فقدت مصر القيادي اليساري بحزب التجمع، نبيل زكي، المتحدث الرسمي لحزب التجمع التقدمي، ورئيس مجلس إدارة جريدة الأهالى، الذي غيبه الموت الثلاثاء قبل الماضى. وعلى امتداد مشواره الصحفي، شغل العديد من المواقع الصحفية، وهي: رئاسة مجلس إدارة جريدة الأهالي ورئاسة تحريرها، ونائب رئيس تحرير أخبار اليوم، ومدير تحرير مجلة البلاغة اللبنانية، ومدير التحرير لمجلة "الكاتب" الصادرة عن وزارة الثقافة. كما كان عضوا بالمجلس المصري للعلاقات الخارجية، واتحاد الكتاب المصري، ومجلس إدارة التضامن الأفروآسيوي، ومجلس إدارة اللجنة المصرية للتضامن. وخلال مسيرته الصحفية، شارك الراحل، فى تغطية العديد من الأحداث المهمة فى إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية واليابان والصين وروسيا بما فيها الحرب الفيتنامية، والثورة الثقافية فى الصين، وحرب "بيافرا" فى نيجيريا، والحرب الأهلية اللبنانية، وثورة مايو فى فرنسا، والحركات الشعبية فى بولندا، والثورة السندينية فى نيكاراجوا. كما التقى زكي، العديد من زعماء العالم والقادة الكبار؛ ومنهم الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، والغيني سيكو توري، ورئيس الكونغو برازفيل ماريان نغوابي، والجنرال جياب بطل النصر الفييتنامي، وبوريس يلتسن، وبوكاسا، ومعمر القذافي، والرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، والزعيم ياسر عرفات، وأسرة القيادي الثوري إرنستو جيفارا، وغيرهم. وترك نبيل زكي مؤلفات عديدة للفكر والثقافة أبرزها؛ فيتنام والجريمة والمأساة، مقاتل من فيتنام، الفكر السياسي الأمريكي والعالم، اعترافات كيسنجر، صحافة وصحفيون، الأكراد.. الأساطير والحروب والثورات، حراس الخليج، نوبار فى مصر. ونعى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الكاتب الكبير، الذي رحل بعد حياة مهنية وسياسية مهمة قدم فيها مثالاً للصحفى الوطني الذي يتبنى قضايا وطنه ويدافع عنها. وعبر رحلته الطويلة، ظل «زكي» القدوة لأجيال من الصحفيين رأوا فيه الالتزام والصدق والحرص على حرية التعبير والدفاع عن قضايا الوطن والمهنة.. من خلال رحلته كاتباً وصحفياً ورئيساً لتحرير جريدة الأهالي وقيادة سياسية بارزة فى الحركة اليسارية. وأوضح المجلس، فى بيان، الأربعاء، أن «زكي» كان دائماً يقدم مصلحة الوطن والمهنة على أي شىء آخر، وعبر مسيرته الطويلة كان نموذجا للمفكر والكاتب الحريص على الوحدة الوطنية والمساهم دائماً فى حمايتها والدفاع عنها والوقوف ضد أي مظهر من مظاهر التطرف أو شق الصف الوطني، ورغم معاناته الشديدة مع المرض والتى استمرت لسنوات طويلة، كان حريصا على ألا يعلم أحد شيئاً عن مرضه، وظل حتى الشهر الماضى حريصا على المشاركة فى الندوات الإعلامية والمؤتمرات والاجتماعات الحزبية والسياسية. وينعى المجلس، الكاتب الصحفى، باعتباره أحد المساهمين والمشاركين فى كل دورات معهد تدريب الإعلاميين الأفارقة منذ نشأته، حتى الدورة الأخيرة التي شارك فيها بمحاضرة مهمة، وتقدم المجلس بالعزاء لأسرته وأسرة الصحفيين ولمصر فى فقيدها الكاتب الكبير.وشاركت القوي السياسة وومثلوا الأحزاب ورجال الفكر والثقافة فى عزاء الفقيد، وتلقى العزاء سيد عبد العال، رئيس حزب التجمع، ونسيم يوسف، صديق الراحل، وابنتاه، ولفيف من القيادات والشخصيات السياسية. كان نبيلاً ذكياً ولم ألحق بنعش عمى حسين عبد الرازق، تأخرت دقائق، حمله طائر الموت لا يلوى على شىء، فصادفت عمى نبيل زكى واقفًا ذاهلا تمامًا وهو يودع الجثمان، يتمتم بصوت كسير «مع السلامة يا حسين»، فاحتضنته فهمس فى أذنى الحبايب كلهم راحوا وفاتونى، وبكينا معًا. قبل شهر، يوم انتشرت شائعة رحيله، خشى كثيرون أن يتصلوا بالأستاذ على هاتفه المتاح تمامًا، ليتيقنوا من صحة هذا الخبر الأسود، فواتتنى الجرأة واتصلت به بين يأس ورجاء، فتأخر مليًا فى الرد فخشيت تمامًا، وقبل أن يحتوينى الحزن على رحيله، جاء صوته واهنًا «أهلا يا صديقى»، وباغتنى «شفت الإشاعة، ليه كده، الناس كلها تتصل بى، وبنتى فزعت، ممكن تكتب إننى على قيد الحياة»، هدأت من روعه وتمنيت له طول العمر، ربنا يبقيك ويخليك. ورحل سريعاً، هذه المرة صدقت الشائعة، أصابته شائعة مطلوقة فى الفضاء الإلكترونى، واتصلت به مجددا لينفى ما شاع على حوائط الفيس بوك، لكنه خلا بى، لم أسمع صوت النبيل اسمًا ووصفًا، رد علىَّ من عرف نفسه بقريبه، وقال الأستاذ نبيل حالته متأخرة، دقيقتين قضيتهما فى الحديث مع أخى «خالد منتصر»، فى مناقب النبيل نبيل زكى، حتى دهمنى الخبر الحزين من تليفونه نفسه، الأستاذ حمدى، البقاء لله الأستاذ نبيل تعيش أنت.. وكأنه يبلغنى رسالة من النبيل.. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان نبيلا زكياً فى حكيه وفعله وحبه لتراب هذا الوطن، كان مهضومًا من أهل اليمين وهو من أهل اليسار، مسكونًا بحب هذا الوطن، ولا يرتضى عنه بديلا، مثل أهل اليسار من النبلاء العظام قلبه معلق براية هذا الوطن، واجف عليه، يخشى على حدوده، ومحتشد للدفاع عن ترابه، ويجتهد فى التعبير عن أشواق شعبه فى الحرية والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم. برحيل العم نبيل زكى يكتمل عام الحزن فى بيت اليسار المصرى، إذا جاء أجلهم، اليسار يفقد جواهر التاج تباعًا، يوم رحل طيب الذكر زعيم اليسار خالد محيى الدين، انفرط العقد الفريد، رحلوا من مشوا وراء نعشه توالياً، الرائعون غادرونا دون أن نظفر بكلمة وداع، رحلوا وسيرتهم باقية، وآثارهم المكتوبة بأقلامهم باقية. نبيل زكى آخر العنقود، رحل صلاح عيسى، ورفعت السعيد، وحسين عبدالرازق وعبدالعال الباقورى، رحلوا تباعًا، وكأنهم على موعد فى السماء، لم يتأخر أحدهم عن الموعد.. يااااه نفقد الآباء تباعًا، وهم من فقدوا الأجداد قبلاً، من يودع من، من يحمل خشبة من، من يمشى وراء من، سبحان من له الدوام. نمر بحالة فقد عام، شجرة الوطن تسقط أوراقها فى الخريف، نفقد المناضلين الخلص جماعة، معلوم «ولا يبقى على المداود غير شر البشر»، نعزى أنفسنا، ونغتبط، السماء تختار فقط من تحب، ومن أحبه ربه حبب فيه خلقه، وهذا نبيل يرحل، الفيس مجلل بالسواد، كتب نعيه أجيال لم تتعرف عليه حق المعرفة، نعاه صغار وكبار، نعاه بشر ربما لم يعرفوا قدر نبله وعظم تضحياته ومنتهى إخلاصه لما يعتقد. بالدمع جودى يا عين، على رصيف مسجد عمر مكرم كان لقاؤنا الأخير، يومها كتبت عن حزنه العميق على رفيق الدرب حسين عبدالرازق، ولا تزال كلمته الباكية ترن فى أذنى «مع السلامة يا حسين سلم لى على صلاح»، مكتوب على جيلنا الحزن على الكبار، لم نشبع منهم، ولم ننهل من إخلاصهم، تركونا على رصيف بارد، تاهت الخطى لا نعرف يمينًا نسير أم يسارًا، كانوا أصحاب يقين، وتلح عليهم فكرة، واستولى عليهم إخلاص للقضية. ثلة من الخلص الأوفياء، لا باعوا ولا اشتروا، وارتضوا بالقليل، ويوم نصب الفسطاط الكبير فى «فيرمونت» كانوا له من الرافضين، وعندما هتف أزلام القوم على جيش مصر نفروا مدافعين، لم يفرطوا ولم يغادروا الميادين جريًا وراء غنيمة، كانت رؤاهم شفافة، وطريقهم واضحة، وهدفهم نبيلا، كانوا نبلاء ومنهم النبيل، نبيل زكى، يرحمه الله. حمدي رزق - الإعلانات - الأستاذ نبيل زكي رهان التنوير.. والانحياز للوطن لا يختلف اثنان على الدور التنويري الذي قام به الكاتب الصحفى الراحل نبيل زكي عبر أكثر من ستين عاماً فى المجال الصحفى منذ تخرجه فى قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة فى منتصف خمسينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت ميلاد جيل جديد فى مصر بعد ثورة يوليو 1952 ذلك الجيل المتطلع للحرية والبناء والتجديد فى مجالات الحياة المختلفة، وقد ارتبط «زكي» بالحياة السياسية المصرية منذ كان طالباً فى الجامعة، من خلال إنخراطه فى العمل السياسي والعمل العام داخل الجامعة وخارجها، حيث شارك مع عدد من زملائه من طلبة الكليات المختلفة فى تأسيس أول اتحاد لطلبة جامعة القاهرة، وفى إصدار أول صحيفة للجامعة، وأذكر هنا أنه أجرى أول حوار لها مع عميد الأدب العربي. د.طه حسين مع زميله بكلية الهندسة «حسني بخيت» عام 1953، وقد أعدنا نشر هذا الحوار فى عدد ديسمبر 2017 فى مجلة «أدب ونقد». وعن ملابسات هذا الحوار يقول «نبيل زكي» عندما قمنا بتشكيل اللجنة التأسيسية للاتحاد العام للطلاب المصريين قررنا إصدار صحيفة تحت اسم « وحدة الطلبة» لشرح أهمية هذا الاتحاد وحشد التأييد الطلابي له والدعوة لوقوف الطلاب صفاً واحداً على اختلاف كلياتهم ومعاهدهم ومدارسهم وآرائهم ومعتقداتهم السياسية، لقد حانت لحظة الاستغاثة مما يخيم على ساحة التعليم من أخطار، وجاء وقت طلب النجدة، كان لابد من اللجوء إلى قوة هائلة تكتسح أمامها كل الفقاقيع والأصوات المنكرة، كان من الضروري اللجوء إلى رجل المجابهة والاقتحام الذي صمد طويلا بوجه العاصفة وتصدى لها، ووجد كل منا نفسه يتلفت بحثاً عن العميد طه حسين الذي يعتبر التعليم مفتاح الإصلاح الفكري والتقدم الاجتماعي ويؤكد على الصلة الوثيقة بين التعليم والاستقلال، ويعلن أن انتشار التعليم يشكل أحد المقومات الأساسية للديموقراطية، وأن