عالج الدكتور قدري حفني في المقالات الثلاثة السابقة قضية التعذيب السياسي من كل زواياها السيكولوجية والاجتماعية وبخاصة مدي تقبل المجتمع لها، وموقف طرفي العملية أي الذين يمارسون التعذيب وضحايا التعذيب ، وفي هذا المقال الأخير يتوسع الكاتب في شرح وتحليل مفهوم الطاعة الخبيثة الذي كان قد عرض له في مقال سابق. لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة "طاعة خبيثة" تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، وحاول ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلي ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: AGENTIC STATE وهي مشتقة من مصطلح "العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب AGENT" بمعني أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة حتي لقوة معنوية غير منظورة، وأنه في هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، وبالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتي أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر؛ وحتي أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة ( لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها بمعني أنهم إنما يحرصون علي إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلي المستوي الأعلي وهكذا. لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف قرن عالم النفس الشهير اريك فروم الذي أصدر كتابا ذاع صيته وتجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف, وكان عنوانه "الهروب من الحرية". لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الديكتاتور العنصري الذي لم يخف يوما عنصريته أو ديكتاتوريته. وهاجر فروم من وطنه الأصلي ميمما صوب الولاياتالمتحدةالأمريكية حصن الحرية وملاذ الأحرار, ولم يمض زمن طويل وإذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. وتوصل فروم إلي أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي الاجتماعي الاقتصادي يشكل أبناءه وينشئهم علي النفور من الحرية, بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق, ويسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف "البطل" الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها, فيسارعون إلي الالتفاف حوله والسير وراءه والانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد. ربما بدا الأمر للوهلة الأولي متناقضا يصعب التسليم به, فالدول والجماعات جميعا وبلا استثناء واحد ومهما تكون بشاعة وحشيتها، تعلن أنها محبة للحرية ساعية لتحقيقها. ولو نظرنا في بلادنا لوجدنا جميع التيارات السياسية المشروعة وغير المشروعة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تعلن جميعا أن الحرية هي الهدف المقدس والنهائي الذي تسعي إليه. فلنقترب قليلا من شعارات الدعوة للحرية في بلادنا ولدي غيرنا أيضا، لنكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة "و لكن". نحن مع الحرية طبعا ولكن لسنا مع الفوضي. الحرية كل الحرية للشعب ولكن لا حرية لأعداء الشعب. الحرية للوطنيين الحقيقيين ولكن لا حرية للعملاء والمندسين. كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة ولكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة. كل الحرية لأنصار التقدم ولكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف. الحرية قيمة مقدسة ولكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية والوطنية. الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله، ولا حرية لغيرهم من الكفرة والمنحلين. وحتي داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية ولكن لا حرية لأعدائها أنصار الحكم المطلق. قد تبدو كل تلك الشعارات براقة حتي نصل إلي تلك الكلمة المفتاحية "و لكن", فإذا ما تساءلنا وكيف يمكن التفرقة؟ من الذي يستطيع الفرز والتمييز؟ كان جوهر الإجابة أن صاحب الشعار هو المرجعية الأولي والأخيرة للتمييز بين العملاء والوطنيين, بين الأفكار البناءة والهدامة, بين التقدميين والرجعيين, بين الثوابت والمتغيرات الدينية والوطنية. خلاصة القول إن إدانة التعذيب والتصدي له واجب مقدس، ولكن اجتثاث الجذور أو تجفيف المنابع الثقافية المغذية له ينبغي أن تكون فرض عين علي الجميع، بحيث نجرد أنفسنا قبل غيرنا من نزعات تقديس العنف وتقديس الطاعة، وأن نؤكد لأنفسنا ولغيرنا أنه لا استثناءات في إدانة التعذيب إيا كات نوعية الجرائم إنها معركة صعبة تحتاج إلي نفس طويل.