د.نبيل رشوان يحاول الغرب إظهار الوضع على الحدود الروسية الأوكرانية على أنه متأزم للغاية، وعلى أن روسيا على وشك الهجوم على أوكرانيا واحتلال أراضيها وهناك من يفسر "الرغبة الروسية فى الهجوم" على أنها محاولة لشق طريق برى يربط روسيا بالقرم، ويؤكد الغرب من آن لآخر على أن عدد القوات الروسية فى تزايد مستمر لدرجة أن روسيا تحشد قوات أتت بها من على شواطئ بحيرة بيكال فى قلب سيبيريا لغزو أوكرانيا، رغم أن القوات الروسية الموجودة فى الجانب الأوروبى من روسيا يكفى لغزو 10 دول مثل أوكرانيا. التصعيد الغربى ليس له إلا تفسير واحد فى تقديرى وهو أن الغرب والولاياتالمتحدة والناتو على وجه الخصوص يحاولون الظهور بأنهم لا يتركون حلفاءهم (على طريقة أفغانستان والعراق) فى الأزمات وكلما تفاقمت الأزمة كلما كان دور واشنطن عظيماً، الولاياتالمتحدة والناتو يطالبان روسيا بسحب قواتها من منطقة الحدود مع أوكرانيا، قبل الحديث مع روسيا عن أى من الضمانات الأمنية التى عرضتها روسيا عليهم والقاضية بعدم توسيع الناتو شرقاً وعدم نشر أسلحة فى الدول المجاورة لروسية وعدم ضم دول الاتحاد السوفيتى السابق وغيرها من الشروط والقصد هنا أوكرانيا وجورجيا، ويجب على روسيا أن تسحب قواتها من منطقة الحدود مع أوكرانيا أو ما يطلقون عليه خفض التصعيد. سجال روسي غربي السجال بين الغرب وروسيا مستمر ويفرض نفسه على كل المناسبات سواء فى العواصم الأوروبية أو واشنطنوموسكو، الرئيس بوتين فى مؤتمره الصحفى السنوى الذى استمر لما يقرب من أربع ساعات تطرق إلى الأزمة الحالية بين روسيا والغرب وفى معرض رده على سؤال صحفية أمريكية حول الحشود على الحدود الأوكرانية، الرئيس بوتين أشار إلى أن الغرب خدع روسيا عندما وعدها بأن الناتو لن يتوسع شرقاً قيد أنمله ثم حدث العكس تماماً، وهو ما ينفيه الناتو والغرب الذى أشار إلى وجود نص يتيح لأى دولة أن تنضم للحلف بتحقيق ذلك، وهناك نص على ذلك فى اجتماعات روسيا الناتو التى كانت تعقد بشكل دورى. فى نفس الوقت وفى معرض رده على الصحفية الأمريكية اعتبر الرئيس بوتين اقتراب الناتو من حدود بلاده تهديدا لأمنها القومى وتجاوزا للخطوط الحمراء مشيراً إلى ان الصاروخ الأسرع من الصوت يمكنه أن يصل لموسكو فى خمس دقائق، وحذر حلف الناتو والغرب من قبول أوكرانيا فى الحلف مجدداً ضارباً مثال ما إذا وضعت روسيا قوات لها فى كندا أو المكسيك على حدود الولاياتالمتحدة، وبلهجة حاسمة قال إن توسع الناتو يجب أن يتوقف الآن وفوراً، وأكد تصميم بلاده على توقيع اتفاق ملزم بعدم توسيع الناتو وعدم نشر أسلحة فى الدول المجاورة لروسيا وغيرها من الشروط، فى اعتقاد المراقبين، كون موافقة واشنطن على إجراء مباحثات حول الشروط يعتبر نجاحا جزئيا لروسيا حتى الآن رغم شكوك الرئيس بوتين فى جدية الأمريكيين والغرب فى ذلك مؤكداً أنهم سيماطلون لفترة طويلة حول الاتفاق ليتيحوا لأنفسهم الفرصة لتحقيق التوسع باعتباره أمرا واقعا. مشاورات فى واشنطن ورغم