حگاية جيل! كانت سنوات عملنا في «أخبار اليوم» تحت رئاسة إحسان عبدالقدوس.. هي العصر الذهبي لهذه المؤسسة العريقة.. لأن إحسان علمنا الحب!. بوفاة الدكتور رفعت كمال.. انتهي جيل من رواد الصحافة المتخصصة.. الذين بدأت بهم وانتهت بانتقالهم إلي رحمة الله. هذا الجيل من الرواد دخل الصحافة عندما كانت تعتمد علي أصحاب المواهب.. وعلي حرص أصحاب الصحف علي تنوع المادة الصحفية التي تقدمها للقارئ.. وكان الواحد منهم يتقاضي مكافأة شهرية قدرها خمسة جنيهات. وعندما قرر الصحفي الكبير مصطفي أمين.. صرف هذه المكافأة.. اجتمع بهم.. وكانوا من شباب الجامعات وقال لهم.. إن أخبار اليوم مدرسة صحفية.. وأنتم التلاميذ في هذه المدرسة.. وجرت العادة أن يدفع التلميذ مصروفات لصاحب المدرسة.. ولكننا في مدرسة «أخبار اليوم».. سوف نخرق هذه القاعدة.. ولن نحصل منكم علي مصروفات دراسية.. وإنما سندفع لكل واحد منكم خمسة جنيهات كل شهر.. كي يتمكن من الانتقال لمواقع الأحداث.. وموافاة المدرسة بآخر الأخبار. وكاد أصحاب المواهب من شباب الجامعات يصفقون فرحا.. لمجرد قبولهم كمتدربين في بلاط صاحبة الجلالة. في هذه الفترة في منتصف خمسينيات القرن الماضي عرفت الصحافة المصرية المندوب الصحفي «المتخصص».. وبما أن رفعت كمال.. كان طالبا بكلية الطب فقد تم اختياره مندوبا في وزارة الصحة، وأن ينضم إلي القسم العلمي الذي كان يرأسه الزميل الراحل صلاح جلال ويضم الزميل وجدي رياض. كان لأخبار اليوم مندوب في كل موقع علي أرض مصر، ومن أشهرهم مندوب الأخبار في حديقة الحيوان الزميل الراحل جميل عارف ومندوب الأخبار في المحاكم الشرعية الزميل النابغة السعدي الذي كان يمتلك سيارة شيفروليه.. ولديه سائقه الخاص.. ينتقل به في الصباح من منزله في منشية الكبري إلي المحكمة الشرعية.. ويتابع قضايا الزواج والطلاق.. ثم ينتقل به إلي الصحيفة ليسلمها حصيلة اليوم من القضايا.. ثم يعود به مرة أخري لمنزله.. بسيارته الشيفروليه. كان الصحفي المتخصص هو عماد المدارس الصحفية الحديثة.. في تلك الأيام. كان رفعت كمال.. هو عين أخبار اليوم في وزارة الصحة ومستشفياتها.. علاوة علي متابعته لأخبار المراكز العلمية.. الأمر الذي زوده بدائرة كبيرة من المصادر الصحفية.. مكنته من عقد صلات صداقة مع جميع نجوم الصحة والعلوم في مصر.. فارتبط بعلاقات قوية مع أساتذة علوم البحار وأساتذة الجيولوجيا.. وخبراء الذرة في إنشاص.. والعلماء في مجالات الزراعة والتغذية وعلماء النفس.. إلخ. وكانت لرفعت كمال قدرة فائقة علي تحويل المادة العلمية المعقدة لمادة شعبية لها جمهورها من البسطاء.. واسمعوا هذه الحكاية.. كان المغفور له إحسان عبدالقدوس رئيسا لتحرير أخبار اليوم.. بعد صدور قانون تنظيم الصحافة، واعتقال الراحل الكبير مصطفي أمين.. وتوجه رفعت كمال.. لمكتب الأستاذ إحسان يقترح عليه إجراء حديث مع أم كلثوم تتحدث فيه عن أمراضها. وقال رفعت للأستاذ إحسان.. إنه يعرف زوجها وتربطه به علاقة قوية تسمح له بأن يطلب منه تحديد موعد مع زوجته أم كلثوم.. كي تتحدث عن الأمراض التي تشكو منها. استمع إحسان كعادته للاقتراح.. وسأل رفعت: - انت متأكد أن الدكتور حسن الحفناوي سيحدد لك هذا الموعد كي تتحدث أم كلثوم عن أمراضها؟ أجاب: طبعا! قال إحسان لرفعت.. أنا أقترح عليك تحديد هذا الموعد لمحمود عوض.. لأنني لا أعتقد أن أم كلثوم سوف ترحب بالحديث عن أمراضها. وقام محمود عوض بموهبته.. التي اكتشفها الأستاذ إحسان بإجراء الحوار.. وتطور الأمر إلي تأليف كتاب عن حياتها.. بعنوان «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد». أما الذي حدد الموعد فلم يكن زوجها الحفناوي وإنما كان بليغ حمدي. كان رفعت كمال.. يري كل ما حوله.. بعيون العلم.. ويقدم للقارئ المادة العلمية بأسلوب السهل الممتنع وأذكر في هذا السياق سلسلة التحقيقات الصحفية.. التي كتبها عن بنات إحسان عبدالقدوس.. أي الفتيات اللاتي تناولهن الكاتب الكبير في رواياته. كان يحمل حكاية فتاة من بطلات قصص إحسان ويعرضها علي أشهر أطباء علم النفس في زماننا ومنهم أحمد عكاشة.. وعدلي فهمي وسعد مسيحة كي يجري تحليلا نفسيا.. لهذه الفتاة.. ولماذا وقعت في الحب.. ولماذا فعلت.. كذا.. وكذا، ولماذا انتقمت.. ولماذا كانت متهورة.. ولماذا انتقمت من الرجل الوحيد الذي وافق أن يتزوجها.. إلخ. وأذكر أن الدكتور عكاشة.. وهو زميل دراسة لرفعت كمال.. قال له: إن هذه الفتاة لم تكن تنتقم من الشخص الوحيد الذي تقدم لزواجها.. وإنما كانت تنتقم من المجتمع الذي لم يترك لها حرية الاختيار!. وهكذا استطاع رفعت كمال.. بموهبته الصحفية الفذة أن يعيد نشر قصص إحسان عبدالقدوس.. ويلقي الضوء علي مواقف لم تكن تخطر ببال القارئ العابر. وفي أحد الأيام.. سأل رفعت كمال الأستاذ إحسان عن سر كتاباته عن البنات.. وهي الروايات التي كانت تثير المظاهرات الصاخبة.. وتتجه في كل مرة نحو الأزهر الشريف. قال إحسان لرفعت كمال: - كانت زوجتي حاملا.. وكنت أعمل في دار الهلال.. وكتبت مقالا في مجلة «الاثنين» تمنيت أن تنجب زوجتي ولدا.. وقلت لله - سبحانه وتعالي - إنني سأكون حزينا.. إذا أنجبت زوجتي بنتا واستجاب الله لدعائي.. ثم مرت الأيام.. وندمت.. وبجانب إحساسي بالندم بدأت أشعر بأنني مسئول عن كل بنت وأن أدافع عن كل بنت كي أكفر عن الدعاء الذي استجاب الله له!. وكانت سنوات عملنا في أخبار اليوم.. تحت رئاسة إحسان عبدالقدوس.. هي سنوات العصر الذهبي في هذه المؤسسة العريقة.. لأن إحسان علمنا الحب.. وأن العمل الصحفي لا يمكن أن ينجح إلا في أجواء حب.. وصداقة.. وتعاون.. بين الزملاء. في هذه الفترة.. لمعت أسماء.. أصحاب المواهب التي احتضنها إحسان.. وكان من بينها بالطبع رفعت كمال.. صاحب الأفكار التي لا تخطر علي البال.. واتسع قلب إحسان للزملاء جميعا وأفرد لهم مساحات في «أخبار اليوم» لم نكن نحلم بها. فكتب رفعت كمال.. علي سبيل المثال.. سلسلة من التحقيقات حول «عالم البحار» في حوارات رائعة مع العالم الكبير الدكتور حامد جوهر.. وكانت له لحية بيضاء أنيقة.. وعندما عرض سكرتير التحرير الزميل الراحل سامي محمود «ماكيت» الصفحة.. علي الأستاذ إحسان.. طلب منه أن تحتل صورة الدكتور حامد جوهر ربع مساحة الصفحة.. وكانت تلك أول سابقة في توضيب الصحيفة الأسبوعية التي كان توزيعها يزيد علي المليون نسخة في كل يوم سبت. ودارت الأيام وتغيرت الأحوال.. وترك إحسان عبدالقدوس موقعه في «أخبار اليوم».. وانتقل إلي الأهرام.. كاتبا.. متفرغا للكتابة.. وطرأت علي رفعت كمال.. فكرة إصدار مجلة طبية.. شهرية.. تقدم للقراء الثقافة الطبية الأساسية وحمل فكرته إلي