التعليم هو أداة التغيير الاجتماعي وتضييق الفجوة والتفاوت بين الطبقات وكانت المفاجأة أن طه حسين لبى طلبنا نحن الذين لم نبلغ العشرين من العمر. وربما كان هذا اللقاء بداية حقيقية لارتباط كاتبنا بقضايا التنوير فى معظم كتاباته السياسية والاجتماعية والثقافية، التنوير باعتباره أداة للتقدم والرهان على المستقبل. وباعتباره « ضرورة إنسانية « على حد تعبيره، وهذا لن يتم إلا من خلال قراءة التراث قراءة جيدة وتنقيته من الشوائب والترهات، وهذا من وجهة نظرة لن يتم إلا باستخدام كل مناهج العلوم الإنسانية لإضاءة التراث بهدف التحرر من الخصومات العقائدية المتراكمة والنزعات المذهبية، ومن الجمود الفكري وفتح باب الاجتهاد والانفتاح على معارف العصر، لكي نكون جزءاً من العالم فى تطوره فى القرن الحادي والعشرين. وكان « زكي « يؤكد دائمًا فكرة التعايش بين أبناء الشعب الواحد، هذا التعايش القائم على « التسامح « وعن ذلك يقوم فى أحد مقالاته : « لكي تستمر المجتمعات ذات الأصول الدينية المتعددة، لابد من إحلال مبدأ التسامح واحترام الأخر وقبول وجوده، والتسامح لا يقوم إلا على مبدأ قبول الآخر المختلف، وكان الفيلسوف أفلاطون يرى أن الفلسفة لاتنمو بدون التسامح، بل إن التسامح هو شرط الفلسفة، فالتسامح ضرورة إنسانية لا يستقيم المجتمع إلا بوجوده، وخاصة بعد تحول العالم إلى قرية صغيرة، بفضل تطور الاتصالات إلى جانب الحرية والعدل وحقوق الإنسان. والتسامح منارة للحرية التي بها يتفتق الفكر وتزدهر العلوم، وكما قال « رافاييل : فإن التسامح يملك قيمة إيجابية لأنه يساهم فى تعزيز الحرية. لذلك جاءت كتابات نبيل زكي لتؤكد على هذا المبدأ المهم، حتى فى تحليلاته لأعقد القضايا السياسية، فقد كان رافضاً لكل أشكال التعصب والتطرف الفكري، كما كان منحازاً بالمثل للبسطاء والمهمشين مدافعاً عنهم فى مواجهة التسلط والاستبداد والقهر والطغيان الرأسمالي. وقد عاني فى بدايات حياته من جراء دفاعه عن حقوق الشعب ودخل المعتقل السياسي لأكثر من خمس سنوات، فى معتقل الواحات، مع مجموعة من مبدعي مصر ومفكريها أمثال صنع الله إبراهيم، والفريد فرج، وفوزي حبشي، ومحمود توفيق، وفتحي أبو الفضل، وسعد هجرس وغيرهم. مثلما عانى آخرون من أبناء هذا الجيل فى معتقلات أخرى أمثال محمود أمين العالم وصلاح عيسى ورفعت السعيد. وحتى آخر مقالاته والمنشورة فى مجلة « أدب ونقد « فى عدد يناير 2019، ظل يدعو للتجديد الفكري قائلا : « المحنة التي يعيشها العالم العربي سوف تستمر ما لم نتجرأ على طرح الأسئلة وعلى المساءلة، ومناقشة أشياء لا قداسة لها فى الواقع، ولكنها تفرض نفسها كما لو كانت مقدسة. إننا لن نكف عن محاولة العمل على أن تنبثق فى سماء المنطقة العربية حركة نهضوية شاملة.. وحركة إصلاحية جذرية حتى نحرر أنفسنا من أسطورة أن ثمة استعصاء تاريخيا يحول دون ظهور حركات تنويرية شاملة فى هذه المنطقة. هكذا ظل نبيل زكي « حتى لحظاته الأخيرة داعياً للتنوير وإعمال العقل، ينظر للمستقبل العربي نظرة تفاؤل بشرط تربية الأجيال الجديدة على التسامح والمواطنة، وحب المعرفة بلا حدود عيد عبد الحليم كلمة عابرة لم يعرف الكثيرون أن الراحل العزيز الأستاذ نبيل زكى تحوَّل إلى الإسلام منذ نحو نصف القرن، حتى من الأصحاب الذين كانوا يتعاملون معه مباشرة، فبينما كانوا يتساءلون الأسبوع الماضى عن الكنيسة التى ستُؤدَّى فيها الصلاة على جثمانه، قيل إن الجنازة سوف تخرج من أحد المساجد. أما هو، الذى درس الفلسفة فى شبابه وتفوق فيها، فكان يعتبر أن الدين الذى يختاره الإنسان لنفسه أمر شديد الخصوصية، وأنه ليس هنالك ما يدعو إلى أن يكون موضوع حديث، وكان موقناً أن جوهر حياة المسلم والمسيحى لا يختلف. وكان هذا الفهم وارداً حيث نشأ فى شبرا منذ أكثر من ثمانين عاماً، حيث واحدة من أجمل خبرات تجاور الأقباط والمسلمين، فى الحى الواحد والعمارة الواحدة والمدرسة الواحدة، وفى تلاصق المساجد مع الكنائس، فى إطار مجتمع مدينى عالج منذ زمن الأمراض التى تُسمِّم الحياة. ومن المؤكد أن الأسر القبطية لم تكن ترحب بتحول أحد أبنائها عن دينه فى زواجه من الفتاة المسلمة التى أحبها، ولكنهم كانوا يرضخون مع أول حفيد الذى كان يجمع الشمل على محبته ورعايته! أما زوجته المسلمة، التى قضت الظروف أن تسافر بالبنتين إلى سويسراً وهما فى سن الطفولة، فقال لى صديق عمره الأستاذ رياض سيف النصر إنها خشيت عليهما من اغتراب الهوية، ومن تشويهات الإعلام، وحرصت على أن تنشأ على علاقة وطيدة بمصر، وعلى دراية برسوخ الوحدة الوطنية، فوضعت