تصريح الرئيس بوتين فى المؤتمر الصحفى بأن مباحثات بين الولاياتالمتحدةوروسيا ستجرى فى جنيف فى مطلع العام المقبل، إلا أن المتحدثة باسم البيت الابيض جين بساكى أشارت إلى أن هناك مشاورات تجرى بهذا الخصوص فى واشنطن، بينما جوزيب بوريل مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى أشار إلى أن المباحثات يجب أن تشمل الأوروبيين وهو ما جعل وزير الخارجية الروسى يصرح بأن المباحثات الروسية حول الضمانات الأمنية ستجرى مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى وحلف الناتو. ورغم موافقة واشنطن المعلنة من قبل روسيا رسمياً حتى الآن وعلى لسان الرئيس بوتين، إلا أن بعض المصادر فى واشنطن، اعتبرت بعض مطالب موسكو غير مقبولة، بينما اعتبر نائب وزير الخارجية الروسى أن المطالب الروسية ليست قائمة أصناف طعام فى مطعم يجب الاختيار منها بل هى مجموعة متكاملة وهذا يعتبر نوعا من التشدد الروسى كما وصفه بعض المراقبين، ربما تستعد روسيا من خلاله رفع سقف المطالب لدخول التفاوض بموقف قوى، على أى حال ليس هناك أى بارقة أمل من الجانب الأمريكى لقبول الشروط الروسية لخفض التصعيد. أسعار الغاز على صعيد آخر قفزت أسعار الغاز فى أوروبا لتصل إلى أكثر من 2100 دولار للألف متر مكعب، واتهم الرئيس الروسى الأوروبيين بأنهم من تسبب فى ارتفاع سعر الغاز مشيراً إلى أن روسيا لن تضخ غازا لا يطلبه الأوروبيون لارتفاع سعره، ودعا دول أوروبا للتعجيل باستخراج تراخيص خط أنابيب الغاز "السيل الشمالى 2" لتتمكن بلاده من ضخ الغاز بكميات أكثر لأوروبا مما سيخفض السعر. وهكذا انتقلنا من لعبة عض الأصابع، إلى لعبة حفظ ماء الوجه، وبين ما يصفه الغرب بالتهديد الروسى بغزو أوكرانيا وبين تهديد الغرب بفرض عقوبات غير مسبوقة فى قسوتها على روسيا فى حال حدوث ذلك، وانتظار أن يلتقى الجانبان فى جنيف كما تشير أنباء غير مؤكدة فى يناير المقبل، وفيما بدا وكأنه بادرة حسن نية من روسيا أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن 10 آلاف جندى انسحبوا من منطقة الحدود القريبة من أوكرانيا، إلى ثكناتهم فى العمق الروسى، بعد اشتراكهم فى مناورات وتدريبات عسكرية. الغرب لم يقدم أى شئ حتى الآن سوى التلويح بالعقوبات، وكل يوم يزيد من عدد القوات الروسية المحتشدة على الحدود الأوكرانية فى وسائل إعلامه، وأنباء تأتى من هنا وهناك عن تزويد أوكرانيا بأسلحة للدفاع عن نفسها أمام "الجحافل" الروسية. فيما أعرب وزير الخارجية الروسى مدافعاً عن تصرفات بلاده الحالية، بقوله أنه يأمل "أن تكون التصرفات الروسية الحالية لتأمين البلاد، مقنعة للغرب بأن يأخذ تصرفاتنا على محمل الجد". ضمانات الأمن الوضع الآن كما تشير الأمور فيه نوع من الضغط، كل جانب وضع شروطه، فقد حشدت روسيا قواتها بالقرب من الحدود الأوكرانية وأعلنت عن تصميمها فى الدفاع عن نفسها أمام توسع الناتو شرقاً الذى يجب أن يتوقف فوراً وبدون تردد، وفق الرئيس بوتين، وبين الورقة التى