البراجماتية أعطت ل «مرسي» القبول.. ولكن إلي متي؟ إنك لا تستطيع ان تكون ثوريا واخوانيا معا. لا تستطيع ان تكون يساريا واخوانيا في وقت واحد. كما لا تستطيع ان تكون ناصريا واخوانيا لفترة زمنية تطول او تقصر. فالتناقض بين هذين المفهومين حاد بحيث لا يمكن ان تنجح محاولة لادعاء الانتماء الي الاثنين معا. … حتي وان تشابهت بعض نقاط البرامج السياسية او الاقتصادية او الاستراتيجية او الثقافية. وهذا ما يحاوله الرئيس محمد مرسي في الوقت الحاضر. انه يريد ان يظهر للاخوانيين كما يريدونه ان يكون وان يبدو للناصريين او اليساريين قريبا منهم يلبي متطلباتهم. وسيدرك الرئيس مرسي عاجلا اكثر من آجلا هذه الحقيقة، والافضل له ولبرنامجه الرئاسي ان يدرك هذه الحقيقة بنفسه قبل ان يلجأ اي من هذه الاطراف الي فرض هذه الحقيقة عليه عنوة، بالقوة او باي وسيلة ايضاح قد لا يكون له قبل بها. السبب في هذه الاستحالة للجمع بين ما هو ثوري وما هو اخواني يرجع الي ان الدين، وهو اساس العقيدة الاخوانية وهو ايديولوجيتها وحاويها، لا يكون ثورة الا في انطلاقه او بزوغه. وليس من قبيل المصادفة ان الديانات السماوية الثلاث هجرت محتواها الثوري بعد وقت قصير من انطلاقها. وفي حالة الدين الاسلامي فان فترة الثورة فيه ارتكزت اساسا علي وجود النبي العظيم محمد. اما بعد ذلك فان ثورية الاسلام انحسرت امام النزاعات التي دخلت فترات حكم الخلفاء الراشدين. وليس ادل علي ذلك ما حدث من اغتيال هؤلاء كنهاية لفترات حكمهم. فضلا عما حدث من نزاع علي خلافة علي (كرّم الله وجهه) استطاع ان يمتد حتي زمننا الحاضر في صورة المواجهة المستمرة بين السنة والشيعة التي استمرت لما يقرب من خمسة عشر قرنا، هي كل ما مضي من عمر الدين الاسلامي. ولا ينفي هذا ان الاسلام استطاع بمقدرة لم تتكرر ان ينشيء حضارة سامقة في انحاء مختلفة من العالم استطاع ان يدخلها ويثبت اقدامه فيها علي اسس دنيوية متقدمة علي عصرها. المسيحية واليهودية ويمكن ان يقال هذا علي الديانة المسيحية التي امتد وجودها حتي الان لفترة تقل قليلا عن واحد وعشرين قرنا. لقد بدأت المسيحية في وجود المسيح عليه( السلام ) ثورة علي الواقع الذي كان قائما بما في ذلك واقع فقر الفقراء واستضعاف المساكين تحت حكم الرومان الذي تميز بالطغيان والجبروت ومحاولة محو الحياة الروحية للجموع. ولكن الامور بعد التحرر بفضل الدين ان عادت سيرتها الاولي حتي علي الرغم من ان المسيحية افرزت ثورة الاصلاحيين في اوروبا. لم تلبث هذه الثورة ان انقسمت علي نفسها وانتكست والمواجهة لا تزال قائمة بين الكاثوليكية والبروتستانتية وتفرعاتهما الاخري حيثما كانت. وما يقال عن الاسلام وقبله عن المسيحية في علاقتهما بالثورة يمكن ان يقال ايضا علي الديانة اليهودية لولا ان هذا ليس هو لب موضوعنا. وتبقي الحقيقة كما هي وكما سبق ان اشرنا ان الدين لا يكون ثورة الا في مرحلة بزوغه. وللحقيقة فان الرئيس مرسي قد ابدي قدرة علي دخول مجالات لا تبدو “اخوانية” للوهلة الاولي. بل انه ادلي بتصريحات يفهم منها انه ليس ملتزما بالاخوانية وأهدافها، بل انه وصل الي حد وصف الدولة التي يتراسها بانها مدنية وليست دينية. ولن نحاول ان نخوض فيما يمكن ان يكون عليه رد فعل الاخوان المسلمين، خاصة الزعماء الذين صعد معهم واحتل مركزا في التنظيم اعلي بعض الشيء او ادني بعض الشيء منهم. وكان مما لفت النظر كثيرا اعلاميا وجماهيريا ان الرئيس مرسي وصل الي حد الاشادة بجمال عبد الناصر لدوره في حركة عدم الانحياز مؤكدا ان الحركة كانت تلقي تأييد الجماهير المصرية والعربية. ولعل هذه هي المرة الاولي التي يشيد فيها زعيم اخواني بجمال عبدالناصر ويشهد له بالشعبية وان في مجال عالمي بعيد عن الشان الداخلي. فهل يمكن اعتبار هذه الاشادة بالزعيم الراحل ضربا من ضروب الثورة يلجأ اليه الرئيس مرسي، ام انه مجرد المظهر الخارجي الذي يلجأ اليه الرئيس لاكتساب جانب من الشعبية وهو يحضر قمة حركة عدم الانحياز في طهران. وما عدا ذلك فان المسافة شاسعة بين الرئيس مرسي واهداف ثورة عبد الناصر. وبذلك يثبت الرئيس مرسي انه براجماتي بالدرجة الاولي، فلا شيء يمنعه من ان يقترب من مبادئ نالت تأييد الجماهير في مصر وفي الوطن العربي. والدليل الاوضح علي براجماتية الرئيس مرسي البعيدة عن الثورية انه كان براجماتيا تماما في تعهده لاسرائيل والولاياتالمتحدة باستمرار الالتزام بمعاهدة السلام بين مصر واسرائيل تحت اشراف الولاياتالمتحدة. هنا لجأ الرئيس المصري الحالي الي التزام هو ابعد ما يكون عن نيل اي درجة من التأييد الشعبي. وليس خافيا ان احد اهم اسباب انطلاق ثورة 25 يناير هو تخليص مصر من قيود كامب ديفيد التي كبلت ارادة مصر ومنعتها من ممارسة دورها القومي ودورها الاقليمي بل العالمي. براجماتي لاثوري الرئيس مرسي برهن حتي الان علي انه براجماتي من طراز سياسي لا توقفه المبادئ عن الممارسات العملية التي ينتظر من ورائها تحقيق نتائج سياسية من نوع او آخر، من نوع او نقيضه. وهو في هذا ليس بعيدا عن مبادئ الاخوان المسلمين وممارساتهم. انما هو بعيد كثيرا عن الثورة التي تكتسب هذه الصفة من جرأتها وانطلاقها واندفاعها في الدفاع عن مبادئ شعبية تعطي لها الجماهير اولوية لا ريب فيها. لقد برهن الاخوان المسلمون منذ ميلاد تنظيمهم في عام 1928 علي انهم تنظيم يلتزم بالبراجماتية في علاقاته مع القوي الاخري علي الساحة. فعل ذلك في العلاقة مع الاحتلال الانجليزي لمصر في سنوات الثلاثينيات والاربعينيات من القرن الماضي، ووصل في ذلك الي درجة قبول تبرعات انجليزية للتنظيم. وفعل ذلك في علاقته مع القصر الملكي في عهد فؤاد الاول ثم في عهد فاروق الاول. ومع ذلك تمكن من ان يقف في صف ثورة 23 يوليو.1952 وربما ظن وقتها ان باستطاعته ان يهيمن عليها علي نحو ما فعل مع ثورة 25 يناير 2011 ، ولم يكن ذلك ممكنا في وجود جمال عبدالناصر. ولكن الموقف تحول لمصلحة الاخوان المسلمين ازاء ثورة 25 يناير نظرا لغياب قيادة فعلية لهذه الثورة. وتشهد علاقة الاخوان المسلمين كتنظيم وعلاقة محمد مرسي كرئيس للجمهورية بان البراجماتية الاخوانية لعبت دورها في المراحل المختلفة لدور المجلس الاعلي للقوات المسلحة من الاقرار بدوره في الهيمنة علي البلاد في اعقاب هذه الثورة حتي لحظة التحالف مع خصومه في سبيل ما اصبح يسمي “الانقلاب علي القوات المسلحة”. منافسة مع السلفين الي اي مدي يستطيع الرئيس مرسي ان يمارس هذه المرونة البراجماتية؟ الامر لا يتوقف علي قدراته وحده انما علي مدي قبول تنظيم الاخوان المسلمين لهذا المنهج. لقد علت اصوات كثيرة – خارج تنظيم الاخوان بطبيعة الحال – تطالب مرسي باهتمام اكبر بمدنية المجتمع. واخذ يبدو في الوقت نفسه ان للاخوان المسلمين منافسين من بين حلفائهم يعارضون سياسات مرسي مثل السلفيين. وان هؤلاء المنافسين يتطلعون الي السلطة من الان، بانتظار انتخابات مجلس الشعب المقبلة. وسيكون من المحتم علي مرسي ان يضع هذه المنافسة في الاعتبار ان لم يكن دفاعا عن سلطاته وموقعه فدفاعا عن اهداف الاخوان المسلمين وتطلعاتهم. المعركة التي يواجهها الاخوان المسلمون كتنظيم آخذة في التصاعد، وفي هذا المجال تتصاعد الحركات الشعبية والتنظيمية التي تطالب برفع هيمنة الاخوان علي السلطة. وسيجد تنظيم الاخوان نفسه في مواجهة معارك سياسية وجماهيرية لا قبل له بها. وسيجد الرئيس مرسي نفسه بين شقي الرحي المكوّن من ناحية من الاخوان المسلمين انفسهم ومن ناحية اخري من يقاومون هيمنة الاخوان كما يمارسها مرسي. وفي هذه المعارك لن تجدي البراجماتية التي نجح بممارستها الرئيس مرسي حتي الان. لن يجدي التظاهر بالجمع بين الدين والثورة.