لهما كتاباً بالفرنسية عن تاريخ عائلتهما، وفيه صور الجدة القبطية وبقية أسرة والدهما، مع لقطات للكنائس التى يؤدون فيها صلواتهم. انضم نبيل زكى إلى التنظيمات اليسارية بالجامعة فى الخمسينيات، ودفع الضريبة من عز الشباب خمس سنوات فى السجن، وخرج ليعمل بالصحافة بتفانٍ شهد به الجميع، وأقر له الوسط الصحفى أنه أفضل محرر شئون خارجية فى الصحافة المصرية، ساعده على هذا طلاقته فى الإنجليزية والفرنسية، مع لغة عربية جميلة تنقل بسلاسة عن النصوص الأجنبية. وأما تلاميذه الكثيرون فكانوا يمتنون لحرصه على نقل خبرته الثرية إليهم بلطفه الآسر المعهود. أحمد عبد التواب نبيل زكي في ذمة الله ياصديقي.. كم تساوي ياصديقي عبارة جميلة لازمت الصديق الغالي الأستاذ نبيل زكي، كان يبدأ بها الرد على مكالماته الهاتفية.. أهلاً ياصديقي كم يرددها عندما يريد تأكيد ما يقوله لك كأنها صك للمصداقية.. ولم لا هل يوجد فى هذا العالم من هو أهم من الصديق ؟ هو الذي يعطيك الحب ويجزل العطاء بغير انتظار للرد.. فعندما يناديك نبيل زكي بكلمة الصديق فقد أصبغ عليك نعمة الحب الإنساني. تعارفنا منذ أكثر من عشرين عاماً.. تحاببنا تزاورنا وتناقشنا وأودع كل منا همومه فى قلب الآخر فتجلت لي صفاته الجميلة.. البساطة والتواضع والرقي، ورغم ما يمتلكه من المعرفة والعلم وحقائق التاريخ وقوة المنطق والمصداقية فإنه لم يسع للأضواء أو البرامج التي تدر المال الوفير لكنه تركها لأهلها. وفى الوقت الذي يملأ فيه العالم صخباً كل من نشر من التفاهات ما يندى منه الجبين يظل هذا الناسك يكتب ويوقع قلمه أطيب وأصدق السطور، وتنشر له المؤلفات دون ضجيج أو إعلان أو دعاية، فنقرأ له عن فيتنام الجريمة والمأساة، مقاتل من فيتنام، الفكر السياسي الأمريكي والعالم، اعترافات كيسنجر، صحافة وصحفيون، الأكراد.. وأيضا مؤلف بعنوان الأساطير والحروب والثورات، وحراس الخليج ونوبار فى مصر، بذلك فهو يتصدى للامبريالية والفكر الأمريكي التوسعي الانتهازي والاستعماري. كان الراحل من حراس مهنة الصحافة.. وكما صرح أنه عاش فى مطبخ الصحافة «.. كان من أبرز مفكريها، وسياسيا من طراز نادر نجح فى أن يكون صوتا متزناً يحافظ على ثوابت الوطن واستقراره وسلامه الاجتماعي فنال تقدير الجميع حتى كان يزين منصب رئيس لجنة المواطنة بالمجلس الأعلى للصحافة. كان عاشقاً لتراب مصر منذ نعومة أظافره.. التحق وهو طالب فى المرحلة الثانوية بالحركة اليسارية المصرية وهو يعرف أن القوانين التي صدرت فى هذه الفترة تجرم كل من ينضم للأحزاب اليسارية السرية وأن السجون مصير كل أعضاء تلك التنظيمات رغم أنها كانت تناضل ضد الاستعمار البريطاني، وفرح بقيام ثورة يوليو، واستبشر بشعاراتها التي تبنت بعض الشعارات التي كانت ترفعها الأحزاب اليسارية لكنه اختلف مع الثورة واعتقل عام 59 مع رفاقه اليساريين وأمضى فى المعتقل خمس سنوات، وبعد الإفراج عنه عمل مع السيد خالد محيي الدين فى صحيفة المساء ثم انتقل إلى جريدة الأخبار، وأخذ يكتب بها حتى هذه الأيام، واستطاع أن يدرب فى فترة عطائه الصحفى العديد من الصحفيين الذين تولوا المسئولية بعد ذلك حاملين دعوته إلى التفكير المنطقي ومدنية الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة. صديقي الغالي ستظل فى الوجدان وسيظل مقعدك شاغراً ولن يستطيع أحد أن يشغله. عادل وديع فلسطين يغير ملامح المدينة حين يرحل صديق تتغير ملامح المدينة. يأخذ معه قطعة من روحنا اللامرئية ولا نعود كما كنا قط قبل رحيله، ولأن روحنا لامرئية نتصور أن هذا الفقد أيضًا لامرئي. ولأننا نخدع أنفسنا دائمًا، ونتخيل أن أحبابنا موجودين طالما نحن على قيد الحياة، يترك الفراق غصة فى القلب لا تشفى، على الرغم من محاولاتنا التماسك، وإعلاننا أننا نعرف حتمية الموت. يخط الحزن خطًا جديدًا غائرًا فوق بشرة وجوهنا، فتزداد قساوة. ونقول: هذا فعل الزمن، فى حقيقة الأمر هو فعل الألم، والإدراك الغير معلن لرغبتنا فى التمرد على الفناء، على تغيير صديقنا لعنوانه كما اعتدنا مؤخرًا أن نصف نبأ الموت. لكن أشخاصًا بعينهم لن يموتوا على الأقل معنويًا بسبب ما تركوه فى نفوسنا من محبة، وما تركوه من أثار فى المجتمع الذى عاشوا فيه، وعملوا على تطويره. وحين أسأل نفسى لماذا يغير الكاتب المفكر الصحفى المترجم نبيل زكى ملامح المدينة حين يرحل؟ أقول بسبب الفيض الهائل من المحبة والسلام الذى كان ينشره من حوله، وهذا الجهد الهائل لتوثيق معلوماته، وللدقة المتناهية فى اعتماد تحليلاته على مصادر حقيقية وصادقة، وهى صفة لابد منها فى كتابة المقال السياسي. عرفت الأستاذ نبيل زكى منذ السبعينيات. كان رفيق زنزانة للأساتذة الذين علمونى الصحافة فى مجلتى روز اليوسف وصباح الخير: حسن فؤاد وفتحى خليل وصلاح حافظ وغيرهم من تيار الكتاب اليساريين الذين سجنوا فى الواحات لمدة خمس سنوات فى زمن عبد الناصر، وكانوا رغم هذه التجربة المريرة يؤيدونه ويدافعون عن هذه الفترة لأنها كما أخبرونى تحول أحلامهم للمجتمع إلى حقيقة. دخل نبيل زكي، السياسة من باب الدفاع عن بلاده ضد المحتل الإنجليزى وانتمى إلى اليسار، وبقى يدافع عن مبادئه كل حياته. كان اليساريون المصريون من أكثر من قابلتهم فى حياتى ثقافة، وقد علمونى كيف يضعون المناهج التثقيفية لأنفسهم ليتابعوا ما يحدث فى الحياة من حولهم وفى العالم كله من تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية. عرفتهم مهتمين بالأدب والفن، راصدين هذا الإنتاج ومنحازين للفنون والآداب التى تنحاز للعدالة الاجتماعية، وكان هذا هو سر إعجابى بهم، وهكذا كان نبيل زكي، فلما عمل بالصحافة عمل أولاً مع المناضل خالد محيى الدين فى جريدة المساء، ثم التحق بالعمل فى صحيفة الأخبار، وأثبت أنه واحد من ألمع وأشهر المحررين الصحفيين والمترجمين فى الشئون الدولية. وسرعان ما تولى رئاسة القسم الخارجى وشهد أهلها أن القسم فى فترة رئاسته كان من أفضل أقسام الصحافة الخارجية فى كل الصحف المصرية والعربية، ثم أنتقل إلى جريدة الأهالى حتى أصبح رئيسًا لتحريرها، ثم رئيسًا لمجلس إداراتها. عرفت الأستاذ نبيل كإنسان وتعاملت مع أسرته وشاركته جلسات منتظمة فى صالون صديق لنا هو المهندس نبيه زكى كنا نستمع إلى تحليلاته الرصينة لكل ما يجرى حولنا من أحداث، بهدوئه المعتاد الذى لم يفقده أبدًا، وانتباهه للتفاصيل وهى من صفات المتأمل الواقف على أرضية من الثقافة العميقة. كان يحترم الاختلاف لم اسمعه يوما يسئ لمن اختلفوا معه، بل على العكس كان قادرًا على عبور المشاكل والصعاب. وكان يحترم أقدار الغير ويهتم بالأجيال التالية له، لهذا لم يكن غريبًا أن يتم اختياره ليكون المتحدث الرسمى باسم حزب التجمع فى السنوات الخمس الأخيرة، بعد أن ترك رئاسة تحرير جريدة الأهالي. ولم يكن غريبًا أيضًا أن تتغير ملامح المدينة برحيله، فوداعًا يا صديقي. هالة البدرى سلاماً صديقى نبيل غيَّب الموت، بعد ظهر الثلاثاء قبل الماضي ( 12 32019)، الصديق العزيز / نبيل زكي، المناضل والكاتب السياسي المخضرم. لكنه لن يغيب عنا، بما خلفه لنا : ثلاث صبايا،يعملن فى الخارج، عدا العديد من الكتب، المؤلفة والمترجمة، وتاريخ نضالي، طويل وجسور. التقيت الفقيد، لأول مرة، فى معتقل المحاريق، بالواحات الخارجة،يوم 28/8/1960، بعد أن انتقلت، ضمن سبعة وعشرين معتقلاً فلسطينياً، من السجن الحربي، فى العباسية، بضواحي القاهرة،إلى سجن المحاريق،قبل تاريخ ذاك اللقاء، بيومين، حيث نُقلنا إلى محطة سكة حديد الجيزة، ومنها حملنا قطار إلى صعيد مصر، حتى أوصلنا إلى الواسطة، إلى الشمال قليلاً من أسيوط، ومنها نزلنا إلى قطار آخر، انحرف بنا، من الشرق إلى الغرب، بعد أن كان القطار الأول هبط بنا، من الشمال إلى الجنوب. بعد نحو أربعين ساعة،وصل بنا القطار إلى محطة المحاريق، أما لماذا كل هذه الساعات، من الفجر إلى ما بعد الظهر، فلأن القطار بطيء،بحيث كان يتوقف، كلما خرج بدوي من الصحراء، وأشار له، كي يركبه، ويواصل القطار سيره، وكأنه يسير على قشر بيض. حين نزلنا،فى محطتنا الأخيرة، سقط أحدنا، فظننا أنه مغمىً عليه، لكننا تأكدنا، بعد دقائق، بأنه فارق الحياة ؛ أما الاكتشاف الثاني، فتمثل فى أن الفقيد لم يكن ضمن المعتقلين، فيداه حرتان من أي قيد،بل كان عامل ثلاجة، تم نقله من الوادي إلى صحراء مصر الغربية،عامل ثلاجة السجن،الذي سيحوينا،لكنه ما أن رأى مباني السجن البيضاء، من بعيد، كالقبور، والصهد يخرج منها، كأنه لهب، حتى سقط من الصدمة. باختصار، وصلنا إلى السجن، ووزعتنا إدارته على الغرفتين 2،و7،فى العنبر رقم (1).