منذ إعلان واشنطن عن نيتها في سحب قواتها من إفغانسان رجح خبراء هذد الخطوة إلى رغبة الولاياتالمتحدة في التركيز علي بؤرة الصراع الأخطر والأهم, والتي تضعها في مواجهة مباشرة مع القوي العظمى الثانية في العالم, أي بحر الصين الجنوبي. ويبدو هذا الطرح منطقياً علي ضوء الصراع الصيني الأمريكي وحجم التوترات الكبير القائم في بحر الصين الجنوبي بين الصين من جهة, وفيتناموتايوان وبروناي و لفيليبين وماليزيا وكمبوديا وسنغافورة من جهة أخرى. فقد عرف عن السلوك الصيني في مواجهة الدول المجاورة لها فيما يخص هذه المنطقة, أنه يتسم بالعنف والصلابة في مواجهة جيرانها الذي يعتبرون أن لهم حقوق سيادة علي مناطق متفرقة من هذه الرقعة البحرية الواسعة. بحر الصين الجنوبي يقع علي مساحة 3.5 مليون كيلو متر مربع, تتقاسمه الدول المجاورة التي ذكرناها سابقاً, وتحاول الصين فرض السيطرة الشاملة عليه بصفته المنفذ الأهم لتجارتها مع العالم.وهو يضم أشهر مجموعتي جزر متنازع عليها في العصر الحديث, وهي جزر باريسيل وسيبراتلي, والتي تعني السيادة عليها السيطرة الكاملة علي البحر والنشاط التجاري فيه. تدعي الصين ملكيتها لهذه الجزر في مواجهة إدعاءات بقية الدول المجاورة, وبسبب هذه الإدعاءات شهد النصف الثاني من القرن العشرين مواجهات عسكرية بين هذه الدول كادت أن تتطور لحرب شاملة, وأبرزها عام 1974 حين أستولت الصين علي جزر باريسيل من فيتنام, كذلك عام 1988 اصطدم الصينيونوالفيتناميون حول جزر سيبراتلي. وفي عام 2012 دخلت الفيلبين مع الصين مواجهات بحرية واسعة علي شعاب سيكربرا الواقعة في قلب البحر, وفي نفس العام اتهمت فيتنامالصين بالتخريب العمدي لمنصتي استكشاف فيتناميتين, بالإضافة لسلسلة من حوادث التصادم بين البحرية الصينيةوالفيتنامية. وفي هذا المناخ العدائي, تنتهز الولاياتالمتحدة الفرصة للتداخل في الصراع وتخطط لأن يكون نقطة الانطلاق للمواجهة المباشرة مع الصين, بعد أن أصبح من الواضح أن التفوق الاقتصادي والتكنولوجي الصيني من الصعب إيقافة بالطرق التقليدية أو حتي عبر الحرب التجارية التي أطلقها ترامب مع الصين, والعقوبات الاقتصادية التي أثبتت فشلها. تسعي الولاياتالمتحدة لخنق التجارة الصينية الكبرى عبر السيطرة علي معبرها التجاري الأهم, لكن يبدو أن هذا الهدف لن يتحقق إلا عبر مواجهة عسكرية جزئية في البحر. مستعينة في ذلك بأعداء الصين في المنطقة المرجح قيام اشتباكات بينهم وبين الصين, والذين يعانون من عدم القدرة علي المواجهة العسكرية مع الصين, والمكبلون بشراكات اقتصادية كبيرة معها. علاقة الولاياتالمتحدةبتايوان قوية وثيقة منذ تأسيس تايوان كدولة مستقلة عن الصين, حيث تعتبر الأخيرة أن تايوان جزء أصيل من أراضيها, كذلك وقعت الولاياتالمتحدة مع الفيلبين معاهدة دفاع مشترك عام 1951 التي تحظي بعلاقات عدائية تاريخية مع الصين, ويزداد التقارب مع فيتنام يوماً بعد يوم منذ أن أصبحت فيتنام منافساً للصين في بعض القطاعات التصديرية, ومحاولة الولاياتالمتحدة الاعتماد علي فيتنام لاستبدال السلع الصينية الواردة للأراضي الأمريكية بأخرى فيتنامية. الاستراتيجية العسكرية لدي