قبل أيام نشرت مؤسسة «بيو» الأمريكية لاستطلاع الرأي العام الأمريكي بشأن «الشعب والصحافة» نتيجة استطلاع أجرته مؤخرا حول موقف الأمريكيين من كل من الرأسمالية والاشتراكية. جاءت النتيجة - في توجهها العام - بمثابة مفاجأة لخصها خبراء «بيو» في سطر واحد «الاشتراكية ليست سلبية كثيرا، والرأسمالية ليست إيجابية كثيرا»، وعنصر المفاجأة هنا نابع من حقيقة أن الاعتقاد الذي ساد في المجتمع الأمريكي لعشرات كثيرة من السنين هو أن الأمريكيين ينظرون إلي الاشتراكية علي أنها شيء سيئ، وينظرون إلي الرأسمالية باعتبارها شيئا جيدا. في التفاصيل المذاعة من هذا الاستطلاع نجد أن نسبة الذين يرون الاشتراكية إيجابية بين الأمريكيين بشكل عام بلغت 29 بالمائة، أما بين الأمريكيين من ذوي الميول الديمقراطية «نسبة إلي الحزب الديمقراطي» فبلغت هذه النسبة 44 بالمائة، وبين الأمريكيين من ذوي الميول الجمهورية «نسبة إلي الحزب الجمهوري» لم تتخط نسبة الذين ينظرون بإيجابية إلي الاشتراكية نسبة 15 بالمائة، أما بين المستقلين فتبين أن نسبة 26 بالمائة تنظر إلي الاشتراكية نظرة إيجابية. التقدمية والإيجابية في الوقت نفسه فإن الاستطلاع أظهر أن «التقدمية» تحظي بنسبة 68 بالمائة من الأمريكيين بوجه عام ينظرون إليها باعتبارها شيئا إيجابيا، مقابل 81 بالمائة بين الديمقراطيين و56 بالمائة بين الجمهوريين و64 بالمائة بين المستقلين فماذا عن النظرة إلي الرأسمالية؟. أظهر الاستطلاع أن نسبة 52 بالمائة من الأمريكيين بوجه عام ينظرون إليها نظرة إيجابية، مقابل 47 بالمائة بين الديمقراطيين و62 بالمائة بين الجمهوريين، وبلغت النسبة 52 بالمائة بين المستقلين. وقد تبدو هذه النسبة «غير مشجعة» بالنسبة لقارئ اشتراكي أو يؤيد الاشتراكية ويري السلبيات التي ينتجها النظام الرأسمالي في المجتمع، ولكن هذه النسبة نفسها تدل علي حدوث تطور باتجاه رفض الرأسمالية وقبول الاشتراكية في المجتمع الأمريكي بعد عقود طويلة من اتخاذ مواقف عدائية من مفهوم الاشتراكية بحد ذاته والتسليم للرأسمالية بأنها النظام الأفضل. والنسب الجديدة - خاصة إذا استمرت في الاتجاه نفسه في السنوات القادمة نتيجة لأزمة النظام الرأسمالي العالمية - تمثل نوعا من العودة إلي الاهتمام بالاشتراكية وقبول نقد الرأسمالية كما كان الوضع الذي ساد في العقود الأولي من القرن العشرين، قبل أن تشن القوي الرأسمالية هجمتها الوحشية علي الاشتراكية والاشتراكيين في اتجاه المجتمع الأمريكي ضمن حملة «المكارثية» أو ما سمي وقتها «الحملة علي الخط الأحمر». وتأتي هذه التحولات في مواقف الرأي العام الأمريكي ناقضة تماما لعدد من استطلاعات الرأي العام - التي تجريها مؤسسات إعلامية يمينية في الغالب - والتي تحمل معها «اتهامات» ضد الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما بأنه «اشتراكي» حيث تستخدم الكلمة بمعني سلبي بحت، وقد أجرت شبكة تليفزيون سي. بي. إس بالاشتراك مع صحيفة نيويورك تايمز استطلاعا في شهر أبريل الماضي انتهت نتائجه إلي أن 52 بالمائة من الأمريكيين يعتقدون أن الرئيس أوباما يسوق البلاد نحو الاشتراكية وهو تطور تنظر إليه هذه الأغلبية علي أنه يتسم بالخطر. وقد علق المؤرخ الأمريكي الشهير هوارد زين - قبل وفاته - في خاتمة كتبها بكتاب بعنوان «القضية من أجل الاشتراكية» من تأليف الاشتراكي الأمريكي آلان ماس علي الموقف السائد في الإعلام ضد الاشتراكية بوصفه بأنه موقف «يكشف عن انتقاد عميق إلي المعرفة عن الاشتراكية والصراع الطبقي ونظريات الحكم» وذكّر المؤرخ الكبير الأمريكيين في هذه الخاتمة بأن العقود الأولي من القرن العشرين كانت تشهد اشتباكا واسعا لأعداد ساحقة من الأمريكيين بوعد الاشتراكية، فقد كان أكثر من مليون شخص يشتركون في صحيفة «نداء العقل» وكانت صحيفة اشتراكية أمريكية نشرت خلال الفترة من عام 1897 إلي عام 1922، وأن مطبوعات اشتراكية أخري مثل «الجماهير الجديدة» و«نداء العمال» و«النداء» كانت تتمتع بشعبية واسعة إلي أن أجبرها علي الإغلاق اجتماع حملة الاعتقالات ضد «الحمر» والانهيار الاقتصادي، وقبل هذه الحملة كان الحزب الاشتراكي «الأمريكي» يضم أكثر من 100 ألف عضو وكان