لا شك أنه من القضايا التى عادة ما تثير غضب تركيا هى الاعتراف بأن قتل 1،5 مليون أرمينى خلال الفترة من 1915 وحتى 1923 من القرن الماضى، هو عملية إبادة جماعية للأرمن، وتناصب تركيا عددا من الدول الأوروبية العداء على خلفية اعترافها بإبادة الأتراك للأرمن فى الفترة المذكورة عاليه، وعلى وجه الخصوص فرنسا، المعترض الرئيس على انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى. لكن ما لم يتوقعه الأتراك ورئيسهم أردوغان هو قيام مجلس النواب الأمريكى بالاعتراف بهذه الإبادة بشكل علنى (رغم عدم إقرارها بشكل نهائى، فلم يوافق عليها مجلس الشيوخ بعد ولم يوقعها الرئيس الأمريكى)، لكن السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو لماذا فى هذا الوقت، هل كان للأحداث الأخيرة فى شمال شرق سوريا تأثير على الكونجرس وعلى القيادة الأمريكية لاتخاذ مثل هكذا قرار. لا شك أن تغريد تركيا خارج السرب الأمريكى، والذى ساد المواقف التركية فى الفترة الأخيرة هو السبب، ولنعدد هذه المواقف، أولاً إصرار تركيا على شراء منظومة صواريخ إس 400 الروسية المضادة للطائرات والصواريخ من روسيا رغم تحذير الولاياتالمتحدة، ثم قيام تركيا بدخوال الأراضى السورية فى منطقة شرق الفرات، دون التشاور مع الولاياتالمتحدة، هو الأمر الذى حدا بالرئيس ترمب لإرسال نائبه لتوقيع اتفاق مع الرئيس التركى، وهو الاتفاق الذى ألقى به الرئيس التركى فى سلة المهملات وعقد اتفاق تفاهم هو بلا شك أفضل من الاتفاق الأمريكى، لكن ما كان يعنى واشنطن هو التواجد الروسى الذى دخل شرق سوريا، وهو ما لم تكن الولاياتالمتحدة ترغب فيه على الإطلاق. أهداف أمريكية كانت واشنطن تهم بسحب قواتها المتواجدة فى سوريا إلى مناطق فى غرب العراق، مما يعطيها نوعا من المرونة فى حالة رغبتها فى العودة لشرق سوريا من جديد. إلا أن دخول روسيا على الخط فى شرق الفرات مع تركيا المفترض أنها حليفة واشنطن من خلال حلف الناتو جعل الولاياتالمتحدة ترسل قواتها لحراسة آبار النفط، التى تقول إنها ستنفق منها على حلفائها الأكراد، ربما كنوع من التكفير عن الذنب بعد أن تخلت عنهم، لصالح حليف الناتو تركيا، ولتجد لها موطئ قدم فى الساحة السورية التى لا يريد الرئيس ترامب الانغماس فى مستنقعها بقوة، وترك المسألة لروسيا للقيام بهذا الدور. قبل الرئيس التركى توقيع المذكرة الخاصة بالمنطقة الآمنة فى شمال شرق سوريا، لان قواته التى ستقوم بالدوريات الأمنية فى المنطقة الآمنة، سترافقها قوات روسيا وهو ما يعطيها نوعا من الأمان على الأقل فى مواجهة قوات الجيش العربى السورى وربما من بعض الوحداد الكردية. وهو ما لم تكن ترغب فيه واشنطن، الأمر الذى رجح كفة مذكرة التفاهم مع روسيا. روسيا على الطريق تكمن خطورة تلويح الولاياتالمتحدة بالاعتراف بإبادة الأتراك للأرمن، فى أن واشنطن ذات نفوذ كبير فى العالم وهو الأمر الذى قد يشجع دولا كثيرة فى العالم على الحذو حذوها، بل أن الاعتراف الأمريكى قد يجعل روسيا الحليف التركى الآن على الاعتراف بعملية الإبادة لأن روسيا تمتلك قاعدة عسكرية فى أرمينيا، فماذا لو قايضت يريفان القاعدة بالاعتراف بإبادة الأرمن، أو قايضت على اعتراف تركيا بالقرم كجزء من روسيا مقابل عدم الاعتراف بإبادة الأرمن. تحاول الولاياتالمتحدة