لم أتحمس قط لإمكانية الانقلاب علي حكومة أقصي اليمين الإسلامي، الضرورية لتحقيق إسلام القراءة الحرفية للنص، لأن هذا التحقيق، المضحك المبكي، ضروري لتجاوزه إلي العلمانية الحديثة:الفصل بين الديني والدنيوي، بين المؤمن والمواطن. كنت أعوّل علي حكومة الغنوشي لتنفير غالبية التونسيين من الإسلام الحرفي، المسئول الأول عن هزيمة العقل، الكلامي والفلسفي، في أرض الإسلام. وأيضا عن الغوص، المتواصل منذ 8 قرون، في رمال الانحطاط. منذ مقدمات الحداثة في القرنين 15(الولادة الثانية بالعودة إلي ما قبل اليهودية -المسيحية، إلي فكر وفن وقانون الحضارة الإغريقية – الرومانية)، و16 (الإصلاح الديني الذي كان المَشْتل الذي زُرعت فيه بذور وبراعم الحداثة العالمية المعاصرة)، عجزت النخب الإسلامية، المريضة بوسواس، عبادة الأسلاف القائل بأنّ كل شيء دين، عن الدخول إلي هذه الحداثة الفكرية والدينية البازغة التي دشَّنَت عصر: كل شيء علم وإصلاح دنيوي وديني، ودائما المزيد من الإصلاح الدنيوي والديني. ولأنَّ مَن جهل شيئا عاداه، فقد جاهدت ومازالت في مؤسساتها وجمالياتها وعلومها وقيمها باسم هذيان ديني سريري غالبا. وهكذا تسمَّرت وما زالت في عقل القرون الوسطي الالهي، فعجزت عن التقدم إلي عقل العصور الحديثة البشري، متخذة من القرآن، الذي هو كتاب ديني حصرا، لا ظل للسياسة والعلم فيه، دستورا وموسوعة علمية يُغنيانها عن الدستور والعلم الحديثين. وهكذا أجيب عن سؤال شكيب أرسلان: “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”. ضرورة تجاوز إسلام أقصي اليمين السياسي بضرورة تحقيقه، جعلتني أري في العنف اليومي، الذي يقترفه “الذراع المسلح” للنهضة، 93 ألف سلفي، بمساعدة شرطة وقضاة الحكومة الإسلامية ضد المواطنين والسياح، مسمارا في نعش الإسلام الشرعي العنيف وإعلانا مضادا له في تونس والعالم. ثورة الاتصالات، التي ضاءلت قابلية استمرار المجتمعات المغلقة، التي تحتضر اليوم رواسبها في كوريا الشمالية وكوبا وإيران الإسلامية، تشهد لهذا السيناريو المتفائل الذي أراهن عليه. فقدوا الناخبين ببركة تسارع التاريخ، أي تقدم العلم والتكنولوجيا في العالم، فَقَدَ إخوان مصر نصف ناخبيهم من قبل التمكين لحكوماتهم الإسلامية، وفقد “إخوان” تونس 30 % من ناخبيهم، حسب استطلاع داخلي طلبته النهضة. بعد 10 شهور من التمكين لهم، الهزلي نصفا والمأساوي نصفا، وطردت مِحْدَلَة التكفير، في 2000 مسجد، آلاف المصلين من الصلاة فيها، أو الصلاة أصلا. ويتهكم الكثيرون علي صلاة وزراء النهضة، بحضور التلفزيون، في أوقات عملهم، بدلا من الانكباب حصرا علي دراسة ملفاتهم. و”الذي يقبل الصلاة فرادي يقبلها جملة” كما قال بشار بن برد، أي بعد الفراغ من العمل. الإسلام الحرفي ما حدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، قد يتكرر من حيث الأساس، في تونس الإسلامية: خلال 30 عاما من حكم الإسلام الحرفي، ترك 80 % من الشعب و90% من الطلبة الصلاة، ولم يعد يصوم رمضان إلا 2% فقط، وسحب 30% من المؤمنين اعترافهم بوجود الله (أنظر: العفيف الأخضر: إيران 30 عاما من الثورة 30% من الملحدين2009). النسخة الإسلامية التونسية كفيلة بإنتاج هذا وحتي أكثر في وقت قياسي: 5 – 10 سنوات. 56 عاما من التّحديث وإصلاح الإسلام، خاصة شرط المرأة، لم تذهب سُدي. وهكذا، وفي لحظة تاريخيا قصيرة وبثمن نسبيا زهيد، قد ينتقل المجتمع التونسي، بحسم، إلي زمن الحداثة العالمية. لكنّ احتمال تفجير “ثورة ثانية إسلامية” علي الطريقة الإيرانية يتدارك بها أقصي اليمين الإسلامي السياسي “نواقص” انتفاضات “الربيع العربي” العفوية، جعلتني أراجع أولوياتي. السايكوباتي الذي كتب مقالي: “اقطعوا الطريق علي المذبحة” استاء منه قائلا: دعهم يذبحون وبعد ذلك أكتب . وبما أنك تعتبر حكومة أقصي اليمين الإسلامي أداة التاريخ اللاواعية لإصلاح الإسلام، فدعهم يصلحون ألإسلام بثمن مذبحة. كان ردي: أرفض التفلسف علي حساب الضّحايا. إذا كان ثمن إصلاح الإسلام مذبحة. فإني أفضّل عدم إصلاحه علي التواطؤ مع الذباحين حتي بالصمت.