جمهوري دمياط رئيس جمهورية الجيزة يستطيع بناء فندق فوق الأهرامات.. ورئيس جمهورية الفيوم يستطيع بيع بحيرة قارون للوليد بن طلال.. ورئيس جمهورية البحيرة يستطيع بيع كوبري كفر الزيات.. كحديد خردة لمستثمر من بيت لحم!!. في الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.. لاحظ النظام النازي أن طائرات الحلفاء توقفت عن قصف الأهداف العسكرية.. وبدأت تكثف قصفها علي الأهداف الثقافية ودور الأوبرا.. والملامح الثقافية ذات الطابع المعماري المميز للمدن.. والمسارح.. في كل أرجاء البلاد. ووصف وزير الدعاية جوبيلز.. هذه الغارات بالأعمال البربرية.. وعندما تلقي الزعيم النازي أدولف هتلر هذه المعلومات.. أصدر توجيهاته بوضع الرسوم الهندسية للملامح الثقافية لكل مدينة في مخابيء خاصة.. في باطن الأرض.. ليتسني للألمان بعد انتهاء الحرب إعادة بناء هذه الملامح المعمارية ودور الأوبرا والمسارح بنفس طرزها التي كانت عليها قبل اندلاع الحرب. وبعدها بقليل أطلق الزعيم النازي النار علي رأسه فور علمه بوصول الدبابات السوفيتية لمشارف العاصمة برلين.. ومات. وبعد سنوات قاسية في نهاية الحرب.. بدأت خطط إعادة الإعمار.. وخرجت الرسوم الهندسية من مكامنها.. وأعيد بناء كل المباني القديمة.. والثقافية منها بنفس طرزها التي كانت عليها قبل الهزيمة الساحقة.. فأعيد بناء دار أوبرا فرانكفورت.. وكاتدرائية كولون.. وكل المسارح في غرب ألمانيا.. بنفس الطرز المعمارية.. بلا تحديث ولا تجديد.. ولا تطوير لسبب بسيط هو أن المحافظة علي ملامح المدن.. كانت في مقدمة أولويات الحكومات «الوطنية» التي تولت السلطة بعد الحرب.. إذ كانت للدولة سياسة. ولم تترك مهمة إعادة البناء.. لمزاج وأهواء والقدرات الذهنية للحكام المحليين.. وإنما كانت مسئولية «الوطن» بأسره. كانت مسئولية الدولة. وهكذا.. أعيدت المدن بملامحها التاريخية لما كانت عليه قبل الحرب.. وبعد انتهاء الغارات الجوية علي التراث الألماني. والمثير للدهشة أن حكام القطاع الشرقي من ألمانيا.. مارسوا السياسة نفسها.. وأعادوا بناء المدن بنفس طابعها الذي يميز كل مدينة عن غيرها.. رغم الخلافات الجذرية في العقيدة السياسية والتوجهات الفكرية. وعندما زرت مدينة «دريسدن» قبل أن تتحقق الوحدة بين الألمانيتين.. وقفت طويلا أمام مبني أوبرا «سيمبر» الذي أعيد بناؤه وفق الطراز الذي كان عليه سنة 1838.. علما بأنه في ليلة واحدة من ليالي الحرب وعلي وجه التحديد في 13 فبراير 1945.. كانت طائرات الحلفاء قد نسفت جميع المباني ذات الطابع المعماري المميز.. بالقنابل والصواريخ.. حتي ساوتها بالأرض. كانت السياسة الألمانية تتلخص في إعادة تأهيل المدن والأحياء التاريخية.. كي تحافظ كل مدينة أو قرية ألمانية علي جمالها.. في إطار سياسة «وطنية» تسعي للحفاظ علي التراث المعماري.. للدولة ككل. ولا يفوتني في هذه المناسبة الإشارة.. إلي أن الحلفاء بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. لم يعثروا علي عميل واحد أو خائن.. لتجنيده وفق مخطط تحويل ألمانيا بعد الحرب لدولة زراعية.. لكي تبدأ من الصفر.. وبلا أي تراث لتاريخها وتراثها المعماري.. لأن النزعة