له 1200 مسئول منتمون في 340 من البلديات، وكانت الاشتراكية قوية بشكل خاص في الجنوب الغربي الأمريكي، خاصة بين المزارعين وعمال السكك الحديدية وعمال مناجم الفحم وعمال مصانع الخشب. وكان المعني الكامن في هذا الختام الذي كتبه هوارد زين هو أن هذا الوضع الذي كان سائدا في أوائل القرن العشرين قابل لأن يحدث مجددا والآن، وهو يتساءل: ولم لا؟. ويقول آلان ماس في هذا الكتاب إن الرأسمالية لم تعد تعمل، لا في الولاياتالمتحدة ولا في غيرها من أنحاء العالم، فالمعاناة متغلغلة في كل مكان، فإن نصف سكان العالم - أي أكثر من ثلاثة مليارات نسمة - يعيشون علي أقل من دولارين ونصف الدولار في اليوم، ومليار نسمة يعانون من سوء التغذية.. واثنان بين كل خمسة من سكان العالم يفتقرون إلي ماء الشرب وواحد بين كل أربعة يفتقرون إلي الكهرباء. ويضيف ماس: «في عام 2009 امتلك 793 مليارديرا في العالم ثروة إجمالية تساوي 4.2 تريليون «ألف مليار» دولار، وهذا يعادل نصف إجمالي الإنتاج المحلي لكل بلدان جنوب الصحراء في أفريقيا». وهذا معناه أن ثلاثة مليارات نسمة يملكون مصادر أقل من تلك التي يملكها 793 شخصا غيرهم (...). في الوقت نفسه فإن حكومات العالم تنفق سنويا أكثر من تريليون دولار علي الحروب، والميزانية العسكرية الأمريكية للعام الحالي تبلغ 664 مليار دولار، وبرنامج الأسلحة النووية الأمريكي في الوقت الذي يجري فيه بحث إخلاء العالم من السلاح النووي بلغ في عام 2008 أكثر من 52 مليار دولار. وقد أظهرت نتيجة استطلاع آخر للرأي العام الأمريكي أجرته صحيفة يو. إس. إي. توداي بالاشتراك مع مؤسسة جالوب وجها آخر للتطور الذي يمر به الرأي العام الأمريكي إذ ظهر هذا الاستطلاع أن غالبية الأمريكيين في حالة يأس من الحاضر، ولكنهم في حالة حماس بالنسبة للمستقبل، إنهم يشعرون أن الأزمة تضربهم بنفسهم وتزيد من حالات البطالة والإفلاس، وبأن البلاد تسير في الطريق الخطأ مع ذلك فإنهم علي ثقة من أن الآتي سيشهد أوقاتا أفضل، ذلك أن النظام الرأسمالي يحتضر وأمريكا تسير نحو خراب مالي، علي الرغم من أن القوة والثروة يخلقان إحساسا زائفا بالمناعة، والجشع «المرتبط بالرأسمالية» يستهلك أمريكا، أما الآتي فيتطلب - في نظر غالبية الأمريكيين في هذا الاستطلاع - استعدادا للعمل الحقيقي، لا للمقامرة، استعدادا لإطلاق الثورة الأمريكية الثانية، وهذه لابد أن تبني علي استراتيجيات بناءة ومتفائلة. في هذا الاتجاه نفسه كتب بيل كويجلي المدير القانوني لمركز الحقوق الدستورية وأستاذ القانون في جامعة لويولا بولاية لويزيانا الأمريكية «أن هناك 15 سببا للتأكيد أن الوقت قد حان لثورة أمريكية» وأول الأسباب أن الحكومة الأمريكية لم تعد تعمل لصالح المواطنين العاديين، إنما يبدو أنها تعمل جيدا لصالح المؤسسات الكبري والبنوك وشركات التأمين والمقاولين العسكريين وجماعات الضغط «اللوبي» أي للأغنياء والأقوياء. لماذا أنا اشتراكي بين الأسباب الأخري التي يسوقها كويجلي أن أكثر من 8.2 مليون أمريكي قد فقدوا مساكنهم في الأزمة الاقتصادية الراهنة خلال عام 2009 وحده، وملايين أخري سيفقدون مساكنهم خلال السنتين القادمتين، وبينها أيضا أن الولاياتالمتحدة متورطة في حروب لا معني لها في العراق وأفغانستان وباكستان، وفي الوقت نفسه تحتفظ ب 700 قاعدة عسكرية في أنحاء العالم و6 آلاف قاعدة داخل الولاياتالمتحدة وهي تنفق 700 مليار دولار سنويا إنفاقا مباشرا علي الأغراض العسكرية، وهذا نصف الإنفاق العسكري للعالم كله، بالإضافة إلي هذا فإن أعداد الأمريكيين المودعين في السجون ارتفع إلي سبعة أضعاف ما كان عليه في عام 1970 ليصل إلي 3.2 مليون شخص، وهي النسبة الأعلي من السكان بالمقارنة لأي بلد آخر في العالم. يتذكر المحرر لدي قراءة هذه المواد الآن ما كتبه الاشتراكي الأمريكي الأشهر ومرشح الرئاسة السجين نورمان توماس تحت عنوان «لماذا أنا اشتراكي»: «إنني أعتقد أني في الاشتراكية - اليوم ولأجيال قادمة - يكمن أفضل ما نتمني، إنها بالفعل أملنا الوحيد في الوفرة والسلام والحرية.. أنا اشتراكي لأنني أؤمن بأنه في الاشتراكية يكمن إفلاتنا من دائرة طويلة من الفقر والديكتاتورية والحرب» (1929).