حاول الكثيرون اثنائها عن الفن لكنها لم تكترث وشقت خرسانات التخلف وجدران الرجعية، وراحت تعزف بأناملها على بيانو العمر سيمفونية الخلود، لم تكن معالم الطريق تنبئ بأى ومضات، فالغبار والجدل كانا يجدان مساحة شاسعة للألسن التى شغفت بالتربص والملاحقة، جعلت كثيرا من الرجال يؤثرون السلامة ويبتعدون عن الساحة، لكنها أخذت قرارها بالمضى، فالفن بالنسبة لها كانت الرئة التى امدتها بالحياة، أعطت الجهد والمال وراحة البال، وكانت النهاية مأساوية لكنها ارتضتها عن طيب خاطر، انها بهيجة حافظ ابنة الباشوات والتى ولدت فى الإسكندرية فى 4 أغسطس 1908 كانت إحدى رائدات هذا الفن والتى كان لها إسهام مرموق – للأسف – تناسى مع مرور الزمن. أغلب الظن إن الفن لجأ إليها للاستفادة من طاقاتها الإبداعية التى كانت غير معهودة فى ذاك الوقت، فأقبلت لتفرغ كل ما بحوزتها فكانت بداية للغيث الذى راح يسقط ولم ينقطع حتى يومنا هذا، تلقت تعليمها ما بين مدرستى "الفرنسيسكان" الإيطالية و"الميردو ديوه" الفرنسية بالإسكندرية، كان والدها إسماعيل محمد حافظ ناظر الخاصة السلطانية فى عهد السلطان حسن كامل هاوياً للموسيقى، مارس تأليف الأغانى وتلحينها، وكان يعزف على العود والقانون والرق والبيانو، وكانت والدتها تعزف على الكمان والفيولنسيل، بينما أخوتها يعزفون على الآلات المختلفة، بدأت العزف فى سن مبكرة حيث لم يتجاوز عمرها 4 سنوات وألّفت أول مقطوعة موسيقية وهى فى التاسعة. سافرت إلى فرنسا لتدرس الموسيقى فحصلت على دبلوم الموسيقى، ثم سافرت إلى برلين ودرست الإخراج والمونتاج فى أكبر معاهدها، فهى أول مصرية تقبل فى جمعية المؤلفين بباريس، وأول مصرية تضع موسيقى تصويرية للأفلام، وهى أول بطلة فى تاريخ السينما، كما أنها صاحب أول اسطوانة ظهرت فى السوق عام 1926 وقد حملت اسمها، أسست شركة للإنتاج السينمائى، وكانت تضع موسيقى الأفلام وكتبت وأخرجت العديد من الأفلام وصممت كثيرا من ملابس أفلامها، أنشأت أول نقابة للمهن الموسيقية عام 1937، ووضعت الموسيقى التصويرية، كانت تجيد الانجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية. لم تهنأ بحياة زوجية مستقرة، فسريعا تزوجت من أمير إيرانى خاصمت طباعه الموسيقى، وسريعا انفصلت عنه، وبعد وفاة والدها اتخذت الحياة شكلا آخر، وتبدلت كثير من الأمور، وكانت الموسيقى هى الطريق الحريرى الذى سلكته فى مشوار الفن، وبدأ الامر عندما عزفت فى إحدى الحفلات الخاصة بأوروبا مقطوعة موسيقية لاقت اعجاب الحضور، جعلت الكثيرون يطلبون كتابتها، وعندما طبعتها قاموا بعزفها داخل بيوتهم، فجاءت شركة اوديون لتحتكر موسيقاها وتبرم معها اتفاقا، ولكنها للاسف لم تلق هذه الموسيقى رواجا داخل مصر، وفى ذلك تقول "بهيجة حافظ" : "كنت انتظر تشجيع من اهل وطنى، الذين فشلت فى اقناعهم بان موسيقاى لا تقل عن الموسيقى الافرنجية شجوا للافئدة وطربا للنفوس، بحجة انها موسيقى افرنجية لا تمت