نعيش الآن عصر «اليوتوبيا الشعبية» بعد انهيار عصر الطغاة حوار: عيد عبدالحليم الشاعر اللبناني بول شاوول مغامر شرس، مولع بالتجريب، وبمزج الأشكال الإبداعية فلا يقف نصه الإبداعي عند حدود معينة، فهو يكتب ما يمكن أن يسمي «النص المفتوح»، عبر لغة سوريالية، وقد تجلي ذلك منذ أعماله الأولي «أيها الطاعن في الموت» 1974، و«بوصلة الدم» 1977 و«وجه لا يسقط ولا يصل» 1980، مرورا ب «الهواء الشاغر» 1985، و«موت نرسيس» 1990، و«أوراق الغائب» 1992، و«كشهر طويل من العشق» 2001، و«نفاد الأحوال» 2002 وصولا إلي «دفتر سيجارة». وقد عمل «شاوول» وهو طالب في ترجمة الأفلام السينمائية الغربية مما جعله مولعا بالصورة التي استفاد منها بعد ذلك في الكتابة الشعرية والمسرحية، والنقدية أيضا.. كذلك هو عاشق للغة، ويراها، هي المحرك الأساسي لأي عملية إبداعية، لذا سألناه في البداية.. كيف تري اللغة؟ اللغة هي جوهر العملية الإبداعية، وأنا هنا أتحدث عن اللغة الموجزة المكثفة، فالقصيدة المكثفة مثل الفراشة، وعلي المتعامل معها أن يعاملها معاملة الجواهرجي، لذلك تكثيف اللغة يأتي من قوة الشاعر وقد حاولت، علي سبيل المثال في ديوان «وجه لا يسقط ولا يصل» أن استغل البياض كجزء من اللغة. وفي النهاية فإن الشاعر لا يقصد ما يكتب، ولا يهندس مشروعه، فالصورة تكفي عن كل شيء. هناك عدد كبير من الشعراء والأدباء اتجهوا للكتابة عن الثورات العربية.. كيف تري هذا الجانب، ولماذا لم تكتب في هذا المجال؟ بعد الثورات – تماما – أوقفت إصداراتي الشعرية كلها، وقلت في نفسي أي ديوان شعري يستطيع أن يصور الملاحم العربية التي قامت بها الشعوب الثائرة التي وقفت في وجه الطغاة؟ وجيلنا هو جيل الانتظارات، لكن من الجميل أنني قبل أن أموت كحلت عيني بنصر الشعوب المظلومة علي الطغاة الظالمين مثلما فعل الشعب المصري والليبي والتونسي، أمام هذا الجمال الإنساني، أنا انسحبت كشاعر وقلت: «الشعر في مكان آخر» وأعيش الآن كمواطن أشاهد، لأن الشعر لو خرج ليعبر عن هذا الحدث الكبير فسيخرج قزما، أنا الآن لا أكتب إلا سياسة، عقلي وقلبي مع الثورات العربية، ولا وقت للكتابة عن الحب والعاطفة، أنا ضعيف أمام هذه الثورات، لأنه لأول مرة في التاريخ تظهر قوة الشعب ويصبح مسئولا عن ثورته ولأول مرة كذلك ينتخب حكامه. هناك شعراء يكتبون مع الثورات – ومعهم حق – لكن هذه وجهة نظري. المسرح بالنسبة لك هو قرين للحالة الشعرية، كيف تري تجربتك فيه؟ المسرح بالنسبة لي قصة حياة، فأنا شغوف به، أنتقل للدول العربية من أجل المسرح، وقد خدمني المسرح كثيرا في الشعر. وأنا شخص قارئ للمسرح بشكل جيد، وأكتب النقد بشكل دوري عن عروضه وقضاياه وأعرف جيدا مدي أهميتها كعنصر مهم في الحياة الإبداعية. وأنا لا أكتب بطريقة تقليدية، لكني أحاول – دائما – أن أكتب بشكل مختلف، بحيث أراعي في طريقة الكتابة ما تم إنجازه في الكتابة التقليدية مع إعطاء مساحة واسعة للتجريب، وأري أن المسرح يختلف عن الرواية كثيرا فهو يختصر الزمن في اللحظة الأخيرة، وأعتبر أن كل مسرحية هي رواية في حد ذاتها تعيش لحظة قدرية، وهكذا كانت مسرحيات «الساعة خمسة» و«فناص يا خناص» و«ميتة تذكارية» و«المتمردة» وغيرها، فأتبني في مسرحياتي لحظة واحدة تكتمل فيها كل اللحظات. يري البعض أن المسرح العربي يمر الآن بحالة من التراجع.. هل أنت مع هذا الرأي؟ عاش العالم العربي قبل ذلك وقتا عصيبا نتيجة غياب الحريات في بعض بلدانه، وإن كانت هناك أعمال مسرحية وصلت إلي العلمانية في مصر وتونس والمغرب ولبنان وسوريا خاصة في السبعينيات، أما الآن فهناك فجوة بين الجمهور والقائمين علي العملية المسرحية ويرجع ذلك إلي أن كل شيء جديد لا يقبله الجمهور، وربما يحتاج هذا الجديد إلي وقت طويل حتي يتقبله الجمهور الذي يأتي للعرض ليري مسرحية يعرف أولها من آخرها، بينما التجريب يقدم فكرة مجنونة لا يعرفها الجمهور جيدا، ومن هنا تولد الفجوة. هذا علي مستوي النص المقدم، وعلاقته بالجمهور لكن الأهم هو غياب الدعم المادي للمسرح، فالمسرح عمل جماعي يحتاج إلي دعم وتمويل وبناء فضاء مسرحي بمكوناته المتعددة وهذا عمل المؤسسة والدولة، فعلي الدولة أن تدعم القائمين علي المسرح من خلال توفير معيشة كريمة لهم حتي يتفرغوا لإبداعهم. المثقف والشارع يشير الكثيرون إلي غياب دور المثقف عن الشارع.. خلال السنوات الماضية، فما هي الأسباب من وجهة نظرك؟ دعنا نقول بصراحة إن الشكل قد كان مسيطراً علينا فالمشهد كان أقوي من المضمون، والفكر والفلسفة العربية كانت بعيدة عن المجتمع إلا في استثناءات قليلة، كنا دائما نعتمد علي النظرية أولا، وأن نعمل لها مسبقا، فاليوم كل المدارس الفنية والشعرية والسوريالية كل نظرية كانت تعطي جوابا بينما الجواب يأتي ثانيا بعد السؤال، والمنطقي أن تأتي النظرية بعد العمل. نحن الآن بعد الثورات العربية نعيش ما يسميه «جرامشي» «الكتلة التاريخية» التي تجمع العامل والفلاح والصانع، هذه الثورات لم يفجرها المثقف، مع أنه كان هناك مثقفون دفعوا ثمنا كبيرا في مصر ولبنان وسوريا، اليوم الثورة العربية بدأت من الشارع وليس من نظرية فكرية، الآن عادت «اليوتوبيا» الشعبية، بعد زمن طويل استشري فيه الطغاة وقتلوا صراع الأفكار والتعدد السياسي. حالة الحنين في ديوانك «دفتر سيجارة» حالة من النوستالجيا، عبر كتابة أقرب للملحمية، ما الذي دفعك لتأليف كتاب كامل عن السيجارة؟ هذا الكتاب كتبته عام 2009 ودونت به كل ثقافتي حول السيجارة، التي شاركتني كل شيء في الحياة، ففي كل انتقالة تاريخية تواجدت، فالديوان هو مرثية للحضارة بمعني من المعاني، فالسيجارة كانت مشهدا متكررا في المسرح والسينما والتليفزيون، وبالنسبة لي السيجارة تحمل المتعة والخوف، وتحمل كذلك معني «هشاشة العالم».