يكفي أن نقول سهير البابلي حتي يهرول إلينا الضحك ويرتسم علي شفاهنا, ويتسلل داخل وجداننا ويمرح ونمرح معه, فلا يستطيع أحد أن يوقف انطلاقه أو يحد من اتساعه, طاقة من الكوميديا غير مسبوقة ومتفجرة تستطيع أن تلون العبارات العادية وتجعلها قنابل من الفكاهة, ومن دون افتعال أو مبالغة, تلقي بإيفيهاتها بسهولة ومن مناطق أدائية مختلفة وبطرق متعددة يصعب حصرها أو تحجيمها, وقادرة دوما وبشكل مستمر علي إحداث الفارق الكوميدي الذي يصيب الجماهير بالاندهاش والبهجة .. يتلون أداؤها كل يوم عرض ويتغير ولا يسير علي وتيرة واحدة ولا يخالف رغم ذلك النص المكتوب بل يؤكد فكرته الرئيسية, وهي غير معنية بالتحضير الذي يرضي الاذواق الجماهيرية, فهي مستعدة طوال الوقت لتصدير الضحك ومن دون عناء, ويرضي الجميع ويفيض في حالات كثيرة عن حاجتهم. هي من حملت راية المسرح من الرائدات بعد سنوات عجاف احتل الرجل فيها المشهد بالكامل وصال وجال معتليا خشبة المسرح وكان اللجوء إلي الفنانات من باب تسديد الخانات الافيشية, حتي ظهرت سهير البابلي فقبضت بيديها علي الكوميديا النسائية ومن دون مساعدة الرجال ولم تتركها.. تصدرت افيشات الاعمال في سابقة لم تتكرر في المسرح المصري الكوميدي, وكانت جديرة بهذا التقدير الذي تحملته وانجزته علي خير وجه, وخلقت جيلا من الكوميديانات الكثيرات اللائي رحن يلقن الدروس الكوميدية يمينا وشمالا, ويسقين موهبتها من نهرها الابداعي الذي لم يجف يوما حتي في مواسم الجفاف. هي "سيدة" المسرح الكوميدي باقتدار وبلا منازع, وهل استطاعت واحدة بمفردها أن تعتلي خشبة المسرح في مواجهة صريحة مع الجمهور وتسجل ما سجلته هذه الفنانة القديرة من طلقات اصابت الجميع بهيستيريا السعادة؟, وأيضا هل بلغت واحدة من الجيل العظيم مقدرة أن يكون لها مريدون وتلاميذ تعلموا من ادائها القدرة علي الاندماج والانصهار مع الجماهير بالطريقة التي وصلت بها سهير البابلي التي تكلمت بلغة الناس في الشارع والسوق والبيت ووعت مفرداتهم وحركاتهم وطرق تعبيرهم في لحظات الغضب والفرح؟, لم تتعال سهير البابلي علي الايفيه لكنها حمته من الانزلاق, ونجحت في استخدامه واوقات خروجه ولحظات الانقضاض عليه, وبرعت في تحجيمه إذا ما حاول أن يطغي علي الفكرة أو الذوق العام. في مسرح سهير البابلي تغلف الكوميديا أو تكتسي بقضايا آنية يعاني منها المواطن البسيط المقهور حتي ولو لم يلحق بها النص, فهناك مساحة مرتجلة علي العبور السريع علي الاحداث العاجلة التي من الجائز أن تكون وقعت في الصباح أو قبل صعودها علي المسرح, ورغم ذلك فهي تحرص علي ألا تزيد من كأبة المتفرج الذي أتي إليها لينسي همومه ومشاكله, بل تجعله يسخر منها ويسير فوقها, وكثيرا ما تمسك العصا من منتصفها ليس لاستمالة فريق علي آخر, ولكن من خلال توعية الفريقين بالواجبات والحقوق حتي ينصلح الحال للجميع, كل ذلك والابتسامة لا تفارق هذا أو ذاك. لا يحتاج المتفرج جهدا أو تفكيرا في ادراك قدرتها علي رعايتها للنص المكتوب والممثلين والجمهور في آن و احد, فهي تلزم نفسها بالمسئولية علي كل العناصر الداخلية والخارجية, فليس هناك فصل بين النص والجمهور, أو بين الممثلين والنص, الجميع يشارك في العرض وفق ضوابط مسرحية شديدة الصرامة والكوميدية.. وقد شاهدتها مرات عديدة في المسرح, وأدركت قدرتها غير المحدودة في تطويع النص دون أن يفقد مغزاه. لا تقيس سهير البابلي النجاح إلا من خلال رد الفعل الفوري, والذي يأتي مباشرة من الصالة, وعندما تتأكد أن الأمور تسير علي خير تندمج أكثر وأكثر وتزيد من جرعاتها الكوميديا التي لا تتوقف, في مسرح سهير البابلي لا مكان للحزن أو التفكير في اشياء خارج حدود قاعة العرض, الكل يتطلع إليها ويحرص علي ألا تفوته ابتسامة هنا أو ضحكة هناك, وهي أشياء بالمناسبة موجودة بوفرة وفي ازدياد مستمر. ولأنها