الوطنية كانت أقوي. يبدو أنني أطلت في هذه السطور التي أجدها.. بالغة الأهمية.. لإيقاظ.. أمتنا المصرية العظيمة.. ومؤسساتها الوطنية.. وجميع الأحزاب.. للوقوف في وجه التخريب الذي يجري في العديد من المحافظات المصرية.. وسط صمت مريب.. من جانب حكامنا.. ضعاف الإدراك. ذلك أن المقال الذي نشره الدكتور أسامة الغزالي حرب في صحيفة «المصري اليوم» بتاريخ 18 أبريل 2010.. تحت عنوان «أين الدمايطة؟».. لا يوقظ ضمائر الأحياء ممن بيدهم الحل والربط ونري صورهم تتصدر مجلسي الشعب والشوري أو الأجهزة الرئاسية وأقسام الشرطة.. والنيابة العامة فحسب.. وإنما هو يوقظ الأموات.. ويدفعهم للخروج من مقابرهم للاعتصام أمام مجالسنا الموقرة. فالذي يجري في دمياط.. لا يمكن أن يصدقه العقل.. وقد تناولت هذه القضية.. في سطور نشرتها في هذا المكان بتاريخ 16 ديسمبر 2009 تحت عنوان «في سويسرا.. ورأس البر.. الخيبة واحدة». وقلت في نهاية السطور السابقة: نحن نطالب حكومة الدكتور نظيف بالتدخل لحماية تراثنا الجمالي من الانقراض.. وفتح تحقيق حول ما يجري فوق لسان رأس البر. وطالبت بمحاكمة محافظ دمياط.. لأن محاكمة محافظ واحد تحمي هذا الوطن من شطط باقي المحافظين. وتصورت أن الجريمة التي يرتكبها محافظ دمياط.. في رأس البر قد توقفت.. علي أساس أن إسرائيل.. رغم بشاعة جرائمها في حرب الاستنزاف.. لم يصل بها الحقد لحد قصف.. تراثنا الجمالي.. وتدميره.. ونسفه كما يحدث الآن في دمياط.. وعلي وجه التحديد فوق لسان رأس البر. وتصورت أن السطور التي نشرتها قد أيقظت ضمير جهة ما.. أو حركت لجنة السياسات أو الصبية من كتاب الافتتاحيات في صحف الحكومة.. ولكن يبدو أن ذلك لم يحدث.. وهو ما يؤكده مقال الدكتور أسامة الغزالي حرب. يقول الدكتور أسامة أنه زار.. رأس البر.. وأنه شاهد الإنشاءات التي تجري إقامتها فوق منطقة اللسان بمحافظة دمياط.. وهي إنشاءات تشوه المنطقة.. وتتناقض مع طبيعتها (!!). ومضي يقول: إن الحفاظ علي مواقع جغرافية معينة لأسباب تاريخية أو ثقافية أو بيئية هو مسألة بدهية في أي دولة حديثة وأي مجتمع متحضر.. وليس قضية ثانوية أو تافهة.. الأمر الذي لا ينطبق علي المناطق الأثرية والمحميات الطبيعية فحسب.. وإنما ينطبق أيضا علي المواقع المميزة ذات الطبيعة الخاصة. اختصار الكلام أن إسرائيل لم ترتكب أثناء حرب الاستنزاف ما يقوم به محافظ دمياط.. من تدمير للبنية الثقافية التحتية.. لمصر.. وتحويلها.. لدولة حديثة مثل إسرائيل.. ليس لها تاريخ قديم.. وليس لها مواقع جمالية يرجع تاريخها لآلاف السنين.. وعاش علي أرضها زعماء.. أحبوا مصر ولم يتكاتفوا لبيعها.. وتخريبها.. ونقل ملكية أراضيها من الفلاحين المصريين.. إلي المستثمرين من كل جنسيات.. الأرض.. عدا الجنسية المصرية.. المستبعدة من الهواء الذي تتنفسه ومن الأرض التي سار فوقها أجدادنا. كل محافظ في مصر.. هو رئيس جمهورية.. لا يصل لموقعه بالانتخاب.. ولا بالوراثة.. ولكنه يتمتع بسلطات بلا حدود.. ولا محاسبة. رئيس جمهورية الجيزة يستطيع بناء فندق.. فوق أهرامات الجيزة.. ورئيس جمهورية الفيوم يستطيع بيع بحيرة قارون.. للأمير الوليد بن طلال.. ورئيس جمهورية البحيرة