مضينا نتحسس مكان جلوسهم, فئة نعرفهم, وجميعهم يعرفون بعضهم البعض, يتجمعون بجوار صهريج المياه, تجمعهم ظلال الأشجار الكثيرة المتناثرة حوله, جلساتهم لا تنتهي, يتبادلون فيها أطراف الحديث, يمرون على كل شيء, ويتناقلون الأخبار التي تقع في جحورهم أثناء التجوال, يظهرون لمن يراهم, وكأن مصيرا واحدا هو سر هذا التقارب, وأشد ما كان يقلقهم افتضاح سر يعرفونه , يخص أحدهم. إذا ما اقتربنا منهم, كانوا ينظرون إلينا بتوجس, كما لو كنا جيشا من الغزاة جاء من أجل احتلال ما يملكونه في الحياة! ويتبرع واحد منهم بهشنا بجملة واحدة: العب بعيد يا واد أنت وهو. نتسمر أمامهم للحظات بعد هذا الأمر, تجمد الأشجار, وتغيب الريح, وفي النهاية نتحرك, ومعنا الحقيقة المرة أنهم كانوا يرهبون بعضنا, ونحن نتحرك تحت ضغط لائحة طويلة من النواهي والأوامر من الأمهات بعدما تغرَّب الآباء في بلاد الناس, نغادر الرهبة في جماعة واحدة, ومعنا الشائعات التي انتشرت بين أهل البلدة, منهم من ذهب إلى أنهم فئة من المجانين, تسربوا من المستشفى بعد حادث السيل الذي أغرق المدينة, وهذا الرأي هدمه من أخبرهم بأن الغرباء يمارسون حياتهم بالعقل, وبقي رأي الكهل الذي مد خيوط الكلام وأقسم بأنهم من نسل من رحلوا من البلدة في زمن الفيضان, شدتهم رائحة أجدادهم, هذا الكلام لاقى قبولا لدى فئة كبيرة من الناس تعرف أن مكان الصهريج كان مكان المقبرة القديمة. نصر على وجودنا من بداية حضورهم, نتابعهم وهم يتسابقون إلى كبيرهم, كأنهم لم يكونوا معه في اليوم السابق, يقابلونه بالأحضان, وما أن يفلت الواحد منهم حتى يتعلق بيده ويقبلها, مرات قليلة التي تبعنا بعضهم, كان أول من تبعنا, أكبرهم, كان أقلهم إبداءً للرأي, يسمع أكثر مما يتكلم, دائم الصلاة والصمت, إلا أنه كان أكثرهم حركة, لدرجة أننا ونحن نتابعه, كنا نجد مشقة في مسايرته في العدو, وجدناه لا يخالط الناس, وطول مشواره, يمنح الطريق وجهه, لم ينحرف قيد أنملة, حتى دخل بنا دربا لا منفذ له, وقف في منتصفه, ومال إلى باب بيت لا يختلف عن البيوت الملاصقة له, فلما طرق الباب, رأيناه يفتح, وتبرز منه ذراع, تمتد لخارجه, كانت جميلة ويمرح عليها بياض لا مثيل له, شدته من ياقة جلبابه, وغاب. جلسنا على مقهى يطل على الدرب بواجهة زجاجية, يسرت لنا مراقبة البيت, وشغلنا أنفسنا بتتبع ما يفعله مع رفاقه, اكتشفنا أنه كان ثالث من انضم إليهم, ووجهه أكثرهم إشراقا, وأقلهم رغبة في الأكل أو طلب السجائر من المارة, وإذا رغب في الشاي, تكفيه رشفة واحدة, أما بخصوص الطعام, كان يتناول بضع لقيمات يصلب بها جسده. ظل داخل البيت حتى رحلت الشمس, لمحناه يغادره, توارينا حتى لا يلمحنا, وعدنا معه, لنقطع نفس المسافة التي قطعناها في رحلة الذهاب, وجدناه أكثر نشاطا, خطواته اكتسبت ثقة غريبة, جعلنا نتعثر في دهشة اتسع مجالها, كاد بعضنا أن يفقد توازنه, فلما أصبحنا على مشارف البلدة, وجدناهم يقفون في انتظار الأتوبيس, وقفنا حتى جاء, وشاهدناهم وهم يصعدون, ثم وهم يتراصون بجوار بعضهم, والغبار يتصاعد, طرق بعضنا باب السؤال: إلى أين سيذهبون؟ أحدنا تبرع بالإجابة قائلا: إلى حيث جاءوا! ثم تفرقت بنا السبل. وفي الصباح التالي ليوم تتبع الرجل, عدنا إلى أرض الصهريج, لنجد عددهم قد نقص بمقدار واحد, وبعد أن مررنا على الوجوه, أدركنا أن من غاب هو ذاته من كنا نلاحقه في اليوم الفائت, وحتى نهرب من عبء التفكير, صنعنا كرة من جورب قديم وجدناه ملقى بجوار جدار أحد البيوت القريبة من مكان جلوسهم. كانت المرة الأولى التي تجمعنا فيها لعبة, بل كانت المرة الوحيدة أيضا التي يرانا أهلنا ونحن نركض كالخيل, ومع الوقت واستمرار اللعب تحرك أحدهم وشاركنا, وتوالى انضمامهم واحدا خلف الآخر, حتى وجدنا أنفسنا نلعب لعبة ليست التي نعرفها! صيحاتنا كانت أشد, وصيحاتهم كانت كالموسيقا, الاكتشاف جعلنا ندرك الفرق بينهم وبيننا, فعدنا إلى بيوتنا, ورفع كل واحد منا صوت المذياع الذي في بيته, ليدخل إلى كل الغرف, والفائض منه تسرب إلى الرهبة التي لم تعرف إلا المعارك الصغيرة والشجارات اليومية بين النساء, وظننا أننا بما فعلنا أوجدنا سعادة تقترب من سعادتهم التي كنا نراها واضحة على وجوههم, أمر لم يثبت لنا, فكثفنا من مراقبتنا لهم. وجدنا أحدهم قد نال نفس صفات الغائب منهم, وكنا في أثره وهو يذهب إلى نفس البيت, حرص على ألا يخالف من سبقه في أي تفصيلة, مهما كانت, حتى الوقت الذي غابه كان هو نفس الوقت الذي قضاه أولهم, وحينما خرج لاحظنا أنه لم يتكلم مع أي عابر يصادفنا, فاكتشفنا شطرا من الطقوس لم ننتبه إليها مع الغائب, فملكنا السؤال: كيف لم نفطن إليها؟ وحاولنا أن نجد سببا مقنعا لتلك الغفلة, تفرعت بنا السبل, وذهب كل واحد منا إلى جهة ظهرت له, منا من أرجعها إلى ما تناولناه من مشروبات منبهة على المقهى, فكثرتها حسب ما قال توجد نوعا من الخدر الذي يلغي جزءا من اليقظة, فتتوقف بعض الحواس, ومنا من اعتمد على الغواية التي أحدثتها بداخلنا الذراع البضة البيضاء, التي ظهرت وامتدت خارج البيت, أما أكثرنا تأملا, فقالوا العيب في المؤامرة التي يوجدها الوقت لنا, طالبناه أن يفسر وجهة نظره, قال إنهم يسيرون وحولهم حجب, أحيانا تصبح غير موجودة, وأحيانا أخرى تسرق حضورهم, وفي كلتا الحالتين لا يخترقها إلا المحبون, وأطلق على الحالة: جدار الصمت, إلا أنه حينما قاربنا على أن تفرقنا السبل, غير المعنى إلى جدار الحب! وفي اليوم التالي, وكما حدث في المرة التي اختفى فيها الأول, وجدناهم فقدوا واحدا, فصرخنا, وأصبحنا نخشى الاقتراب منهم, زادت المسافة بيننا وبينهم, نتجنب وجودنا في مرمى نظراتهم, فخفتت وطأة الحكايات التي كنا نسمعها منهم, في