، ولما قيل له إنه غير مسلم قال ما معناه أليس إنساناً؟!، وإذا كان بعض هؤلاء الجالسين عسكرياً أوشرطياً أومن هو في حكمهما، لايكتفي بالوقوف بل يلقي التحية ويبقي يده مرفوعة حتي تمر الجنازة. كما هوحال معظم مجتمعات الأرض، كان موعد دفن المتوفي يؤخر حتي عودة أبنائه أو أخوته الغائبين ليشاركوا في جنازته، ويعلن في الصحف عن وفاته، ويذكرون في الإعلان بعض الصفات الاجتماعية المهمة ويطلقونها علي الميت، كأن يقولوا (عميد الأسرة، أو المحسن الكبير، أو يذكرون بعض الصفات الدينية أو العلمية ..الخ) كما يضّمنون (النعوة) أسماء الأقرباء والأنسباء حتي البعيدين منهم، ليظهروا أهمية أسرة المتوفي وأهميته هو، واتساع طيف (الناعين). وفي الخلاصة كان للموت رهبة وطقوس ثابتة ومحترمة، وإجراءات لاغني عنها،وبقي هذا كله ساري المفعول حتي مطلع العام المنصرم. أما الآن، وبعد أن تجاوز عدد الشهداء والقتلي، من المعارضين ومن أهل النظام المائة ألف قتيل، والمعتقلين أكثر من مئة وخمسين ألف معتقل، وفقد أكثر من ستين ألفاً معظمهم لم يعد حياً علي الأغلب، وبعد تدمير مئات آلاف البيوت في القري والمدن، وتشريد عدة ملايين، فلم يعد للسوريين الوقت لدفن موتاهم، أو توديعهم بالطقوس المعتادة، أو إقامة التعزية، أوحتي خروج الأهل والأصدقاء والجيران والمعارف بالجنازة لتوديع المتوفي وإيصاله إلي مثواه الأخير، ولم يعد السوريون ينشرون إعلانات الوفاة، كما لم يعد أحد يهتم إن مرت جنازة أو لم تمر، ويكتفي عندما يأتيه خبر موت أحدهم، سواء كان صديقاً أو ابن صديق أم من معارفه بطلب الرحمة للمتوفي، وحتي مواعيد التعزية، التي كان التقليد السوري يحددها بين (المغرب والعشاء) صارت (بأوامر الأمن) في مواعيد أخري، يجب أن تنتهي قبل غروب الشمس، وعلي أية حال أصبح عدد المعزين لايتجاوز العشرات إلا في حالات نادرة. ولكن الأصعب من ذلك والأكثر إهانة للمتوفي وأهله، هو أن الحواجز الأمنية تفتح (تابوت الميت) وهو في طريقه إلي مثواه الأخير، لتتأكد من خلوه من المنفجرات. وهكذا أصبح الموت في سورية ظاهرة عابرة، جردتها الأحداث من رهبتها ومن إطارها الاجتماعي والإنساني، حتي صار البعض يرسل الميت العزيز إلي مثواه الأخير دون أن يرافقه، ويوصي به رجال دفن الموتي، هذا إضافة إلي صعوبة نقل المتوفي من مدينة أو محافظة إلي أخري والاضطرار لدفنه في مكان وفاته، وقد سمعت حفار قبور يقول لأهل متوفي، إنه في ضيافتنا حتي تسمح الظروف بنقله. لقد تغيرت مفاهيم السوريين وأفكارهم عن الموت، كما تغيرت طقوس الموت التي يمارسونها، وكما خفت انفعالاتهم تجاه القتلي والمشوهين والمعذبين، خفت كذلك تجاه الأعزاء المتوفين، ويبدو أن كل سوري أصبح الآن ينتظر موته، وربما لم يعد يبالي سواء توفي أم لا, إن السوري الآن لايحب الموت ولكنه لايخافه، ولعلها قيمة أخري تضاف إلي حزمة قيم جديدة حلت علي السوريين منذ بدء ثورتهم حتي الآن.