كبيرة لا تهاب أرباب المهنة, فهم قد يهابونها لأنهم يدركون قدراتها الخارقة في الاضحاك, وخبرتها العريضة في التعامل مع أصعب المواقف والازمات التي تصادف الفنان علي خشبة المسرح, وهي لا تفعل كل ذلك لتسليط الضوء علي ادائها وحدها دون الاخرين, بل تمد لهم يد العون, وتعطيهم مفاتيح البهجة ليصولوا ويجولوا ويحققون اهدافا ترضي رغبات الجمهور, وكثيرا ما تلقي عليهم الدروس في تجربة عملية مسرحية تفك من خلالها حالات الشرود التي قد تنتاب الجماهير, ولا تهدأ حتي يعم الصراخ ارجاء المسرح. ورغم كل ذلك فهي لا تحرم نفسها من حقها في الاداء بدرجات عالية من الجودة والانصهار, ولا تسمح لأحد مهما بلغ أن يجور عليها أو يحد من انطلاقها, فالتواضع المسرحي الذي تتحلي به يدور في رحاب الكبرياء المسرحي, فهي صاحبة العرض والمسئولة عنه, وهي التي تدير الضحك من خلال توقيعات شفهية وأدائية. تربعت سهير البابلي علي عرش الكوميديا النسائية سنينا طويلة, لم يزاحمها أحد أو يقلل من توهجهها, وتمتعت بذكاء فني جعلها تقدم عروضا مسرحية لا تتشابه سواء في الافكار أو طريقة العرض, كان هناك جديد تحرص علي تقديمه, وعندما نورد أسماء أعمالها المسرحية نكتشف فورا مكانة هذه الفنانة القديرة علي المسرح, سواء من خلال مسرحية "نرجس" أو "عايزة أتكلم، عطية الإرهابية، ع الرصيف، ريا وسكينة، يا حلوة ما تلعبيش بالكبريت، مدرسة المشاغبين، الفرافير، جوزين وفرد، القضية، العالمة باشا، الدخول بالملابس الرسمية، نص أنا ونص أنت", فجميع أعمالها كاملة العدد ولم تغلق أبوابها يوما في وجه الجماهير. ونادرا ما نجد ممثلة مسرح قديرة لها باع في السينما والتليفزيون والاذاعة, لكن سهير البابلي حطمت هذا الاعتقاد, وقدمت اعمالا متميزة في كل روافد الابداع, البداية كانت مع العمالقة في المسرح القومي (في بيتنا رجل, الناس اللي فوق, الخال فانيا, القضية, الفرافير, حلاوة زمان) وغيرها من الاعمال التي كتبها كبار المسرحيين والكتاب في مصر, ثم انتقلت إلي المسرح الكوميدي وقدمت اعمالا متميزة مع عتاولة الكوميديا وحفظت لها مكانة مرموقة, أما في الاذاعة (ينابيع الحب, وجه ملاك, لا شيء سوي الحب, علي الزيبق, زقزوق وأولاده في العيد) وغيرها من الاعمال التي شكلت تراثا اذاعيا رفيعا, وفي دراما التليفزيون واصلت التميز والقدرة الفائقة علي التنوع من خلال أدوار غير متشابهة (قلب حبيبة, بكيزة وزغلول, عش المجانين, صابرين, عواصف, العصفور والقفص) وكانت علامات مضيئة مع بدايات التليفزيون وحتي وقت قريب. وفي السينما كانت له طلة تنوعت ما بين الكوميديا والتراجيديا, ونافست نجمات السينما من خلال ادوات فنية رفيعة وملهمة وقدرة علي المعايشة والاندماج (ليلة عسل, الاونطجية, دقة زار, السيد قشطة, حدوتة مصرية, انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط, استقالة عالمة ذرة, اميرة حبي أنا, الحلوة عزيزة, الشجعان الثلاثة, العميل 77, جناب السفير, اخطر رجل في العالم, يوم من عمري, ساحر النساء) والعديد من الاعمال السينمائية الاخري التي اغلقت بها دائرة الابداع والتنوع. ستبقي أعمال سهير البابلي تراثا كوميديا رفيعا يذكر الاجيال التالية بأن مصر شهدت فنانة كوميدية بارعة وغير اعتيادية طافت علي المسرح والسينما والتليفزيون والاذاعة, ولم تنكمش في رافد أو تبرع في تجاه محدد, بل ملكت موهبة عريضة ومتسعة مكنتها من الولوج لكل الروافد الفنية لتبدع وتفن بقدرات عالية, وستظل أعمالها علامات مضيئة ليس في تاريخ المسرح الكوميدي بصفتها سيدة الكوميديا في الشرق, ولكن في تاريخ الفن المصري لفترات طويلة حتي يأتي من يحل محلها أو علي أقل تقدير يسير علي دربها, ونزعم أنه ليس في استطاعة فنانة أخري أن تأتي بما أتت به سهير البابلي التي اسعدتنا وابهجتنا ورسمت الابتسامة علي قلوبنا قبل شفاهنا.