مناضلون يساريون محمد خليل قاسم (2) قل رأيك، وحارب الخطأ بقسوة، حتي ولو غضب منك الجميع، فأي مناضل هذا الذي لا يستطيع أن يواجه العالم كله برأيه؟. محمد خليل قاسم «في حوار استحثني فيه أن أنتقده بصراحة» ومنذ اللحظة الأولي لسكناه معي هاربا من الأمن بدأ جلسات حوار ونقد شديد لأسلوبنا في العمل عندما عملنا وحدنا زمنا نعارض «الديكتاتورية العسكرية» بعيدا عن إشراف قيادة لا نجد سبيلا للاتصال بها، كان نضالنا يتلخص آنذاك في الكتابة علي الجدران وكان الأمر يتطلب حذرا وشجاعة لكنه دقق في الشعارات المكتوبة ووجد أخطاء وشدد في انتقادها، وفحص أساليب تحركنا وكيفية تأمين عملية الكتابة وانتقدها بعنف وبدوت وأنا الذي كنت أزهو بأنني مسئول كل هؤلاء المناضلين الشبان كأنني تلميذ في محراب شديد القسوة، احتملت النقد فقد أحببت في الرجل إخلاصه وصراحته وصرامته، واحتفظت لنفسي سرا بالحق في نقده إن أخطأ.. وبعد أن تفرقت بنا السبل هو غادرنا إلي منزل آخر ثم قبض عليه ليرسل إلي السجن الحربي وأنا قبض علي لأذهب إلي سجن مصر، التقينا وكان «بيان السجن الحربي» وهو بيان أصدره رفاقنا القادة السجناء يحيون فيه تقارب عبدالناصر مع الاتحاد السوفيتي، وقام كل السجناء في سجن مصر بهجوم كاسح علي القادة الذين أصدروا البيان وتعالت الاتهامات بالخيانة، أنا رفضت البيان ورفضت التخوين، وجلست إليه قلت لدي انتقادات شديدة وأتردد في قولها فهاج محرضا إياي أن أواجه العالم، كله بما أعتقد أنه صائب.. وهكذا تعلمت منه درسا ثمينا،وتتفرق السبل مرة أخري، هو إلي سجن طرة وأنا إلي سجن القناطر، لكننا وإذ نلتقي نجد صداقتنا وقد نمت أكثر وأكثر.. وإذ استقر بنا المقام في سجن «جناح» تتلمذت تماما علي يديه، أمرني أن أتعلم الإنجليزية وبذلت جهدا خارقا، وأمرني أن أخوض غمار الترجمة وأعطاني مقالا من صفحتين ووجد في الترجمة أكثر من مائة غلطة، وأمر بإعادة الترجمة وأعدتها، ثم أعدتها، ثم بدأت الترجمة تستقيم بقليل من الأخطاء، وأمرني أن أحفظ الشعر وحفظت، وأمرني أن أجرب كتابة التحليل السياسي وفعلت، باختصار كان يقوم بصناعتي، وفي هذه الأثناء صدر قرار بفصل كل السجانين الذين لا يتعلمون القراءة والكتابة إما الحصول علي شهادة محو الأمية أو الفصل، السجانون كانوا في الأغلب متوحشين وعند الأوامريضربون بقسوة وكأنها خصومة شخصية، وأكثرهم عذبنا في سجن القناطر وأبوزغبل وطرة ولهذا ارتفعت نغمة وسطنا بألا نعلمهم نتركهم للفصل فهم أعداء طبقيون، هو لقنني درسا آخر.. هم مساكين مقهورون مثلنا وما أسهل أن نكسبهم إلي صفنا، وافتتح فصلا وفصلا ثانيا، والسجانون يأتون لفترة ويرحلون، وكل من يرحل يكون قد تعلم.. وأسماه السجانون «حضرة الناظر» وظل هذا اسمه حتي أفرج عنا، والمثير للدهشة أن مصلحة السجون اعترفت بمدرسة حضرة الناظر وبالشهادة التي يوقعها كشهادة رسمية لمحو الأمية، ونفترق لنلتقي مرة ثانية في سجن المحاريق، هو أصبح قائدا ناضجا تماما وأنا تعلمت كثيرا من دروسه الجادة والقاسية، كان العمر يتقدم بي وبه، وأحسسنا بأن العمر يتسرب من بين أيدينا، وبدأنا فصول تقوية مكثفة، كل منا يستحث الآخر، قرأنا دواوين شعر عديدة، حفظنا قصائد بلا حصر، قرأنا القرآن عديدا من المرات ثم سألته لماذا لا تكتب مذكراتك؟ وتناقشنا في لماذا؟ وكيف؟ ومتي؟ واستقر الأمر علي أن يسجل تاريخ النوبة في رواية، وبدأ في كتابة «الشمندورة» والمشكلة لا أوراق، فالكراسات شحيحة وبدأ الكتابة علي ورق شكاير اللبن الجاف، وهي شكاير تشبه شكاير الأسمنت، وفصلا فصلا أقوم أنا بنسخها علي ورق البافرة بخط دقيق جدا، وفيما هو يكتب كلفني بترجمة كتاب «أضواء علي الهند الصينية» ثم هو يراجع الترجمة فصلا فصلا، وأنا أكتب له علي البافرة فصلا فصلا، وعندما انتهيت من ترجمة أضواء علي الهند الصينية قال مكشرا عن أنيابه ترجمت كتابا سياسيا لكن الترجمة الحقيقية هي ترجمة الأدب وأحضر لي رواية «الأرض» لإميل زولا، وانهمكت فيها وانهمك هو في «الشمندورة» وفي مراجعة الترجمة، وانتهت كتابة «الشمندورة» وبدأت مشكلة كيف؟ وأين؟ كيف نهربها خارج السجن؟ وأين تحفظ وتم تهريبها إلي ليلي الشال «ولم نكن قد تزوجنا بعد» وهو يعيش حالة قلق دائم، فماذا لو أنها ضاعت؟ وأطمئنه، وأعيد طمأنته وهو لا يطمئن، حتي أفرج عنا وسلمت لفافات البافرة له، لكن نظره الضعيف لم يلتقط الأحرف الصغيرة، فكتبتها له في كراسات، وصدرت «الشمندورة» لتحدث ضجيجا، وتذاع مسلسلا في صوت العرب، وتزهو بها كل الأندية النوبية في ندوات لا تنتهي، أما هو فقد خرج من زنزانة السجن الضيقة إلي غرفة أصغر معلقة فوق سطح في تجمع نوبي بالقرب من سوق الجمال في إمبابة، زرته هناك عندما قرر أن يتزوج قدمت له هدية لم أجد لها مكانا توضع فيه، الغرفة لم تحتمل المروحة التي حملتها معي، أخته فرحت جدا بها، أما هو فقد اكتفي بابتسامة سرير وحصيرة ووابورجاز وفقط وحمام مشترك، وعندما صدر قرار الحل زارني، ارتمي في أحضاني باكيا، قائلا لم أبك عندما مات أبي ولا عندما سمعت بموت أمي، أما أن يموت الحزب فأنا يتيم حقا، وفيما يقترب يوم زواجه قرر القلب الجميل أن يتوقف، اخته احتارت جارتهم أحضرت بصلة كسرتها ووضعتها قرب أنفه لم يعد يتنفس.. فالفقراء يموتون غدرا ودون علاج. رحل محمد خليل قاسم لأفقد أستاذي وصديقي.. وهو صديق لا يتكرر.