لا توجد قضية واحدة مهما كانت مقدسة تستحق التضحية في سبيلها بالأبرياء إلا عند من مات ضميرهم الأخلاقي بأحد الأمراض العقلية كالبارانويا الهاذية والفُصام السريري، كما هي حال جل قادة أقصي اليمين الإسلامي أو العلماني: من القرضاوي إلي هتلر مرورا بالباقين. خطر الموت إذا كان الجيش يتدخل إذا حوّم خطر الموت علي رأس النظام. فأحري به أن يتدخل إذا حوّم خطر الموت فوق رأس نُخب البلاد منذ 1956 إلي 2010 “بمحاكمات وإعدامات” كما كتب “مالك التريكي”. قرينه، “عبد الرزاق قيراط” كان أوقَح عندما كتب مستعيدا خطبة الحجاج ضد المعارضة الشيعية: “إني لأري رؤوسا قد أيْنَعَتْ وَحَان قِطافها وإني لَصاحبها: رؤوس التجمعين”. و”التجمعيون” في خطاب أَقْصي اليمين الإسلامي اسم نوع لجميع النخب، في المجتمعين السياسي والمدني، التي تعارض تنْصيب ديكتاتورية دينية تعود بتونس من القرن ال21 إلي القرن 7 لذلك أكتب هذا النداء للجيش لأقترح عليه، إذا توفرت عوامل النجاح حسب قرار يصنعه العلم في الجيش وبعد أن يزكيه صناع القرار الاستراتيجي في الجيوش الشقيقة والصديقة، التدخل لقطع الطريق علي مذبحة للنخب التونسية يبدو أن أقصي اليمين الإسلامي يعدّ لها ما استطاع من قوة. كيف يقطع عليها الطريق؟ بحل حكومة الغنوشي الفاشلة والمؤذية والتأسيسي المهزلة ليشكل علي أنقاضها حكومة مصالحة وطنية شاملة وفورية تضم جميع المواهب والكفاءات والخبرات بما فيها النهضوية للشروع في أم المهام: إعادة بناء ما خربته 20 شهرا من “الفوضي الخلاقة” للفوضي، التي نظمها أقصي اليمين الإسلامي وأقصي اليسار الطفولي طوال 2011. ل”قطع استمرارية الدولة باستمرارية الثورة”. هذه “الثورة” التي يراد اليوم “تصحيحها” بثورة ثانية إسلامية علي الطريقة الإيرانية: نهرا من الدمع والدم. وهذا ما يُفصح عنه “مالك التريكي”:” أحد قادة أقصي اليمين الإسلامي:” (…) إلا أن جديد الثورات العربية قد جعلها تقع خارج نطاق الديناميكية التاريخية المعهودة لاستكمال مسار الثورات، حيث لم يحدث في التاريخ الحديث أو المعاصر أن اندلعت ثورة بدون قيادة موجهة تكون هي من يتولَّي الحكم فور سقوط النظام القديم، ولو انسلكت الثورات العربية في نمط المعهود التاريخي، لكان الوضع في تونس ومصر اليوم شبيها بما حدث علي سبيل المثال، في إيران إبان سقوط الشاه. أي أن القيادة الثورية تكون قد استولت علي الحكم من لحظة سقوط الطاغية، وتكون قد رتبت محاكمات وإعدامات وتصفيات للعهد البائد بأكلمه، ممثلا في معظم أفراد الفئة التي كانت حاكمة أو متنفذة أو مستفيدة. وبهذا لا يكون هناك من مجال لمضيعة الجهد والوقت في الحديث عن “الفلول” أو عن قوي “الثورة المضادة”. (أنظر :لماذا ثورة ثانية إسلامية؟) مذبحة مرتقبة “وهكذا لا يكون مجال لمضيعة الوقت في الحديث عن “الفلول”…” استعادة لتصريح خميني للصحفية الإيطالية فالاتشي عندما سألته عن إعدام300 ضابط في الجيش بلا محاكمة فرد:” هم مذنبون ولا داعي لإضاعة الوقت في محاكمتهم..! فهل هذا هو ما ينتظر ضباط الجيش التونسي غَداة “الثورة الثانية” الإسلامية؟” تونس مقبلة علي مواجهات عنيفة قبل قليل من ندوة السفراء «الفرنسيين» التقليدية التي أُفتتحت في 27-08 – 2012، قدمت الاستعلامات ملاحضات لقصر الإليزي ليس فيها ما يفرح الدبلوماسيين(…) منها مثلا هذا التحذير: تحاليل الاستعلامات تتوقع نزاعا سياسيا ودينيا ينطوي علي خطر مواجهات عنيفة في الأمد المتوسط بين القوي العلمانية والحزب الإسلامي النهضة الذي يحتل مراكز السلطة والذي تدفعه المجموعات السلفية إلي الدخول في هذا الصراع”. (الأسبوعية الفرنسية لوكانار أنشيني 29-8-2012) إذا تُركت النهضة تخوض هذا الصراع ب93 ألف سلفي يتدربون في الجبال علي الفنون الحربية واستخدام السلاح، فلاشك أن السيناريو الإيراني قد يتحقق وستُرتب “محاكمات وإعدامات” ولكنه قد لا يكون إلا محطة في مسار “الفوضي الخلاقة” للفوضي التي دشنتها انتفاضة “الربيع العربي”.