أعطتها روسيا للغرب وهى الشروط الخاصة بضمانات الأمن. الغرب يصر على سحب القوات الروسية من منطقة الحدود مع أوكرانيا أولاً أو وفق ما أكد عليه السفير الأمريكى لدى موسكو جون ساليفان "خفض التصعيد" لكى تبدأ واشنطن "المباحثات" المزمعة مع روسيا بشأن الضمانات الأمنية، وأضاف إليها تفعيل دور مجموعة الاتصال الثلاثية ووقف إطلاق النار فى الدنباس، ولا أتصور أن تحقيق الشروط الأمريكية سيكون صعباً بل وسيكون غير ملحوظ لأن المسألة فى الدنباس ليست حرباً شاملة بل هى اشتباكات محدودة أو لنقل إطلاق نار بشكل فردى، أما انسحاب القوات الروسية من الحدود فإنه سيكون له تصوير فضائى كما فعلوا عند بدء الحشود وسيستغله الغرب فى الدعاية لموقفة باعتباره أجبر روسيا على سحب قواتها، فهل ستوافق روسيا على منح واشنطن هدية حفظ ماء الوجه بعد أن فقدته القيادة الأمريكية بانسحابها من أفغانستان، تدرك روسيا كذلك بضغطها وتشددها فى الشروط أن الولاياتالمتحدة تلعب بورقة المصداقية، كما قلت بعد تخليها عن حليفتها الحكومة الأفغانية، وقد تقبل واشنطن بأى ترضية تحفظ لها مكانتها بين حلفائها الأوروبيين والمنتظرين فى طابور الناتو أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، كما أن جسارة موسكو ستجتذبهم، ولا ننسى أن روسيا أبدت قدرة منقطعة النظير فيما يتعلق بالحفاظ على مصالح حلفائها كما فى سوريا على سبيل المثال، ومحاولتها استرداد مواقعها فى ليبيا. خط أحمر كانت روسيا قد أرسلت شروطها لإنهاء الأزمة مع الغرب والناتو، اعتبرت فيها روسيا أى توسع قادم لحلف الناتو يعتبر تخطيا للخط الأحمر، الذى رسمته روسيا لتحديد ما يهدد أمنها القومى، والناتو يتحدث عن أن الانضمام لهذا الحلف أو تلك المنظمة هو من الأمور السيادية لأى دولة، وما زالت الأمور تراوح بين الطرفين، روسيا وضعت شروطاً قاسية لو قبل بها الغرب سيفقد حلفاءه، وروسيا بشروطها والخطاب المتشدد لم تتطرك لنفسها طريق للتراجع أو التخفيف، وهى تلعب لعبة إما كل شئ أو لا شئ، ومن هنا تأتى المخاوف، من حدوث انتكاسة لروسيا التى تعافت وبدأت تلعب دورا أكبر كمنافس للولايات المتحدة، ليست وحيدة بل مع الصين التى ذكرها الرئيس بوتين بكلمات دافئة فى مؤتمره الصحفى وخاصة فى مجال التعاون العسكرى. واشنطن والناتو يغامران بسمعتهما وثقة حلفائهما فيهما، وروسيا تغامر بما حققته على الساحة الدولية من مكانة مرموقة أمام حلفائها، الغرب بعد أفغانستان والانسحاب المهين يريد استعادة مكانته بأى انتصار حتى ولو كان صغيراً، وروسيا تريد أن تقول للولايات لست وحدك المهيمنة بل هناك قوى أخرى (الصينوروسيا). لمن الغلبة سنرى مع مطلع العام القادم، من خلال ما ستسفر عنه المباحثات التى أتصور أنه بدونها لن تتحقق تهدئة، مهما نفى البعض أو قلل من احتمال حدوث التفاوض، وأتوقع ألا يكون هناك انتصار حاسم لأى من الطرفين، كما حدث فى أزمة الكاريبى عام 1962، حيث خرج الاتحاد السوفيتى أقوى ولم تضعف الولاياتالمتحدة.