هل نستطيع اختيار حياتنا كما نحب أم أننا أبناء لظروفنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأبناء للزمن، أيا كانت أحداثه وقضاياه؟ حول هذا السؤال عرض المهرجان الدولي للسينما التسجيلية والقصيرة بالإسماعيلية عددا من الأفلام المهمة، ففي مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة جاءت أفلام «أحبك» من تركيا و«العذراء والأقباط وأنا» من فرنسا و«يامو» من لبنان لتؤكد – اختلافها الكبير – علي هذا السؤال المهم ولتعطي من خلال أحداثها وأماكنها وحياة الناس فيها الدور المهم الذي تلعبه السياسة في حياة الفرد، من بعيد ودون أي ملامح خاصة بل يكفي الناس هنا الوجود في زمن بعينه والانتماء إلي جماعة أو وطن لكي تتشكل حياتهم بصورة غير مباشرة قد تدفعهم إلي نضال طويل من أجل الحفاظ علي ذواتهم.. وخاصة ذواتهن.. فالنساء في الفيلم الأول هن العقدة، وفي أيديهن الحل أيضا، أما في الفيلمين الثاني والثالث.. فالتحدي أكبر. في فيلم «أحبك» للمخرجة التركية أمينة اميل بالكي، وهي أيضا الكاتبة، صورة للحب والصبر في انتظار عودة الأزواج من العمل بألمانيا إلي نسائهم وأسرهم في قرية كردية نائية تكاد تخلو من الرجال ولكن النساء في حالة استعداد دائم للحظة قادمة للذهاب إلي بلد العمل، وحيث تدور أحداث الفيلم في الفصل الذي تتعلم فيه نساء القرية اللغة الألمانية من خلال مدرس يجيدها ويعرف كيف يثير اهتمام تلميذاته بمداعبة أحلامهن في السفر إلي العالم الأهم وحيث يطرح عليهن من حين لآخر معلومات عن الحياة السهلة في ألمانيا، في الطرق، في المواصلات، في كل الأشياء التي تفتقدها النساء في القرية، وحين يأتي الامتحان بالفشل لبعضهن، يتجول خطاب «النتيجة» الذي يحمله البوسطجي إلي مبرر للغضب المكتوم الذي يعلو ويجتاح المرأة وأمها وجدتها في تعبير عن هزيمة الأمل في العبور الكبير للفقر والمشاق التي تتحملها النساء في القرية ببسالة سنوات طويلة، وتختلط الآلام الكبيرة بالأفراح القليلة في نهاية مؤثرة تؤكد أن العبور والهجرة قضية أكثر صعوبة من مجرد درس في اللغة. الأم.. البطلة داخل وخارج الفيلم في الفيلم اللبناني «يامو» لكاتبه ومخرجه رامي فيحاوي دراما تسجيلية عن حياة المخرج نفسه وعائلته بطلتها أمه، تلك الشخصية المهمة في حياته وحياة الأسرة والتي قاومت طويلا من أجل استقرار أسرتها وأبنائها في إطار حياة تدخلت فيها السياسة حتي النخاع، فالزوج سوري كان يعمل بلبنان – والد المخرج – وبعد الزواج بسنوات ومع توتر العلاقات بين سوريا ولبنان عاد إلي وطنه وعادت معه الابنة «ريم» وبدأت زيارات الزوجة – الأم – لزوجها وعائلته تخف لأسباب كثيرة منها سلوك أهل الزوج تجاهها وتجاه أبنائها، عملت الأم في مهن عديدة لتعول الأولاد، مدرسة، وموجهة، ثم افتتحت «كافيه» حين أصبح لديها بعض الأموال وكانت حماية أولادها هي شغلها الشاغل في إطار صراع سياسي دام داخل لبنان نفسها بين اللبنانيين أنفسهم، ثم بينهم وبين الفلسطينيين، حاولت الأم السيطرة علي تشكيل وعي أبنائها لكن الأحداث كانت أقوي أخرجتهم من حلم العروبة وقومية المعركة الذين آمنوا به مع عبدالناصر «أصبح عندي الآن.. بندقية!»، «فلسطين خدون معكم» إلي زمن الميليشيات المنعشة ليقف الابن أمام أمه في نهاية الفيلم متمنيا ألا تنتهي به الأيام القادمة إلي التخلي عما تبقي له من أحلام تخص الوطن وأبنائه في صورة درامية واقعية تثير بداخل كل منا نفس الأسئلة.. ونفس النهاية. هؤلاء المصريون الذين لا نعرفهم في الفيلم الثالث «العذراء والأقباط وأنا» يطرح المخرج نمير عبدالمسيح الأسئلة ذاتها من موقع آخر.. فهو مهاجر يحمل الجنسية الفرنسية، لكن أمه وأبيه يعيشان في مصر في الوطن الجديد، وحين يصل الأم شريط فيديو من أسرتها بالصعيد حول ظهور العذراء في إحدي الكنائس، يتشكك الابن في هذا الظهور ويقرر الذهاب إلي مصر لعمل فيلم حوله، ولكنه حين يصل مصر، يكتشف البلد الذي لم يعرفه حقيقة من قبل، ويضطر للاستعانة بأمه من أجل الفيلم والتعامل مع عائلتها وليتحول العمل من اكتشاف حقيقة ظهور العذراء إلي اكتشاف حقيقة المصريين الذين يعيشون علي الهامش حياة صعبة وشاقة برغم ما يتمتعون به من قدرات ومواهب إنسانية وفطرية عالية، قدم الفيلم لمحات منها في إطار دراما تسجيلية فجرت ضحكات المشاهدين من هؤلاء الذين يشاركونهم الوطن.. ولكن.. عن بعد.. لقد كانت «سهام» والدة «تير» المخرج هي بطلة الفيلم حتي دخل أبناء عائلتها الصورة لتبدو الفروق والتباينات واضحة في تأثير المناخ المحيط علي الطرفين، ومع ذلك فإن سحر الشخصية المصرية البسيطة يبدو مؤثرا من خلال الفيلم من خلال ظهور جدة المخرج العجوز وقريباته في منظومة نسائية تصل حتي بنات المدارس الصغيرات تجاه منظومة ذكورية لديها همومها التي تفيض بالصورة والكلمة، ومع ذلك يبقي سحرها الإنساني نافذا عبر مشاهد الفيلم.