*تقرير مارك مجدي : التنبؤ الاستراتيجي ليس علماً بكل ما تحمل كلمة العلم من معني, خصوصاً إذا كان معنياً بظواهر تتشكل بناء علي متغيرات مختلفة. و بالتالي تبقي مهمة توقع مستقبل النظام العالمي هي مهمة شديدة الصعوبة و قد تميل إلى التنجيم. و لكن يبقي التاريخ هو المصدر الكريم الذي يقدم أمثلة متنوعة و كثيرة علي أن الآثر السياسي و المسائل الاقتصادية هما انعكاسين لبعضيهما كالصورة و المرآة. و من هنا يمكن تصور المتغيرات القادمة بناءاً علي الظروف الاقتصادية و الجيوسياسية التي تحدث أمام أعيننا إذا نجحنا في رصدها علي النحو الدقيق. يجب أن نستوعب أن النظام العالمي هو ظاهرة متغيرة معرضه للتبدل و التحول في أي لحظة مثله مثل أي ظاهرة في الوجود, فلا يوجد هيمنة دائمة أو ثبات دائم, سواء علي المستوي السياسي أو الاقتصادي. و لذلك, فرغم أن الوضع الحالي للدولار يبدو متماسكاً ظاهرياً إلا أن هناك بدائل ظهرت إلى الواقع بالفعل تهدد هذه الهيمنة و يجب أخذها في الاعتبار, خصوصاً مع تكشف العيوب الهيكيلية لهذا النظام يوماً بعد يوم و استهداف المنافسين الاستراتيجيين للولايات المتحدة له. يبدو لوهلة أن التحولات المالية ذات الطابع العالمي تحدث في مناخ سلمي , مثل ما حدث في حالة اتفاقية بريتن وودز التي وضعت الدولارعلي رأس جميع العملات بتحويله لعملة التبادل الرئيسية, و التي تقاس قيمتها بمعيار الذهب. و لكن هذا الحدث تشكل في إطار عالم الحرب العالمية الثانية و التنافس الأمريكي السوفيتي علي تركة الاقتصاد العالمي بعد الحرب. فبينما كان الأمريكيون حلفاء للسوفييت, كان من الواضح كذلك أن الصراع المفتوح بينهم قادم لا محالة وسيكون الاقتصاد أحد أبعاده الرئيسية, بجانب تصور الاقتصاديين و السياسيين القائمين علي مؤتمر برييتن وودز أن قيام الحرب العالمية الثانية كان نتاج أزمة اقتصادية عالمية لم يفلح النظام في استيعاب مقدماتها و الحيلولة دونها. و في حاضرنا هذا, من الواضح أن التوتر الصيني الأمريكي هو أحد الدوافع المشابه لحالة الأوضاع التي أحاطت باتفاقية بريتن وودز و التي قد تؤدي لنزع الدولار عن عرشه. ليس واضحاً ما سوف يحدث في حالة توقف الدولار عن أن يكون العملة المهمينة, هناك سيناريوهات واردة كثيرة يجب أن تؤخذ في الاعتبار. و لكني نكشف الستار عن هذه السيناريوهات علينا أن نستند علي مقولة أرسطو الشهيرة ” الطبيعة تبغض الفراغ” فحيث تظهر الفجوة سيظهر معها من يملؤها, و أن هذه السيناريوهات ليست خطوط تاريخية متوازية لن تتلاقي, لكنها قد تتفاعل معاً. السيناريو الأول: سيادة مستمرة للدولار لا تزال الولاياتالمتحدة الدولة الأقوي في العالم. و هو ما يتبين بسهولة في تفوقها العسكري الذي يسبق كل من روسيا و الصين بخطوات مهولة, بالإضافة إلى التفوق السياسي و الاستخباراتي و الصناعي و في الطاقة و العلوم و التكنولوجيا, كما يصفها كثيرون بالقوة المالية الكبري. و حتي إذا ضعف وضعها, فيمكن القول أن استبدال الدولار يحتاج لمزيد من الوقت بالتأكيد. الدولار يستند علي اقتصاد قوي و هو الدم الذي يجري في شرايين الاقتصاد العالمي, و حقيقة أن البنوك المركزية في العالم تعتمد علي الدولار كوحدة التخزين الرئيسية في المخازن الاحتياطية تجعل من الهجوم علي الدولار نوع من التدمير الذاتي. رغم ذلك, فالمظاهر خادعة. المنافسون المرجحون للولايات المتحدة قد يكتسبوا الجرأة اللازمة للتفكير في خلق سلاسلهم المالية الخاصة, و لا تفكر كل الدول علي الطريقة الأمريكية التي لا تري سوي المصلحة الاقتصادية , فبعض الدول قد تتحمل الخسائر في سبيل النصر. الصين و روسيا تعلمان أن الدولار هو أساس القوي الاقتصادية الأمريكية وليس غريباً أن تستهدفانه حتي لو أدي ذلك لخسائر و تراجع في الأرباح. أحادية القطب في الاقتصاد و السياسة مرحلة عابرة قصيرة في تاريخ البشرية. فإذا حاولنا النظر للأمور نظرة شاملة, نجد إن محاولة تجميد التغيير الهيكلي هي مسألة تتطلب موارد مهولة بشكل مستمر و مُلح, فمحدودية الموراد مسألة بديهية. و الأمبراطوريات الكبري تبدأ في السقوط بعد أن تصل إلى ذروة قوتها, فتصبح ضحية النجاح و القوة, و الأمر كذلك بالنسبة للعملات…كذلك, يعاني الدولار بسبب قرارات اقتصادية يصفها كثيرين علي رأسهم الاقتصادي الأمريكي الشهير ريتشارد وولف بالغير مسئولة, مثل سياسة التخفيف الكمي التي لا تنتهي, و أزمات الديون الداخلية و الخارجية. و يذهب بعض المحللين علي رأسهم يانيس فاروفاكيس أن الدولار الأمريكي يعيش علي أجهزة الإنعاش منذ أزمة 2008 العالمية. كما أن المصير النهائي للدولار الأمريكي يعتمد علي الدول الأخري و إرادتهم في الحفاظ أو إنهاء هذا التمييز باهظ الثمن للدولار. و لكن كل هذا لا يعني أن الولاياتالمتحدة عاجزة بل لديها نقاط القوي الأكثر تأثيراً, مما يؤكد أنها لن تتخلي عن ورقتها الرابحة دون معركة. السيناريو الثاني: الاستبدال بعملة وطنية أخري اليوان الصيني هو المرشح الأول, فالصين تخطو نحو إنشاء نظام بهياكل موازية لتخطي الدولار من خلال العلاقات التجارية الثنائية, تطوير المحاور المالية, منصات الأعمال و اتفاقيات الاستثمار, كل ذلك بهدف تقوية وضعها الدولي. ثم يتكثف كل ذلك في مشروع الحزام و الطريق الذي إذا أنجز سيكون بمثابة النهاية للهيمنة الاقتصادية و المالية الأمريكية . تنظر بيكين للزعزعة القائمة في المناخ المالي العالمي كمنفذ لتقوية عملتها في مواجهة الدولار. و بناء علي ذلك, يعتبر اليوان العملة المرشحة لاستبدال الدولار, و لكن لا يزال الوقت مبكراً لتحديد قابلية اليوان للتغلب عليه, سيصبح المنافس الرئيسي بالتأكيد, لكن عليه أولاً ان يتخطي عقبات هيكلية أساسية. و لكي يتم ذلك, يجب علي الصين أن تصنع إجماعاً بالشراكة مع دول أخري ذات ثقل اقتصادي كبير. ففي النهاية لكي تصبح الصين المُوفر الرئيسي للعملة الاحتياطية علي مستوي العالم عليها أن تكون مستعدة لأن تدفع الثمن الباهظ,. مثل تحمل مسئولية أن تكون اللاعب الأول لضمان الأمن العالمي, و هو ما يتطلب القدرة علي بناء أسطول بحري عسكري ضخم يضمن سلامة و أمن خطوط التبادل التجاري علي مستوي العالم. علي أي دولة تسعي لتهديد هيمنة الدولار أن تحسب خطواتها جيداً فيما يتعلق بتحمل الثقل الجيوسياسي الضخم الذي يأتي مع مسئولية أن تكون الموفر و المورد الرئيسي للعملة المهيمنة عالمياً. السيناريو الثالث: ثنائية أو تعددية مالية إمكانية الانتقال لنظام يعتمد علي عملتين أو أكثر واردة, حيث تقوم عملتين أو أكثر بدور العملة الاحتياطية. و قد كان هوالحال في العصور الوسطي حيث لعب الدينار الاسلامي و الصوليدوس البيزنطي الدور المتبادل كعملتي الاحتياطي. هذا الوضع يعني أن يتنافس نظامان ماليان من خلال العملات. و هو الوضع الذي توجد فيه عدة قوي تملك الثقل السياسي و العسكري و الاقتصادي. باختصار هو سيناريو تفتت الهيمنة المالية الحالية. و قد يكون الدولار في هذه الحالة أحد هذه العملات الاحتياطية. و الآثر الأهم لهذا الوضع هو مزيد من الثقل للتكوينات الإقليمية الاقتصادية. السيناريو الرابع: بديل العملة الورقية