واكتشفنا أن العنبر رقم (2) قد استقبل، قبل بضعة أيام،دفعة بالمئات من أوردي ليمان أبو زعبل، ملأوا الغرف العشرين فى العنبر المذكور، عن بكرة أبيها،حيث احتوت كل غرفة مابين 25 و30 معتقلاً! كان الفقيد واحداً من الضيوف الجدد، وقد توالوا على زيارتنا، ليتأكدوا بأن القومية العربية بخير، وأن كرامات سلطة القاهرة قد وصلت إلى قطاع غزة ! فكان اعتقال واحد وثلاثين من أبناء القطاع، أكثر من ثلثهم ليسوا أعضاءً فى الحزب الشيوعي، وتم ترحيلهم إلى السجن الحربي، وبعد أكثر من عام، نُقلوا إلى الواحات. هنا، التقيت نبيل، لأول مرة، وكنت أقرأ له مقالات سياسية فى جريدة " المساء" القاهرية، التي خصصها عبد الناصر لليسار المصري، منذ أكتوبر 1956، واختار على رأسها خالد محي الدين، وبدأ نبيل يكتب فيها، غير متفرغ،إذ كان مدرساً فى إحدى مدارس حي شبرا القاهري ؛ وكان المسؤول الحزبي عن هذا الحي ؛ ولطالما حدثنا عن أمجاد محلية الحزب فى هذا الحي، الذي قدّم للحزب عدداً من قادة صفه الأول، وبضمنهم الأمين العام للحزب،أبو سيف يوسف، رحمه الله. انتُخب نبيل ضمن اللجنة القيادية السباعية للعنبر رقم (2)، ثلاثة منهم ضمن الخط الذي رأى بأن عبد الناصر يمثل يمين البرجوازية القومية، المتحالفة مع الكومبرادور (وكلاء الشركات الاحتكارية الأجنبية )، فى ارتباط حميم مع الاستعمار ؛ بينما ثلاثة آخرون، فى اللجنة نفسها،مثلوا اتجاه الأقلية الكبيرة فى الحزب ( وغالبيتها متحدرة من "المصري " )،وقد تبنت خطاً مؤداه أن نظام عبد الناصر يمثل البرجوازية الوطنية ؛ وبقي السابع وموقفه "بين بين "، واسمه طاهر عبد الحكيم ( الدكتور لاحقاً)،ما جعل كل قرارات تلك اللجنة تتأرجح بين خطي "الاحتكار "، و " البرجوازية الوطنية " ! نشط نبيل زكي فى المناقشات، حامية الوطيس، التي استمرت بين الاتجاهين،داخل الحزب،وفى مواجهة "حدتو"،التي رأت بأن عبد الناصر يمثل يسار البجوازية الوطنية،أي البرجوازية الصغيرة. وبعد أن قُتل شهدي عطية الشافعي، رأس "حدتو" ( 15/6/1960)، على أيدي زبانية أوردي ليمان أبو زعبل، عمدت "حدتو" إلى تطوير خطها السياسي،فأخذته إلى اليمين عدة خطوات، إذ أكدت بأن ثّمة "مجموعة اشتراكية " داخل السلطة المصرية،يتصدرها جمال عبد الناصر نفسه ! شارك نبيل فى صحيفتين ناطقتين، من صحف المعتقل الستة، وفى المحاضرات،والندوات،بكل همة ونشاط. لعل المثير للاستهجان أن عبد الناصر بعد أن استمرأ على مدى أربع سنوات (1959 1963) اتهام الشيوعيين بالعمالة، قد عمد إلى الإفراج عنهم جميعاً،وكان آخر المفرج عنهم، فى 4 إبريل 1964. على الفور،ألحق عبد الناصر الصحفيين،من بين المفرج عنهم، بالصحف المصرية ؛ وبعد نحو ثلاثة أشهر اقتحم الشيوعيون القلعة الأمريكية " دار أخبار اليوم "، يتقدمهم خالد محي الدين، الذي غدا رئيساً لمجلس إدارة الدار، ورئيساً لتحرير أسبوعيتها "أخبار اليوم ". وغصَّت قاعات وغرف الدار بالشيوعيين، بينما عيَّن عبد الناصر المستشار أحمد فؤاد ( وكان المسؤول السياسي عن قسم الجيش فى "حدتو") رئيساً لمجلس إدارة " روزليوسف "، التي تولى أحمد حمروش ( المسؤول التنظيمي عن ذاك القسم ) رئاسة تحرير المجلة الأسبوعية التي تحمل اسم الدار. استلم أحمد بهاء الدين، اليساري المستقل، رئاسة إدارة دار الهلال، إضافة إلى رئاسة تحرير أسبوعية "المصور "، وإلى جانبه يساري مستقل مرموق آخر،هو كامل زهيري، رئيساً لتحرير سلاسل : " كتاب الهلال "، " روايات الهلال "، و مجلة " الهلال ". ومعهما المفكر اليساري المعروف، محمود أمين العالم، الذي سرعان ما تم نقله إلى رئاسة إدارة سلف "الهيئة المصرية للكتاب " : " الدار القومية "، و " دار الكاتب العربي "، ولم يطل المقام بالعالم هنا، إذ انتقل إلى رئاسة هيئة المسرح، ليخلفه فى المؤسسة الأولى، توأمه الفكري، د. عبد العظيم أنيس.كل هذه النقلة،من النقيض إلى النقيض، حتى يغيظ عبد الناصر الإدارة الأمريكية،التي قطعت عن مصر معونة القمح، بمجرد أن أُسقط نظام عبد الكريم قاسم،فى العراق، وكانت هذه المهمة بمثابة نقطة التقاطع بين القاهرة وواشنطن، فيما بين سنة 1959، و8/2/1963، تاريخ الإطاحة بذاك النظام. ما أن استنفدت تلك الإجراءات أغراضها، حتى عاد عبد الناصر، وخفف من خطواته اليسارية ؛ وبدأ فى ممارسة ضغوطه على الشيوعيين، حتى يحلّوا منظماتهم، وافتتح لهم شهرية " الطليعة " الفكرية، بدءًا من مطلع العام 1965، ولتنتهي الضغوط بحل أكبر منظمتين شيوعيتين فى مصر : " الحزب الشيوعي المصري " ؛ و " الحزب الشيوعي المصري حدتو "، فى إبريل 1965. لم تتأخر الهزيمة العربية المدوِّية (يونيو 1967) كثيرًا، وهي التي كشفت مدى عمق السوس، الذي نخر عظام النظام الناصري ؛ أساسًا بسبب غياب الديمقراطية، ما خصَّب الأرض للاستبداد، والقمع، والفساد ؛ وفكك البنية السياسية للمجتمع المصري،المتمثلة فى أحزابه السياسية، والتي تولت "حركة الجيش " مهمة الإجهاز عليها، دون أن يتمكن النظام الناصري من إحلال بديل لتلك البنية، التي عمقت وهن المجتمع المصري، باطراد. انضم نبيل إلى هيئة تحرير شهرية " الكاتب " الفكرية اليسارية،والتي أشرف عليها، من وراء ستار،كمال