يستطيع بيع كوبري كفر الزيات كحديد خردة.. لمستثمر من بيت لحم.. إلخ. كل محافظ في بلدنا.. هو رئيس جمهورية بسلطات مطلقة.. وبالتالي فلم يكن للجمهورية المركزية في مصر الجديدة حق التشاور مع رؤساء الجمهوريات الأخري في الأقاليم حول المشروعات التي تحوم حولها الشبهات.. ومن بينها مشروع تخريب المعالم الجمالية التاريخية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم.. وفي رأس البر علي وجه التحديد!. ولذلك فيتعين علي كل وطني محب لبلده.. ألا يسمح لمحافظ دمياط.. بالنجاح.. أثناء السلم.. فيما فشلت فيه إسرائيل أثناء الحرب.. وكان أسامة الغزالي حرب علي حق عندما تساءل في عنوان مقاله «أين الدمايطة؟». والإجابة عن هذا السؤال تحتاج من جانبي لمقال.. لأنه يسري علي كل أبناء جمهوريات مصر.. من أقصي جمهوريات الصعيد إلي جمهوريات بحري حتي دمياط. المهم.. نحن الآن بصدد خطة تفتق عنها ذهن السيد رئيس جمهورية دمياط.. تتلخص في بناء فندق من خمسة طوابق.. بعد استطلاع رأي أساتذة الجامعات (!!!) وخبراء التنسيق الحضاري (!!!) الذين اتفقوا فيما بينهم علي المواجهات والارتفاعات والأساسات وناقشوا الزوايا والاضلاع (!!). هذا ضلع جنوبي.. وهذا ضلع شمالي.. وهذا صرف صحي في البحر المتوسط.. وهذه بازارات.. وكافتيريات ومكبرات صوت.. وبوتيكات. وهذا موقع استدعاء سيارات الأجرة والأوتوبيسات وهذه يخوت تنقل السياح الأمريكان لعزبة البرج.. لالتقاط الصور التذكارية مع الصيادين وضحايا الهجرة غير الشرعية. أي القضاء المبرم.. علي واحد من أجمل المواقع الفريدة علي أرض جمهورية دمياط.. لأن رئيس الجمهورية المحلي «عايز كده». وهو الموقع الذي ارتاده العشاق من أجدادنا.. وسار فوقه العقاد وأسمهان وعبدالوهاب.. وعمالقة الأدب والفن لآلاف السنين.. وتعلم منه شعب دمياط حب الحياة. كل ذلك قضي عليه.. بجرة قلم.. وبفكرة عشوائية طرأت علي فكر رئيس جمهورية دمياط.. ووافق عليها أساتذة الجامعات وخبراء التنسيق الحضاري.. وكأننا أمام أوزة.. قرر أحدنا ذبحها.. وباتت مشكلته الوحيدة هي من أين يأكلها؟.. ويتساءل «أكلك منين يا بطة؟».. فالبطة مذبوحة.. مذبوحة. ويقول أسامة الغزالي حرب في مقاله الذي يتساءل فيه «أين الدمايطة؟».. أن رئيس جمهورية دمياط.. مصمم علي موقفه.. «وهذا طبيعي لأنه ليس في البلد من يستطيع ردعه» وأنه غير عابئ بكل صور المعارضة والاحتجاج. والمشكلة كما يقول أسامة أن السيد المحافظ سوف يغادر المحافظة «الجمهورية» يوما.. ولكنه سوف يترك لأهل دمياط ورأس البر «خازوقا كبيرا» وسوف يكون السؤال: كيف يمكن إزالته؟! والإجابة عن السؤال هي: أن سر تركة رؤساء الجمهوريات.. في الدول الرائدة علي كل الأصعدة.. مثلنا.. هي دائما تركة ثقيلة.. ومعقدة.. ولا يمكن لجيل واحد حلها.. وإنما هي قضية أجيال.. وأجيال.. وأجيال. وكل جيل يحاول البحث عن حل.. بلا جدوي.. وينقلها للجيل اللاحق. وجيل وراء جيل.. ورؤساء الجمهوريات يتبادلون مواقعهم في جمهورية دمياط.. إلي أن يأتي بعد مائة سنة جيل جديد.. لا يعرف أنه كانت علي أرض جمهورية دمياط.. مدينة بالغة الجمال.. اسمها رأس البر. وأنه كانت علي هذه الأرض منطقة اسمها اللسان!.