لروح الموسيقى العربية فى شيء، رغم انى حرصت على مزج الشرقى بالغربى، فإذا سمعها الاجنبى تخيلها (تانجو) وإذا سمعها مصرى تخيلها قطعة بلدية، ولو كانت شجعتنى وزارة المعارف التى فتحت ذراعيها للأجانب لاستطعت طبع مؤلفات موسيقية أخرى". عندما فكرت شركة اديون فى الترويج لها، بدأت حملة الدعاية بنشر صورتها على غلاف مجلة المستقبل كأول مؤلفة موسيقية مصرية، وبالمصادفة كان المخرج محمد كريم يبحث فى ذلك الوقت عن بطلة تلعب بطولة أول أفلامه «زينب» 1930 المأخوذ عن قصة للدكتور محمد حسين هيكل، وكان قد التقاها فى إحدى الحفلات الخاصة من قبل، وبعد ان عجز عن اختيار بطلة من بين 72 امرأة تقدمن للدور، وما أن وقعت عيناه على صورتها حتى أدرك انه وجد من يبحث عنها، فاتحها فى الأمر فرحبت به ولم تأخذ وقتا فى التفكير، فالفن امتلك كل حواسها، ورغم محاولات البعض اقناعها بأن السينما عمل غير مشرف، لكنها واصلت حلمها، وفى ذلك تقول :«اغمضت عينى عن رؤية هؤلاء، ووضعت أصبعى فى أذنى حتى لا أتشرف بسماع نصائحهم، فلا يمكننى أن أصدق أن شخصا يفهم مصلحتى أكثر مني». ولأنها بارعة تملك مواهب عديدة اسند لها "كريم" عمل موسيقى تصويرية للفيلم، وهى أول مرة تؤلف موسيقى خصيصا لفيلم سينمائى، ولم تتقاضى أجرا عن الفيلم حرصا منها وايمانا بأهمية السينما للنهوض بالوطن، شاركها فى البطولة سراج منير وزكى رستم ودولت أبيض وعلوية جميل وعبد الوهاب المسيرى، حقق الفيلم نجاحا كبيرا وأشاد به كل المهتمين بالسينما محققا إيرادات فاقت تكاليف إنتاجه مرتين وأكثر، كما انه حقق للرواية الأصلية شهرة واسعة مما جعل مؤلفها يعيد طرحا فى الأسواق، وشجع يوسف وهبى منتج الفيلم، للإقدام على تقديم مسرحية «الدفاع» فى فيلم سينمائى لا شك ان التجربة كانت مثيرة وحققت نجاحات على أصعدة عدة، وفتحت المجال أمام بهيجة التى كانت تتحسس خطاها بالسينما لتخوض التجربة مرة أخرى. أثناء تصوير الفيلم تعرفت بهيجة على زوجها الثانى محمود حمدى فى ألمانيا، والذى كونت معه شركة للإنتاج السينمائى اطلقا عليها "فنار فيلم للإنتاج السينمائي"، وبالفعل قدمت باكورة أعمالها (الضحايا) "صامت"1932 ، وهو فيلم صامت أمام زكى رستم وعطا الله ميخائيل، ولكنها لم ترض عن مستواه فقامت بإعادة إخراجه مرة أخرى عام1935 "ناطق" ، واشترك معها فى البطولة زكى رستم وعبد السلام النابلسى، واستعانت بصوت ليلى مراد لأول مرة وقامت بإخراجه وكانت صاحبة الموسيقى التصويرية المصاحبة للفيلم . ثم قدمت فيلم «الاتهام» 1934 أمام عزيز فهمى وزكى رستم وزينب صدقى وقام بإخراجه المخرج الايطالى ماريو فولبى، ثم فيلم «ليلى بنت الصحراء» 1937 أمام حسين رياض وزكى رستم وعباس فارس ووضعت الموسيقى التصويرية وقامت بتصميم الأزياء، وبلغت تكاليفه 18 ألفا جنيها وهو مبلغ ضخم جدا فى ذلك الوقت وكان يكفى إنتاج 5 أفلام، حقق الفيلم نجاحا كبيرا وعرض فى مهرجان برلين الدولى، ليكون أول فيلم عربى