بقلم: عبد الستار حتيتة لا ينبغي عليك أبدا أن تثق في رجال الدين المتحولين، خاصة إذا كانت لديهم كميات كبيرة من الأسلحة..هذا ما حدث مع الرجل المثير للرعب في العاصمة الليبية طرابلس. الشيخ عبد الرءوف كارا، قائد قوات الردع. قدم كارا نفسه للرأي العام على أنه “سلفي يدين بالولاء لمن يحكم”، وهي من عادات السلفيين التي تجعل السلطات تغض الطرف عن تصرفاتهم المريبة. اليوم منح كارا مقراته وسيارات قواته المصفحة للإرهابيين السوريين والأجانب المرسلين من نظام الرئيس التركي، إلى طرابلس. كان كثيرٌ من رجال الدين والأمن والمخابرات في المنطقة العربية، خاصة من دول الاعتدال الكبيرة، يعتقدون أن كارا رجل سلفي مستقيم يدين لهم بالولاء. لقد تم منح كارا الغطاء السياسي والمالي والعسكري من جانب عديد الدول العربية المعتدلة خلال السنوات الخمس الماضية، اعتقادا منها أن الرجل شيخ مضمون ولا علاقة له بالتطرف ولا بالإرهاب. نشأ كارا في ضاحية سوق الجمعة في العاصمة الليبية، وهي منطقة مكتظة بالسكان، وتتسم بفقر الخدمات، مثل كثير من المناطق العشوائية المنتشرة في المدن العربية. تجد في أزقة سوق الجمعة الخمور، والمخدرات، وحبوب الهلوسة، ودروس الشيوخ التي تدعو، عبر مكبرات الصوت، إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنها خلطة مشابهة لما هو موجود في مدن عربية عدة، بغض النظر عما إذا كان نظام الحكم فيها قويا أو هشا. فيبدو أن هناك نوعا من الاستغلال والتربح من هكذا أجواء.. أجواء يغيب فيها القانون، في مقابل الحصول على مكاسب من المنطقة الرمادية الواقعة بين الانحلال والأخلاق. ويلعب غياب الوعي لدى العامة في معظم البلدان العربية دورا جوهريا في اتساع هذه المساحة الرمادية المهلكة. قدم كارا نفسه للرأي العام في طرابلس باعتباره حاميا للأخلاق، من خلال أسطول من الميليشيات.. ميليشيات تمتلك سيارات الدفع الرباعي والعربات المدرعة والدبابات وصواريخ الجراد. حين جاء المجلس الرئاسي بقيادة فايز السراج ليحكم من طرابلس عبر فرقاطة إيطالية في 2016، نظر كثير من الليبيين للمجلس باعتباره مجلس وصاية من الأجانب. لكن الشيخ كارا طوَّع كلام الدين لخدمة السراج والزمرة الدولية التي تسعى للسيطرة على خيرات الليبيين. وردَّ السراج والمجتمع الدولي، الجميل لكارا وميليشياته. وتم منحه صلاحيات واسعة، وضم ميليشياته، اسميا، إلى الشرطة، وبدأ في توسيع نشاط قواته، حتى أصبح هو الآمر الناهي في العاصمة الليبية. قبل 2011 كان كارا، يسعى لكسب العيش، من عمله في التنظيف في مطعم أسماك في طرابلس، حتى الظهر.. وفي المساء يقوم ببيع المشروبات الساخنة على طريق الكورنيش في العاصمة. كل هذا جيِّد.. لكن بعد 2011 عرف من أين تؤكل الكتف، فأطلق لحيته، وقدم نفسه للعامة باعتباره داعية سلفيا. وتمكن في خضم الفوضى بعد مقتل القذافي من تكوين مجموعة مسلحة تدعو إلى تطبيق الدين. واليوم لم يعد أحد يستطيع أن يقف أمام كارا وقواته. يدخل المصرف المركزي ويغرف من خزينة الدولة ما يريد من أموال. يقتحم مقر وزارة ويمسك بأذن الوزير لتأنيبه على كلمة قالها في حق ميليشياته القاتلة. يتصرف في القضاء كما يشاء. وهلم جرا من فظائع في سجونه السرية التي يقبع فيها آلاف من الليبيين والليبيات. يظهر أن أجهزة أمنية وإعلامية عربية عديدة انخدعت في كارا. حتى بعض الليبيين كانوا يعتقدون أن كارا سوف يقف بقواته مع الجيش الوطني الذي يقوده المشير خليفة حفتر، بمجرد اقتراب هذا الجيش من الدخول إلى العاصمة. حقا.. كانت نوايا كارا تبدو طيبة، خاصة وأنه شارك، في 2017 في القبض على خلايا من تنظيم داعش في طرابلس، والتصدي لجماعة الإخوان في العاصمة.. لكن هذه المظاهر لم تدم طويلا. فما حدث، في النهاية، هو العكس.. وهو أمر خطير على محور دول الاعتدال، وليس على ليبيا فقط.. منذ تقدم الجيش الوطني من طرابلس، في الرابع من أبريل الماضي، كان ينبغي وضع علامات استفهام حول موقف كارا الذي سخَّر قواته لمحاربة الجيش. لقد انفضَّ من حوله كثيرٌ من الشباب الليبي المغرر بهم الذين كانوا يعتقدون أن كارا سيقف مع الجيش. كما قُتل من قوات كارا بضعة مئات خلال الشهور الأخيرة في مواجهات مع قوات الجيش. لقد كانت ميليشيات الردع تتكون من حوالي ألفي مقاتل. ربما جلس كارا بخلفيته الانتهازية والإجرامية ضد الليبيين والليبيات يفكر في مستقبله، واختار دون أي وازع من ضمير، أن ينتقل إلى الجبهة الغازية لبلاده. قرر كارا، في الأسابيع القليلة الماضية، الارتماء في أحضان المحور التركي القطري الإخواني الإرهابي. وتحالف بلا تردد مع الجيش التركي. وقرر تسليم نفسه للمخططات الأردوغانية الشريرة. وانتقل بميليشياته، بكل سهولة، من خانة “السلفي” إلى خانة “الجهادي الإرهابي”. تحول كارا وقواته، فجأة، إلى ما يشبه “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” التي ظهرت في الجزائر وتسببت في إزهاق أرواح مئات الألوف هناك فيما يعرف بالعشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي. وهي الجماعة نفسها التي غيرت اسمها فيما بعد إلى “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”. سلَّم كارا مطار إمعتيقة في طرابلس، أخيرا، للعسكريين الأتراك والقطريين. وأعطى باقي المواقع التي كان يسيطر عليها في طرابلس للإرهابيين الدواعش القادمين من سوريا ومصر والجزائر وتونس وغيرها. مثلا.. في مناطق الغيران، والظهرة، والفرناج، في قلب العاصمة الليبية، أصبحت سيارات كارا ومدرعاته مطية لكل هذا الخليط من الإرهابيين. ومن فوق السيارات التابعة لقواته، وضع الدواعش مكبرات الصوت لترديد نشيد “صليل الصوارم” الذي يدعو إلى القتل والفوضى والخراب. نعم.. لا ينبغي أبدا الوثوق في مثل هؤلاء المتحولين، ممن يتمسحون بكلام الدين، خاصة إذا كانت لديهم كميات كبيرة من الأسلحة، والأموال، والضمائر الخربة.