من الممكن أن يستبدل الدولار بشيئاً آخر غير العملة التقليدية. و المرشح المرجح في هذه الحالة هو ما يطلق عليه ” حقوق السحب الخاصة”, وهي وحدة قيمة دشنها صندوق النقد الدولي, و تتحدد قيمتها وفقاً لسلة من عملات دولية مختلفة. و لكن تبني حقوق السحب الخاصة كبديل عن العملة الدولية سيواجه عقبات أساسية. أولاً, لا يمكن لهذه الوحدات أن تستخدمها غير الدول, فلا الشركات و لاالأفراد لهم الحق في استخدامها أو تخزينها و هي مشكلة خطيرة تمنع هذه الوحدة من تحقيق الغرض, لكن لا يزال بعهض الخبراء يطورون الفكرة. قد تبدو الفكرة واعدة لتحقيق التوازن العالمي, و قد تمنع الاضطرابات الهيكلية التي تسببها الهيمنة المالية الأحادية. فمن المرجح أن تتضمن قاعدة سلة العملات عملات جديدة ناشئة و هو ما يعطي فرصة للطامحين في أستبدال الدولار دون قلق حول الاضطرابات التي ستحدث جراء ذلك. جدير بالذكر أن فيس بوك تسعي لإطلاق عملة “الكريبتو” cryptocurrency, و التي لن تحمل جنسية بلد معين لكن تديرها شركة خاصة. و هي شركة خاصة أمريكية تخضع لمعايير الأمن القومي الأمريكي. السيناريو الخامس : معيار ذهب جديد كان لنيكسون هزيمة كبري هي حرب فييتنام, و نصر اقتصادي عظيم تمثل في إصداره للقرار الذي يؤدي لعدم التزام الولاياتالمتحدةالأمريكية بتغطية الدولارات الموجودة خارج حدودها برصيد من الذهب كما كان متبعاً من قبل, و بهذا دخل الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة من الهيمنة الأمريكية عليه بإجماع أوروبي ياباني. و الآن ظهر النقاش حول استعادة معيار الذهب علي الساحة. و هو أمر طبيعي في سياق و تبعات أزمة 2008. و الطبيعة المتقلبة للأسواق المالية التي أثبتت ضعفها في مقاومة تراكم الديون الغير قابلة للدفع, و التي تدفع نحو تبني السياسات المالية التي ثبت بالفعل أنها تعمق عدم التوزان البنيوي في النظام. هذه الحقائق تدعم الشكوك حول فعالية النقود الإلزامية علي خلفية هيمنة الدولار الأمريكي. عام 2005 قال الخبير المصرفي السويسري الشهير و الخبير في أسواق الذهب فيرديناند ليبس ” بما أن الذهب هو أحد الأصول الذي يُحدد قيمته وفقاً لندرته الطبيعية, فهو بذلك يُرَقي المسئولية المالية و السياسات المالية المنضبطة و هو ما سيؤدي لتقليل إمكانية اللجوء للاقتراض اللانهائي و الديون الأبدية “. و أكد فيرديناند لبس في تصريحه أن الميزانيات العسكرية المتضخمة و الإنتاج العسكري الفائق عن الطلب هي نتائج مباشرة لنظام النقود الإلزامية( سأرفق الحوار مع فيردناند لبس كاملاً لأهميته). يري ليبس أن الذهب إذا استعاد الدور المركزي في الأسواق المالية العالمية بناء علي إجماع دولي بين القوي الكبري ( و هو الأمر الذي قد يحدث عقب أزمة مالية كبري) سيعم الاستقرار القيمي و التوازن الاقتصادي بين الأطرف الدوليين. لكنه لم يذكر مشكلات نظام معيار الذهب الذي عايشته البشرية في ظل قوي استعمارية كبري تتحكم في كميات كبيرة من الذهب. قد يبدو حل معيار الذهب أكثر استقراراً من وضع هيمنة الدولار, لكنه في النهاية سيخدم الأكثر قدرة علي تحصيل الذهب, و هو ما يحافظ علي منظومة علاقات القوة الاقنصادية القائمة حالياً دون تغيير, و من الممكن أن يسترجع أساليب انتهت بالفعل إلى الحياة مرة أخري أو يزيد من حدة النزعة الإمبريالية لدي الدول الكبري. السيناريو السادس: عملات افتراضية وطنية الثورة الصناعية الرابعة قد تعني الكثير, و قد لا تعني شيئاً علي الإطلاق. فالعملات الافتراضية كأحد منتجات هذه الثروة قد تبدو