رفعت، وأُوكلت رئاسة تحريرها، أولًا، إلى أحمد حمروش، ثم إلى أحمد عباس صالح. وكان ضمن هيئة تحرير هذه المجلة كل من : نبيل الهلالي، وأديب ديمتري، وجلال السيد، و د. عبد المنعم عبيد، وعبد الجليل حسن. كما كتب فيها مثقفون فلسطينيون، أمثال : ناجي علوش، وكاتب هذه السطور. اشتُهر نبيل زكي بتخصصه بتقديم تجارب كل من الصين، وفيتنام، وكوبا، فى محاربة الامبريالية الأمريكية. واستمر صاحبنا فى العمل فى يومية " الأخبار "، إلى ان أتى السادات، وانفجرت ضده الحركة الطلابية ( يناير 1972) فعاجل السادات الصحفيين اليساريين بسلاح الوقف والتشريد، وبينهم نبيل زكي، الذي سرعان ما انتقل إلى لبنان، ليعمل فى أسبوعية "الهدف "، الناطقة بلسان " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ". ومن بيروت، انتقل نبيل إلى العراق، حيث عمل فى صحافتها، ولم يعد إلى مصر، إلا فى العام 1976، حيث طلب إليه د. رفعت السعيد، وكان يومها سكرتير حزب التجمع، العودة إلى العراق، كي يتسلم إدارة مكتب "التجمع " هناك. سافر نبيل، من فوره، لكن التكليف بإدارة المكتب لم يصله. فعاد إلى القاهرة، وانضم إلى عضوية "التجمع "، وغدا من أنشط صحفييه، حتى غدا رئيساً لتحرير أسبوعية "الأهالي"، لسان حال التجمع، ثم رئيسًا لمجلس إدارتها، إلى أن وافته المنية. متمنيًا جمع ما كتبه من سير رفاقه، فى كتاب، يصدر عن "التجمع "، تخليدًا لذكرى هذا الراحل الجسور، ورفاقه. عبد القادر ياسين فى رحاب عاشق تراب الوطن عاد من المستشفى مستبشرا. بعد أن أنهي "كورس" حقن "الكورتيزون". ووعده الطبيب بأن آلامه ستزول.. ويشعر بالراحة الكاملة بعد أسبوع واحد. لم يكن يعلم حتي رحيله أنه مريض "بالسرطان".. وأن المرض الخبيث فى مراحله الأخيرة. وأن العلاج الذي يحصل عليه لمجرد التخفيف من الآلام المبرحة. التي استمرت شهراً ونصف الشهر.. ولم تفلح كل أنواع المسكنات فى التخفيف منها. تحقق وعد الطبيب.. استراح من آلامه إلى الأبد.. رحل السياسي الكبير.. والكاتب الصحفى اللامع.. والمثقف الذي لم يتوقف عن القراءة حتي آخر أيامه.. والأهم الإنسان.. والصديق.. نبيل زكي. خلال اللحظات القليلة التي كان يتخفف خلالها من آلامه المبرحة اطلعني على كتاب أنيق باللغة الفرنسية. تزينه صورة من الآثار الفرعونية وأشار إلى صورة أعرف صاحبتها جيداً. انها "سلوي" صاحبة أكبر حب فى حياته. تعرف عليها عقب تخرجها فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى الستينيات من القرن الماضي. وتواصلت مع جامعات أوروبية. حصلت منها على شهادات فى الترجمة الفورية بأكثر من لغة. وأصبحت من أبرز المترجمين الذين ترشحهم مؤسسات الأمم المتحدة لمرافقة وفودها عند زيارة مصر. ولم يقف اختلاف الدين عقبة أمام رغبتهما فى الزواج رغم ما أحدثه من صدمات للأسرتين. أسرة نبيل المسيحية فى حي شبرا. لم تكن تتوقع أن يقدم على تلك الخطوة التي زلزلت كيانها. وأصابت والدته بأمراض عديدة. وأسرة "سلوي" فى مصر الجديدة. وهي من جذور ريفية ووالدها يحمل رتبة اللواء. وكان يفخر بتفوقها العلمي.. وشخصيتها المستقلة لم تكن صدمة تلك الأسرة المسلمة أقل. تحملا معا نبيل وزوجته مصاعب عديدة. دفعتهما إلى التماسك أكثر.. وتحدي الجميع. وكان صمودها موضع إعجاب من أصدقاء الطرفين الذين راهنوا على نجاح تلك الزيجة.. وكانت فرحة الأصدقاء أكبر بعد أن رزقا بطفلتين جميلتين. كان يفترض أن ترسخ تلك العلاقة الرائعة. التي صمدت أمام التحديات الكبيرة. وكان القدر يخبئ قرارا آخر. اضطر نبيل لمغادرة البلاد والعمل فى العراق. عقب هجمة شرسة على اليسار. وطلب من زوجته الحبيبة أن ترافقه. رفضت المغادرة واشتد الخلاف. وكان لابد من الانفصال مع الحفاظ على حق رعاية الطفلتين. وافق نبيل على أن تتولي الأم تلك المهمة وألا يتوقف عن رعايتهما. خاصة أن الانفصال لم يؤثر على الاحترام المتبادل بينهما. وافقت الزوجة على العرض الذي تلقته من الأمم المتحدة وغادرت مصر منذ أكثر من أربعين عاما. ورفضت الزواج ووهبت حياتها لرعاية بنتيها. ولم ينقطع نبيل عن زيارتهن. او دعوتهن لزيارة القاهرة. أخذ يقلب صفحات الكتاب. ويترجم لي بعض عباراته الفرنسية. ويشرح الفكرة وراء اصداره. ** حرصت الأم على ألا تنقطع صلة بنتيها بالوطن. وما يجري على أرض مصر من احداث. وكانت تحدثهما منذ نعومة اظافرهما عن تاريخ مصر القديمة والحديثة وارادت فى الوقت نفسه أن تتعرفا على اسرتيهما وباقي افراد العائلتين. يتوقف نبيل عند صورة والدته ويشرح ما جاء عنها فى صفحات الكتاب. ** اعتادت الجدة المتعلمة أن