الأستاذ أحمد بهاء الدين الذي كان يرأس مجلس إدارة دار الهلال. ورحب الأستاذ أحمد بهاء الدين.. رحمه الله بالفكرة.. وصدرت لأول مرة في تاريخ الصحافة المصرية.. مجلة طبية تحمل اسم «طبيبك الخاص» وتولي رئاستها رفعت كمال الذي استقال من مؤسسة أخبار اليوم وانتقل إلي دار الهلال. كانت مجلة «طبيبك الخاص» تنشر المقالات لنجوم الطب في مصر، وتجري معهم الحوارات.. إلي جانب آخر أخبار الطب والأمراض وأساليب العلاج الحديثة في العالم كله. وفي هذه الفترة لم تظهر الكفاءة الصحفية في تاريخ رفعت كمال.. وإنما ظهر جانب آخر لا يعلمه أحد، هو الجانب الإنساني في حياة هذا الإنسان الذي سوف تفتح أمامه أبواب الجنة.. لأن كل أعمال الخير.. لم يكن يعلمها سوي الله سبحانه وتعالي. وأستطيع أن أسجل.. بمنتهي الأمانة.. إنه لا يوجد عامل ولا موظف ولا صحفي واحد.. لم يلجأ لرفعت كمال.. في أزمات مرضه.. أو مرض أحد أفراد أسرته. أعرف حالات محددة لعمال وموظفين وصحفيين لم تكن تتيسر لهم مصروفات العلاج.. في أكثر دور العلاج تواضعا.. ولكن «توصية» أو كلمة من رفعت كمال.. كانت تفتح أمامهم زيارة أكبر وأشهر أطباء البلد في عياداتهم الخاصة.. بالمجان. كانت مكالمة تليفونية من رفعت كمال.. لطبيب مشهور يصعب الحصول علي موعد لزيارته.. تفتح أمام البسطاء أبواب العلاج والكشف المجاني. ولم يكن الأمر يقتصر علي البسطاء.. وإنما علي زملاء تولوا المواقع القيادية في صحف الحكومة.. خلال السنوات العشرين الأخيرة.. ولم يظهر أي منهم في قاعة العزاء للأسف الشديد. وعندما مال الزميل نبيل زكي نحوي ونحن جلوسا في قاعة العزاء هامسا.. «معقول كده؟».. «معقول اللي بيحصل ده؟». قلت له: عندما يموت كلب العمدة.. تمتليء سرادقات العزاء بالباكين نفاقا للعمدة.. أما عندما يموت العمدة.. فتخلوا السرادقات من المعزين.. فلا تندهش!. آسف لهذه الملاحظة العابرة.. وأعود لموضوعنا عن الراحل رفعت كمال.. فأقول إن مجلة «طبيبك الخاص» التي أسسها في دار الهلال تحولت تحت رئاسته لتحريرها إلي المجلة التي تجد أعدادها في عيادات الأطباء.. كما تجدها بين أيدي الشباب والشيوخ إذ كانت تقدم لهم المعلومات الطبية ببساطة ورشاقة. ودارت الأيام.. وتغيرت القيادات.. وسبحان مغير الأحوال.. وعاد رفعت كمال.. لمؤسسة أخبار اليوم.. ومعه فكرة جديدة هي كتاب اليوم الطبي.. التي سعد بها الأستاذ الراحل موسي صبري.. ولقي كتاب اليوم الطبي.. النجاح الذي لقيته مجلة طبيبك الخاص.. إلي جانب تحريره لباب ثابت في مجلة آخر ساعة أيام الراحل رشدي صالح.. بعنوان «موعد خارج العيادة». واستطاع باب موعد خارج العيادة.. أن يقدم للقارئ المعلومات الطبية والعلمية وأن يضيف للمجلة تنوعا فريدا في موضوعاتها.. السياسية والفنية. وتتويجا لهذه الرحلة من العطاء حصل رفعت كمال علي وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولي.. من الرئيس حسني مبارك.. وكان من الطبيعي في ظل الحرب المشتعلة ضد الكفاءات الصحفية اللامعة.. أن تستغني أخبار اليوم عن خدماته.. وأن يصاب الرجل العظيم باليأس والإحباط إلي أن توفاه الله صباح يوم الأربعاء 16 يونيو 2010.. وأن تصبح الحياة من بعده أشد فقرا. رحم الله رفعت كمال الإنسان أولا.. والصحفي ثانيا.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.