لم تصل العلاقات الروسية الأمريكي لما وصلت إليه الآن من مستوى متدن فى أى وقت من الأوقات، ولا حتى بعد تدخل الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان، ولم يصل الأمر إلى أن تطرد موسكو السفير الأمريكى لديها، ولا أخشى استعمال كلمة طرد، لأن هذا ما حدث بالفعل، ولم أكن أتوقع أن يستجيب السفير الأمريكى لما وصفه الجانب الروسى بالنصيحة للسفير بالمغادرة، والطريف أن بعض وسائل الإعلام بررت مغادرة السفير، برؤية أسرته التى لا تقيم معه فى موسكو، وبررها البعض الآخر بالتشاور مع قياداته، فى النهاية غادر السفير الأمريكى، والسفير الروسى فى موسكو. لكن هل تنتهى الأمور لهذا الحد، لا فواشنطن لها "صبيان" فى أوروبا ويريدون مجاملة المعلم الكبير خلف المحيط، فإذا بدولة مثل التشيك لا تكاد تُرى على خريطة أوروبا تقوم بطرد 18 دبلوماسياً روسياً، لكنها لم تكن موفقة من حيث التوقيت، فقد قامت بذلك فى ذروة هيجان الدب الروسى، فقام هو الآخر بطرد 20 دبلوماسيا تشيكيا. ما دفع التشيك إلى رفض عرض روس آتوم وإخراجها من مناقصة إنشاء محطة كهرباء نووية، واتهام عنصرين من المخابرات الروسية بالاشتراك فى تفجير مخزن ذخيرة، واعلن الجانبان أن عدد الدبلوماسيين لن يزيد على 6 دبلوماسيين من كلا الجانبين مع حلول شهر مايو. يأتى هذا فى الوقت الذى تحشد فيه دول حلف الناتو القوات فى البحر الأسود، وبعد إحجام الولاياتالمتحدة عن إرسال سفن حربية للبحر الأسود، قررت بريطانيا إرسال سفينتين إلى البحر الأسود، فى الوقت الذى تمد فيه الولاياتالمتحدةأوكرانيا بالصواريخ لكى تواجه الجيش الروسى المحتشد على حدودها. خطاب بوتبن يوم 21 أبريل ألقى الرئيس بوتين خطابه السنوى الموجة إلى الجمعية الفيدرالية (البرلمان بغرفتيه). الرئيس بوتين تقريباً لم يتحدث كثيراً فى السياسة الخارجية واقتصر الخطاب فى أكثر من 85% من على الجوانب الاجتماعية وتحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين الروس خاصة بعد جائحة كورونا، ولم يتحدث فيما يتعلق بالسياسة الخارجية إلا فى أشياء محدودة، مثل دخول صواريخ الردع الاستراتيجية الروسية "صرمات" إلى الخدمة فى الجيش الروسى مع حلول عام 2022، وقوله على الجميع ألا يتخطى الخطوط الروسية الحمراء وإلا سيكون رد روسيا قاسيا وفى الوقت المناسب، استغراق الرئيس بوتين فى الخطاب وتركيزه على الأوضاع الداخلية جعل موقع بلومبيرج يصفه بأن حملة انتخابية مبكرة للرئيس بوتين، فى تقدير الخبراء الرئيس بوتين كان يقصد التركيز على القضايا الداخلية بالفعل ربما لكسب الداخل الروسى لمواجهة الغرب بعد أن بلغ التصعيد مداه بطرد السفير الأمريكى. لكن على ما يبدو الأزمة ستشهد نوعا من الانفراجة، فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن انتهاء مناورات قامت بها، أن القوات الروسية التى تواجدت فى جنوب وجنوب غرب البلاد (بالقرب من الحدود مع أوكرانيا) وفى القرم والبحر الأسود، ستعود إلى مناطق تمركزها، ورحب الرئيس بوتين بزيارة رئيس أوكرانيالموسكو فى أى وقت (كان الرئيس الأوكرانى زيلينسكى قد طلب لقاء الرئيس بوتين فى منطقة الدونباس المتنازع عليها) وطلب الرئيس الروسى من رئيس أوكرانيا أن يناقش مسألة الدونباس من خلال رباعية نورماندى، حيث روسيا عضواً بها وطلب الرئيس بوتين زميله الأوكرانى بالتحدث بنفسه مع شعبه فى الدونباس، أما لقاء موسكو فهو سيكون لتطبيع العلاقات بين روسياوأوكرانيا من وجهة نظر الرئيس بوتين. انفرجة وشيكة بلغ التوتر مداه، فهل تحدث انفراجة قريبة فى الأزمة الحالية، أو من سينتصر فى المواجهة