تلك الأيام, أضافوا أشياء جديدة إلى الحياة من حولهم, غرسوا في غفلة من الناس أشجارا للزينة وأخرى مثمرة, وحفروا بئرا أصبح الناس يردونها, وحوض سقاية للدواب, وهم ظلوا في منتصف الحلقة التي بنوا حولها ذلك السور الأخضر, فغابت أصواتهم, وعندما كنا نحدق من خلال الفراغات الموجودة في السور, كانوا يبعدون وجوههم إلى جهات لا يكون لنا فيها عين تترصدهم, فتخلينا عن مراقبتهم, وعن تتبع من يغادرهم, فزادت خلافاتنا, وأصبحنا كثيري الشجار, نتعارك على أتفه الأسباب, ونعود لبيوتنا بخدوش تستقر على وجوهنا, وبملابس ممزقة, وهم كانوا يراقبون ما يدور بيننا, ولا يتدخلون, حتى جاء اليوم الذي نشب الخلاف الأول بينهم, وقتها كانت المسافة بيننا وبينهم كبيرة, لمحنا التعارك بالأيدي, ولم تصلنا الكلمات التي كانوا يتبادلونها, لحظتها فقط عُدنا لمراقبتهم, وأدركنا أنهم أصبحوا مثلنا, عادوا صغارا, فضحكنا, وبعد أن عاد الهدوء إليهم, لم نعد إلى حالتنا التي كنا عليها, وجدنا ما شغلنا, تحيز كل فريق لواحد منهم, نشد من أزره, ونعينه ببعض الكلمات القليلة على سبيل التشجيع, وأصبحنا نضحك, ولا شيء يوقفنا, وامتدت العدوى منا إلى جميع أهل البلدة, نسير في الطرقات ونضحك, فتتردد الضحكات في كل مكان, ولما تعبنا من توبيخ العجائز , قررنا الوقوف عن الضحك, عانينا كثيرا في سبيل التخلص من مواقفهم التي أصبحت ترافقنا, وبعد تفكير جدي فيما بيننا, رأينا أن الشفاء يكمن في طردهم, فعزمنا أمرنا ذات يوم, وتوجهنا إليهم, فلم نجدهم, ولم نجد الأشجار, وكأنهم ما وجدوا, وقفنا والذهول يتجول على وجوهنا والسؤال الوحيد يدور بيننا: أين ذهبوا؟ وقبل أن ندير ظهورنا للمكان, ولد صوت عميق كان كالصيحة, جاء من منتصف المكان الذي كان لهم, يدعونا إلى رحلة أخيرة إلى ذلك البيت العجيب, وبرر لنا تلك الرحلة من خلال رغبتنا في معرفة الحقيقة, وحتى لا نهرب من قبضته جعلنا نؤمن بأن الحقيقة تسكنه. تحركنا, وكنا كلما ألقينا السلام على أحد المارة, لا يرد علينا, لما تكرر الأمر قال أحدنا: لقد أصبحنا غير مرئيين, حسبناه يهزأ بنا, فمضينا, ونحن نحافظ على عادة إفشاء السلام, حتى وجدنا أنفسنا ندخل الدرب, ونصل إلى البيت الذي كنا شهود عدل على غياب من اختفى بداخله. اقتربنا والخوف يكبل أجسادنا, وكان لا بد أن نمتلك الجرأة حتى نزيل ما تراكم داخلنا, فتقدمنا ووقفنا أمام الباب, ومنحنا لعيوننا الفرصة المناسبة لنكتشف كل شيء, كان عليه الكثير من النقوش, بلغات مختلفة, لم نفلح في ترجمتها, فغضضنا الطرف, وامتدت أيدينا وبحركة واحدة طرقنا الباب بقوة وتراجعنا للخلف خطوة واحدة, ننتظر تلك اليد البضة, فنشب التدافع بيننا, كل واحد يريد أن يكون هو من تشده للداخل, طال وقوفنا, وقبل أن يقتلنا الملل, فتح الباب, ووجدناهم بداخله, وعلى وجوهم نداء مضمر بأن نجتاز الباب.