يعرض فى هذا المهرجان، وعندما رشح للعرض فى مهرجان البندقية، منع لأسباب سياسية حيث احتجت عليه السلطات الإيرانية الذى رأت انه يسئ لتاريخ كسرى ملك الفرس، وصدر قرار المنع مجاملة للحكومة الإيرانية بمناسبة زواج شاه إيران رضا بهلوى من الأميرة فوزية، ونتيجة هذا المنع تكبدت الشركة خسائر فادحة مما كان له الأثر السيئ على استمرارها، وبعد 6 سنوات تم رفع الحظر على الفيلم بعد حذف بعض المشاهد ليظهر مرة أخرى عام 1944 باسم «ليلى البدوية» وشارك فيه احمد عبد القادر وحياة محمد وإبراهيم حمودة، وقام محمد القصبجى بتلحين أغانيه، وتعود بهيجة مرة أخرى للإنتاج بفيلم «زهرة» 1947 الذى كتبت قصته ووضعت الموسيقى التصويرية أمام أحمد منصور وكمال حسين وعلوية جميل وظهر فى هذا الفيلم وديع الصافى المطرب اللبنانى لأول مرة، وقام بإخراجه عبد العليم خطاب، وللأسف لم يحقق الفيلم مكاسب مادية مما عجل بكتابة السطور الأخيرة فى مشوارها الفنى، انقطعت بعد ذلك عن الفن، ولم تشارك فى أى عمل سوى وضع الموسيقى التصويرية لفيلم «السيد البدوى» 1953. ومشاركة متواضعة عندما اختارها صلاح أبو سيف لتؤدى دور الأميرة نيروز فى فيلم «القاهرة 30» 1968. أنشأت صالونا ثقافيا عام 1959 فى منزلها ارتاده صفوة المجتمع من المثقفين والمفكرين والفنانين والسياسيين، امتلكت بهيجة حافظ مكتبة كبيرة ونادرة يقدر عدد ما بها من مؤلفات بنحو خمسين ألف كتاب، من مختلف الآداب والفنون العالمية، كما كان بحوزتها ثلاثة آلاف مؤلَّف موسيقى وأندر النُّوت الموسيقية للأعمال العالمية، ومجموعة نادرة من كتب القانون والتاريخ والفلسفة باللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، والتى كانت تتقنها جيداً. كما كان بيتها يعتبر متحفاً يضم أندر الآلات الموسيقية واللوحات النادرة. وعاشت سنواتها الأخيرة قبل المرض تقرأ وتكتب المقالات بالفرنسية وتبعثها للصحف فى الخارج. وبالرغم من أنها بدأت حياتها بالتأليف الموسيقى، وكانت أول مصرية تُقبل عضواً فى جمعية المؤلفين بباريس، وتحصل على حق الأداء العلنى لمؤلفاتها الموسيقية، وللأسف لا توجد أى تسجيلات لهذه المؤلفات. يأتى مشهد النهاية حزين وبائس فبعد الأضواء والشهرة والنجومية، يتسلل المرض والوحدة والنكران، وتغلق الانوار التى كانت تحول الليل إلى نهار، ويفرض الصمت ستائره بعد ضجيج المناقشات، فلم يعد هناك من يطرق تلك الأبواب التى ظلت مفتوحة تستقبل كل زائر، يستقوى المرض عليها ويجبرها على ملازمة الفراش لتعانى ويلاته وآلامه، وتموت وحيدة فى 13-12-1982 ويكتشف الجيران رحيلها بعد يومين، لتكتب نهاية بهيجة حافظ الرائدة الجميلة والمثقفة التى أثرت السينما بأموالها وشبابها وصحتها ولم تجد فى لحظاتها الأخيرة سلوى الرحيل. احتفاء موقع جوجل بهذه القيمة الفنية المصرية الكبيرة تأكيدا علي أن هذه الأرض الطيبة عطاءه وولادة, واعترافا بأن المرأة المصرية دائما كان له دور تنويري ورائد.