الحالية. الولاياتالمتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتى وهى تراهن على عالم أحادى القطب تتحكم هى فى مقدراته، لكن روسيا بوتين وبعد أن تعافت اقتصاديا وعسكرياً لم تعد ترضى بدور الوصيف أو السنيد للولايات المتحدة، أن تنفذ الرغبات التى تحقق مصالح عدو الأمس، واقترحت روسيا على واشنطن أن تراعى مصالح كافة الأطراف أو تحديد مناطق نفوذ لكل طرف بما فى ذلك الصين، غير أن واشنطن رفضت ذلك، مع أنه لو تفحصنا وجهة النظر الروسية جيداً نجد أن فيها حماية للولايات المتحدة، فالجميع يدرك الزحف الصينى الصامت إلى كل مكان فى العالم وهو الذى سيجرد القطبين الكبيرين من نفوذهما دون أن يدريا بسبب الغطرسة الأمريكية. على أى حال هناك توقع أن تحدث انفراجة فى الأزمة الحالية وقد يكون هذا من خلال التوصل إلى تسوية فى الملف الأوكرانى، قد تدفع بأوكرانيا إلى أحضان الاتحاد الأوروبى والناتو فى مقابل التخلى نهائياً عن القرم، الذى لو تخلت أوكرانيا عنه فإن الغرب غير مستعد للتخلى عنه، فعدم وجود إطلالة روسية على البحر الأسود ومن نقطة متقدمة مثل القرم، سيحرمها من أن تكون قوة عظمى فى المستقبل، أما دولة مثل تركيا والتى ترفض الاعتراف بالقرم جزءا من روسيا حتى الآن فإنها لن تقبل بتنازل أوكرانيا عن القرم، ولمن لا يعرف، أعمدة روسيا كقوة عظمى ثلاث هى أوكرانيا (روسيا لن تتركها تذهب للناتو والاتحاد الأوروبى) والقوقاز وهو محل عبث تركى أما كازاخستان العمود الثالث بوسط آسيا فهى عاصمة تركستان الكبرى التى ترغب تركيا وتحلم بإنشائها وصولاً إلى الصين، تدرك روسيا من حروب امتدت 500 عام مع الأتراك أهداف أنقرة الاستراتيجية. دول أوروبا روسيا ستظل تحافظ على هذه الأعمدة الثلاثة إلى ما لا نهاية إذا كان ترغب فى المستقبل العودة إلى وضعها السابق كقوة عظمى. نحن الآن فى انتظار ما ستنتهى إليه الهبة الأخيرة من التوتر ومن سيكسب فى النهاية ومن سيخسر. فى كل الأحوال بعض الدول فى أوروبا تبالغ فى إظهار الولاء للولايات المتحدة مثل بولندا، التى طردت ثلاثة دبلوماسيين روس وفى المقابل روسيا أرسلت خمسة بولنديين، أما جمهورية التشيك فقد تضامن معها الجزء الثانى من تشيكوسلوفاكيا السابقة وهى جمهورية سلوفاكيا وطردت ثلاثة دبلوماسيين روس. وعلى الصعيد الداخلى فى روسيا أعلن نافالنى عن أنه أوقف إضرابه عن الطعام بعد أن فحصه الأطباء من آلام كان يعانى منها فى الظهر والقدم، وتظاهرات محدودة فى موسكو وبعض المدن الروسية الأخرى تعاملت معها السلطات بلطف. الثورات الملونة يبدو لى أن الغرب لم يدرك بعد أن مسألة الثورات الملونة التى نجحت فى أوكرانيا وجورجيا لا يمكن أن تنجح فى روسيا لعدة أسباب، أولاً لأن روسيا هى أكثر دولة فى العالم شهدت ثورات ويعلم الشعب الروسى الأثر الهدمى لهذه الثورات، ثانيا لم يدرك الغرب الطبيعة الجغرافية لروسيا والمساحة الضخمة، فلكى يسيطر البلاشفة بعد ثورة أكتوبر على البلاد اندلعت حرب أهلية لعدة أعوام عانت فيها البلاد من المجاعة، وخربت كل شيء، ثالثاً لدى الشعب الروسى من الوعى ما يجعله يرفض السم فى العسل الذى يدسه الغرب من خلال دعايته من آن لآخر، ومن يجرى خلف الثورات الملونة هم من الشباب المراهقين الذين لا يملكون من أمرهم شيئا سوى التظاهر دون جدوى. تفيد أخر الأنباء أن القوات الروسية التى تحركت للقرم وبالقرب من الحدود الأوكرانية قد عادت إلى أماكن تمركزها التقليدية، بعد أن وجهت روسيا رسالة هامة للغرب مفادها أننا سندافع بكل قسوة عن خطوطنا الحمراء التى رسمتها بلادنا فلا تقتربوا منها كما أشار الرئيس بوتين فى خطابه الأخير.