شيئاً حقيقياً و واقعياً, و في نفس الوقت قد تبدو مجرد وهم دعائي تستغله الشركات الكبري. هناك البيتكوين و عملة الفيس بوك و الليبرا و عملات الدارك ويب, لكن حتي الآن لم تعترف بها أي دولة و لم يعتمدها أي بنك مركزي, و لذلك فهي تأخذ طابع المضاربة أكثر من كونها عملات للتبادل و تخزين القيمة, فيمكن أن تشتري البيتكوين و تصبح مليونيراً بعد عدة سنوات كما شاهدنا جميعاً, و من الممكن أيضاً أن تشتريها فتتحول لعملية اعدام الأموال. تقلباتها خطيرة و هي تخضع بالأساس لسوق الأسهم و البورصة. لكن يصبح هذا السيناريو وارداً يجب أن تعتمد الدول عملات افتراضية مكافئة للعملات الورقية, و قد تُعتمد هذه العملات من قبل مجموعة من الدول كما يفكر بعض خبراء المالية الأوربيون, أو كما صرحت الصين بأنها تعتزم تدشين اليوان الافتراضي الذي لا نعرف عنه الكثير حتي الآن سوي أنه سيكون عملة افتراضية مدعمة بمعيار الذهب (و هو حدث يرجح كثيرون أنه سيحدث تغييراً راديكالياً في النظام المالي العالمي لصالح الصين), حينها يصبح هذا السيناريو وارداً و يجد الدولار منافساً قوياً قادم من خارج اللعبة. السيناريو السابع: تداعي النظام المالي يذهب العديد من الخبراء أن الأزمات المالية المستمرة تعمل مثل التفاعل النووي المتسلسل. فهذه الأزمات لا يمكن احتواءها علي مدي زمني محدد و لذلك يصبح آثرها مدمراً. إنه السيناريو الأكثر تشاؤماً حيث يؤدي الانهيار المالي إلى فوضي ناتجة عن تدمير موسع للثروة. لم يحدث هذا من قبل, رغم وقوع حدث مشابه في التاريخ عندما انهارت العملة الرومانية كجزء من عملية انهيار شاملة حدثت للمجتمع و أدت لسقوط الحضارة الرومانية التي عرفناها. هو حدث مشابه في الظروف لكنه يختلف عنه تماماً, فسقوط الامبراطورية الرومانية كان نتيجة عوامل تاريخية تتضافر, في مقدمتها تغير شكل إنتاج المعيشة من العبودية إلى الإقطاع, و بروز قوة القبائل الانجلو ساكسونية في مواجهة روما. قد يبدو الأمر أشبه بيوم القيامة الاسطوري عندما نتحدث عنه, لكن من المرجح أن يؤدي الصراع المالي الدائر الآن علي ضوء أزمة الكورونا إلى شلل كامل في المنظومة. فالصراع مستمر و لا أحد يستطيع تعطيله, حتي الأطراف المتصارعة لا يمكن أن تتوقف إرادياً و إلا يخرج الجميع مهزوماً. في الأزمة السابقة لم يكن هناك صراع محتدم, فتكاتف الجميع في مقدمتهم أمريكا و الصين لتلافي السقوط التام. أما الآن فمن الصعب حدوث هذا التضافر, و لذلك يكتسب هذا السيناريو الأرجحية مع قدوم أول أزمة كبري, و التي نعرف جميعاً أننا نقف علي مشارفها. المصادر : https://www.capitalwatch.com/article-1818-1.html The Future of China's Yuan vs. the U.S. Dollar https://www.thebalance.com/dollar-to-yuan-conversion-and-history-3306089 Dollar to Yuan Conversion and History How a Tiny Change in the Yuan Can Panic Investors https://www.gold-eagle.com/article/interview-ferdinand-lips interview with Ferdinand lips- http://dspace.univ-bouira.dz:8080/jspui/handle/123456789/3852 -مستقبل و اتجاهات النظام المالي العالمي أمام توترات الأزمات المالية العالمية https://www.datadriveninvestor.com/2020/02/18/digital-currencies-blockchain-and-the-future-of-money/ Digital Currencies, Blockchain and the Future of Money https://www.nber.org/papers/w22238 igital Currencies, Decentralized Ledgers, and the Future of Central Banking Max Raskin, David Yermack