الولاياتالمتحدة الآن خمس قواعد عسكرية في الفلبين وقاعدة واحدة في فيتنام محدودة القوة, بالإضافة لقطع بحرية متحركة تجوب البحر الصيني, 3 حاملات طائرات ووحدتين برمائيتين وعدد غير معلوم من الغواصات النووية. في أحدث استراتيجية لتطوير البحرية الأمريكية في مواجهة "خصوم" الولاياتالمتحدة, والمعنونة ب "تميز في البحار: السيادة عبر القوة البحرية المتكاملة في جميع المجالات" التي نشرت في ديسمبر 2020 لتحل محل الاستراتيجية السابقة المعتمدة علي التعاون العالمي (صدرت لأول مرة في عام 2007 و تم تحديثها في عام 2015), تعتمد استراتيجية التميز في البحار علي ثلاث أسلحة ( البحرية ومشاة البحرية وخفر السواحل). يأتي في الاستراتيجية " إن السيطرة على البحار تمكن الخدمة البحرية من تقديم الطاقة لدعم جهود القوات المشتركة وحماية القوات المشتركة والحليفة التي تشغل مسرح الصراع. وحيث يتعين على الخصوم عبور المياه المفتوحة، فإن السيطرة علي البحر يسلبهم القدرة علي المبادرة، ويمنعهم من تحقيق أهدافهم. نحن نسيطر على البحار أو نستخدمها لتدمير أسطول الخصم، ولاحتوائه في المناطق التي تمنع العمليات المجدية من ناحيته، أو تمنعه من مغادرة الميناء، أو عن طريق التحكم في خطوط الاتصال البحرية. وبالتعاون مع الحلفاء والشركاء، سنكون قادرين على السيطرة على نقاط الاختناق الحرجة للخصم، مما يمكننا من حماية القوات المشتركة-وفرض تكاليف عسكرية واقتصادية باهظة عليه". تركز الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة علي القوات البحرية أولاً, و بالخوض في قراءة الأجزاء المعلنة منها, يمكننا أن نسنتنج أن المستهدف العسكري الأمريكي هو تدمير القدرات البحرية الصينية ومنعها من التوغل في بحر الصين, وفي نفس الوقت, احتواء الموقف لكي لا يتطور لحرب شاملة مع الصين, ودون أن تضطر القوات الأمريكية أن تقوم بإنزال عسكري في الأراضي الصينية, و ذلك عبر القدرة علي ضرب الأهداف العسكرية في العمق الصيني عن بعد بالقدرات العسكرية الجديدة التي تُحشد الآن بشكل غير مسبوق في بحر الصين. في مقال نشر بجريدة الفورين الأفيرز يونيو 2020, يخلص أحد المحللين العسكريين الأمريكيين أنه "إذا استطاعت البحرية الأمريكية تدمير الأسطول البحري الصيني والسفن التجارية الصينية في مدة لا تزيد عن 72 ساعة في بحر الصين الجنوبي, سيجبر قادة الصين علي التراجع عن محاولة غزو تايوان كرد فعل والتورط في حرب شاملة مع الدول الحليفة المجاورة". وهو ما يتسق تماماً مع لغة الاستراتيجية الجديدة. ويتطلب ذلك أن تطور الولاياتالمتحدة آلياتها العسكرية لهذا النوع المحدد من الاشتباكات, حيث الهدف هو حماية القوات العسكرية للدول الصديقة في بحر الصين مما يمكنها من السيطرة علي الجزر التي تدعي هذه الدول أحقيتها فيها, والتي منعتها الصين من السيطرة عليها طوال فترات طويلة, وفي حال حاولت الصين غزو واسترداد هذه الجزر, ستتمكن القوات البحرية الأمريكية من إيقاف الهجوم, بل وستسعي لتدمير كامل القوات البحرية الصينية في المنطقة. تستند الاسترايتجية العسكرية الأمريكية إذاً, علي دعم الدول الحليفة للسيطرة علي بحر الصين