ممارسة الضغوط على تركيا، لكنها فى نفس الوقت لا تريد استخدام كل أوراق الضغط مرة واحدة، فهناك العقوبات الاقتصادية التى ألغتها واشنطن عندما خدع أردوغان حلفاءه الأمريكيين بقبوله اتفاق بنس أردوغان، فألغاها الرئيس الأمريكى وألغى عقوبات أخرى كان قد عقد العزم على فرضها على أنقرة، فأعطى قبلة الحياة للاقتصاد التركى المتداعى، وهناك وجود فتح الله كولن المقيم فى الولاياتالمتحدة، والذى إذا منحته واشنطن حرية الحركة والدعوة لجعل الرئيس التركى يسير محدثاً نفسه من الغيظ، وكان أردوغان يطمع فى أن يفرج عن القس برونسون الذى كانت تركيا تتهمه بالتجسس مقابل تسليمه فتح الله كولن عدوه اللدود، غير أن واشنطن رفضت الصفقة وأصرت على الإفراج عن رجل الدين الأمريكى. فيما يتعلق بروسيا فالقيادة الروسية تعيش نشوة انتصاراتها على واشنطن أولا وقبل الأحداث الحالية فهى فازت بصفقة صواريخ إس 400، وتقف روسيا فى انتظار أى توتر جديد لكى تعقد صفقة سو 35 الروسية مع تركيا بدلاً من إف 35 الأمريكية، وأى توتر من الممكن أن يكون أكثر من تلويح مجلس النواب الأمريكى بالاعتراف بإبادة الأرمن، وإعطاء فتح الله كولن حرية الحركة فى العمل ضد الرئيس التركى الذى يشعر بالارتباك الشديد حتى من حلفائه السابقين مثل عبد الله جول وأحمد داوود اوغلو. ومثل أردوغان تحاول الولاياتالمتحدة ألا تفقد أوراق الضغط على تركيا كلها فى وقت واحد، فعلى سبيل المثال قرار مجلس النواب الأمريكى لا يعتبر قانوناً إلا إذا ناقشه مجلس الشيوخ ووقعه الرئيس الأمريكى وهو ما لم يحدث حتى الآن، وإنما هو مجرد تلويح لتركيا بما يمكن أن يحدث فى حالة تمادى تركيا فى تحدى الولاياتالمتحدة، وهو قرار لو تدركون مدى تأثيره على تركيا وكم سيكون عظيما. الرئيس الأرمينى نيكول باشينيان وصف التهديد الأمريكى (دعونا نسمية مؤقتاً تهديد باتخاذ قرار أو باعتراف) بالاعتراف بإبادة الأرمن، على أنه بسبب أن الكيل قد فاض بالأمريكيين من هوائية الرئيس التركى. علاقات متأزمة وقال سورين سركسيان مدير مركز الدراسات الأمريكية بالعاصمة الأرمينية يريفان إن العلاقات التركية الأمريكية فى أسوأ أحوالها فى الوقت الراهن، ومن هنا كان تصويت مجلس النواب الأمريكى على قرارين وهما اعتراف المجلس (حتى الآن) بإبادة الأرمن، قرار لا يعتبر حتى الآن ساريا ما لم يستخدم الرئيس الأمريكى كلمة إبادة، وعقوبات أخرى اقتصادية، ويضيف الأكاديمى الأرمينى قرار مجلس النواب مجرد وثيقة سياسية ليس لها أساس قانونى، لكنها ستظل سيف مسلط على رقبة الرئيس التركى. لكن لنأتى إلى العلاقات الروسية التركية، ومن يعتقد بأن سماءها صافية يكون خاطئا، رغم الحميمية التى تبدو عليها فى الفترة الأخيرة، وكلنا يذكر إسقاط تركيا للطائرة الروسية وما أحدثته من أزمة، وجاء بعدها اغتيال السفير الروسى فى أنقرة على الهواء مباشرة ورغم ذلك لم تتخذ روسيا أى إجراءات عقابية من تلك التى كان يتوقعها العالم، بل لو تعرفون حتى الآن لم تعترف تركيا، التى لها مطامع ثقافية وجيوسياسية فى القرم بها، جزء من الأراضى الروسية، حيث كانت تركيا تفضل بقاءها تحت السيطرة الأوكرانية حيث أن تأثير الأتراك كبير فى شبه الجزيرة، التى يتحدث سكانها من تتار القرم المسلمين اللغة التركية ويدينون لتركيا بالكثير منذ الاحتلال التركى أيام الدولة العثمانية ويتذكرزن جيداً مأساة تهجيرهم من قبل ستالين إبان الحرب العالمية الثانية. تكبيل تركيا لكن روسيا تحاول تكبيل تركيا والسيطرة عليها تجارياً، وخاصة أن حجم التبادل التجارى بين تركياوروسيا تجاوز 50 مليار وتطمح الدولتان لزيادته ليصل إلى 100 مليار دولار، ما بين بضائع تركية ومواد طاقة من روسيا متمثلة فى النفط والغاز، وعدد من المشاريع، إضافة إلى البدائل الاقتصادية تقلصت أمام روسيا بعد عام 2014، عندما فرض الاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدة عقوبات على روسيا فلم تجد أمامها سوى تركيا، التى لا يتقبلها الأوروبيون، حيث اكتفوا من الشاورما التركى، والتواجد الإسلامى غير المضمون السلوك فى المستقبل عليهم، خاصة فرنسا التى تمانع بشدة فى ضم تركيا للاتحاد رغم عضويتها فى الناتو، والولاياتالمتحدة من ناحية أخرى لا تتقبل تركيا التى كانت ترغب فى أن تكون رأس حربة لها فى الأزمة السورية، بعد أن تأخرت وسيطرت روسيا على الأزمة السورية وأخذتها تسليم مفتاح، بل سعت تركيا للحصول على مكاسب شخصية لها، خاصة أنها عانت من هجمات المسلحين الأكراد، بينما كانت الولاياتالمتحدة تدعم الأكراد بالمال والسلاح للقيام بالعمليات القذرة على الارض ضد تنظيم الدولة، نفس الشيء فعلته تركيا وردت الصاع لواشنطن عندما تحالفت مع روسيا للقيام بالدوريات بعمق 10 كم فى الاراضى السورية، وأدخلت روسيا لشرق سوريا بعد أن كان تواجدها محصوراً فى غرب سوريا وبمنطقة الساحل على وجه الخصوص. السؤال الأهم وهو مع تناقضات تركيا مع الغرب أو لنقل واشنطن، ووجود تناقضات مع روسيا، حيث سياتى يوم وبعد أن ينقطع الحبل السرى بين تركياوالولاياتالمتحدة وستطالبها روسيا بمكاسب سياسية، منها على الأقل الاعتراف بالقرم جزءا من روسيا، ومن الممكن أن تصطدم مصالح البلدين فى يتعلق بأنابيب الغاز المصدر لأوروبا عبر خط "التوركيش ستريم". التفاحة التركية هناك من يتساءل لمن ستكون الغلبة فى النهاية، أو إلى أى جانب ستسقط التفاحة التركية فى نهاية الامر، إلى الجانب الروسى أم الجانب الأمريكى، يمكن القول بأن القادمين المحتملين بعد أردوغان الغير متوقع أن يستمر فى الحكم بعد انتهاء فترته أو قد يسقط قبلها، وعلى الرئيس التركى الحالى أن يواجه عبد الله جول وأحمد داوود أوغلو وزير الخارجية السابق ورفيق أردوغان اللدود، والذى يرى أن رفيقه تجاوز حد الخطر فى علاقاته المتوترة مع الغرب، أو حاكم اسطنبول المعارض، باختصار فى حال غياب الرئيس التركى عن الساحة ستتوتر العلاقات التى أصبحت متشابكة مع روسيا، ولفك اشتباك هذه العلاقات سيستغرق سنوات، فى الوقت الراهن سيبقى الوضع على ما هو عليه لحين تسوية الأزمة السورية بشكل نهائى، فروسيا لا تريد أن تعانى من الفشل فى أول خروج لها لخارج حدودها كقوة تحاول استعادة المكانة السوفيتية فى الشرق الأوسط، وتركيا التى تريد القضاء على الخطر الكردى قضاء مبرما لا قومة بعده. على أى حال الأكراد وعددهم 20 مليون من سكان تركيا وحزب العمال الكردستانى موجودين داخل تركيا نفسها، وهم مواطنون أتراك فهل سيعيد التاريخ نفسه وتقع مجازر مثل مجازر الأرمن التى قام بها العثمانيون، من أجل أتركة تركيا، كما حدث فى بدايات القرن العشرين. ربما لم يدرك أردوغان أن الزمن تغير.