الجنوبي, وفي حال حاولت القوات البحرية الصينية منع ذلك وفرض هيمنتها علي البحر, تكون البحرية الأمريكية المُطورة لها اليد العليا لسحق البحرية الصينية دون اضطرار القوات الأمريكية أن تغزو الأراضي الصينية ليتطور الوضع نحو حرب متعددة الأطراف. وبهذا يغلق منفذ التجارة الصيني الأهم. وإذا تمكنت الولاياتالمتحدة من تحقيق هذا الهدف, سيؤدي ذلك لشلل كبير في الاقتصاد الصيني المستند علي التصدير, وبذلك ينقلب الموقف الاستراتيجي لتصبح الصين في موقف الضعف وليس القوة, علي عكس ما هو قائم الآن. وأحد مفاهيم الاستراتيجية (حيث تنقسم الاستراتيجية إلى بنود تطوير منضوية تحت مفاهيم رئيسية) هو مفهوم "الفتك الموزع", والذي يستهدف تطوير القوات البحرية إلى أن تتحول "القطع البحرية ذات القدرات الهجومية الضئيلة, مثل السفن البرمائية واللوجيستية, إلى قطع لديها قدرة هجومية عالية, وأن تكون موزعة بشكل ديناميكي يُمكنها من الاستهداف المتكرر في مدة زمنية قليلة نسبياً لقوات العدو المتقدمة". و يعني ذلك أن هناك بعض القطع البحرية المستخدمة في البحرية الأمريكية والمصممة للاستهداف بعيد المدى, سيتم العمل علي تطوير قدراتها لتصبح وحدات قادرة علي الدفاع عن نفسها دون الاعتماد المتزايد علي القطع مساعدة. كما يجب أن تكون قدرات الإصلاح و إعادة التشغيل لها أثناء المعركة فعالة و قليلة التكاليف. تسعى الاستراتيجية لرفع قدرات القوات العسكرية للدول الحليفة للولايات المتحدة التي ستشترك مع البحرية الأمريكية في أي عمليات مستقبلية, عبر التدريب المشترك و التطوير التكنولوجي, لإحداث "تناغم" بين القوات الحليفة والقوات الأمريكية أثناء الاشتباك مع قوات الخصم, بهدف الهيمنة الكاملة علي البحار. وهو التطوير الذي بدأ بالفعل منذ الإعلان عن الاستراتيجية في مطلع عام 2020. إجمالاً تهدف الاستراتيجية إلى نشر قوات متقدمة من أجل الردع, "سنردع الخصوم المحتملين من التصعيد نحو الصراع بجعل تلك المعركة غير قابلة للفوز بالنسبة لهم. إذا اختار خصومنا مسار الحرب، فإن القوات البحرية والمشتركة ستهزم قوات الخصم وتفرض تكاليف عالمية عليه من خلال الاستفادة من قدراتنا التشغيلية في زمن الحرب". تحت أي ظرف ستدخل الولاياتالمتحدة في صراع مباشر مع الصين في بحر الصين الجنوبي ؟. قال وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو في مارس 2019 إن معاهدة الدفاع المتبادل لعام 1951 بين الولاياتالمتحدةوالفلبين تنطبق على بحر الصين الجنوبي: "بما أن بحر الصين الجنوبي جزء من المحيط الهادئ، فإن أي هجوم مسلح على القوات الفلبينية أو الطائرات أو السفن العامة في بحر الصين الجنوبي سيؤدي إلى التزامات الدفاع المتبادل بموجب المادة الرابعة من معاهدة الدفاع المشترك". في هذا السياق، يمكن أن تستدعي الفلبين التدخل الأمريكي في حالة المواجهة علي المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي. وبالمثل، من المحتمل أن ينطوي التدخل الأمريكي المحتمل في صراع عبر المضيق مع تايوان، أو في شكل اشتباك صيني أمريكي نتيجة تجدد الأعمال العدائية في شبه الجزيرة الكورية, على عمليات في بحر الصين الجنوبي.