تسجل أحوال حي شبرا الذي عاشت فيه. وكيف كان المسلمون يعيشون معهم فى الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. فى وئام ويتبنون شعار "الدين لله والوطن للجميع". ثم ينتقل إلى صفحات أخري تقدم عائلة نبيل المسيحية وصورهم ووظائفهم ثم عائلة سلوي وصور عديدة عن الآثار المصرية. وصورهما عند الاهرام عند آخر زيارة لهما فى مصر. وصفحات خاصة عن زوجته الثانية والدة نيفين التي عاشت معه فى القاهرة.. وتعمل حاليا فى احد البنوك العالمية فى دبي. ومن أسف انها لم تكن بجواره لحظة الوفاة. وان كانت طلبت من والدتها ألا تتركه وحده رغم انفصالهما وقد حدث ونفذت "نبيلة" طلبها واقامت معه عدة أيام قبل الرحيل. إذا أردنا تلخيص حياة نبيل فى عبارة واحدة. انه كان عاشقا لتراب الوطن التحق وهو طالب فى المرحلة الثانوية. بالحركة اليسارية المصرية وهو يدرك ان القوانين التي صدرت فى تلك الفترة تجرم كل من ينضم إلى الاحزاب اليسارية السرية. وان السجن مصير كل اعضاء تلك التنظيمات التي كانت تناضل ضد الاحتلال البريطاني. استبشر خيرا بقيام ثورة يوليو. التي تبنت شعارات كانت ترفعها الاحزاب اليسارية. ولكن الوفاق لم يدم طويلا. فقد اعتقل عام 1959 مع رفاقه اليساريين وامضي فى المعتقل خمس سنوات. وبعد الافراج عنه عمل مع خالد محيي الدين فى صحيفة المساء. ثم انتقل إلى الأخبار حتي الاحالة إلى المعاش. واستطاع خلال تلك الفترة ان يدرب العديد من الصحفيين الذين تولوا المسئولية بعد ذلك. ومن يتابع المقالات التي نشرت فى وداعه يلاحظ انه حصل على تقدير من كانوا يتفقون معه او يختلفون. ويشيدون بقدرته على احترام الرأي الاخر. لم يتوقف نبيل طوال عمره عن الدعوة إلى التفكير العلمي. وعن مدنية الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية.. وحقوق الموطنة. تولي نبيل مسئولية المتحدث الرسمي باسم حزب التجمع وعضو مكتبه السياسي. وترأس تحرير جريدة "الاهالي".. ثم رئاسته مجلس إدارتها.. وشارك مع المرحوم أحمد عباس صالح فى اصدار مجلة الكاتب.. ولم يتوقف عن الكتابة فى الاخبار حتي آخر ايام حياته. رياض سيف النصر فى وداع الأستاذ من منا لم ينبهر بأحاديث وحوارات ومناقشات الأستاذ..من منا لم يستمتع بمقالاته سواء فى جريدتنا "الأهالي" أو فى أي جريدة أخري..من منا لم يشعر بالحماس لكلماته التي كان يلقيها فى المناسبات الوطنية..عرفته منذ زمن بعيد من خلال وسائل الاتصال..وكنت أراه فى أروقة حزب التجمع..كنت أهاب الاقتراب منه. رغم اعجابي الشديد به بسبب مواقفه الوطنية وتاريخه النضالي الطويل وزاد انبهاري به بعدما حظيت بالاستماع إلى كلماته التي ألقاها فى إحدى فعاليات نقابة الصحفيين أثناء حكم "الإخوان" ورأيت كيف أشعلت كلماته الصادقة المناهضة للإخوان الحماس فى قلوب الحاضرين. كان لكلماته مفعول السحر بالمقارنة بكلمات الآخرين، تدفعك بقوة للتفكير فيها بتمعن، جاءت قوية بلا افتعال، قصيرة واضحة وبسيطة يفهمها بسهولة كل من يملك بصيرة، لم تستغرق سوي لحظات قليلة، خالية من الرتابة لا تخلو من الفكر، جاذبة للعقل بسلاسة. هذا بالإضافة إلى الحضور الطاغي الذي كان يملكه الأستاذ. فكانت هناك علاقة عبقرية بينه وبين الميكروفون استغلها الأستاذ فى إجتذاب مستمعيه حتي آخر حرف فى حديثه.فكان يتحكم فى طبقات صوته انخفاضا وارتفاعا وفق كلماته ليرسخ وقع كلماته على مستمعيه. وذات يوم بعدما أصبح رئيس مجلس إدارة صحيفة الأهالي وجدته شاخصا أمامي بشحمه ولحمه يسأل الزملاء عني وفى يده بعض الموضوعات الخاصة بي، شعرت برهبة اسكتتني لفترة، إلى أن أنقذني أحد الزملاء وأشار إلي، فوقفت دون أن اتفوه بحرف واحد، وأخذ عقلي المسكين يفكر فى الأسباب المحتملة التي جعلت الأستاذ يبحث عني، تملكني القلق بعض الشيء، ولكن ابتسامته الهادئة الودود طمأنتني بعض الشيء -وكأنه كان يقرأ أفكاري ويشعر بما يعتمل فى صدري- طلب مني أن أوافيه فى مكتبه بعدما أنتهي مما كنت أكتبه.ليوضح لي بعض الملاحظات على شغلي. كنت حريصة على التواصل الدائم معه لعرض الأفكار وتلقي المقترحات، وعندما كان يقترح على موضوعات كثيرة كنت أحاول التذمر لضيق الوقت قائلة "أستاذ نحن لا نملك امكانيات الواشنطن بوست" فكان يرد على ساخرا الصحفى الشاطر ميقولش كده أبدا. ثم يتطوع بمساعدتي فى كتابة أحد المواضيع ليخفف عني الحِمل. أستاذي برحيلك تركت لي ميراثا كبيرا من التعليم والتوجيه أتمني أن أحافظ عليه، سأتذكرك كلما أمسكت قلمي لأكتب حرفا.. وداعا وإلي لقاء أستاذي النبيل زكي. أمل خليفة النبيل.. نبيل زكى كان الأستاذ نبيل زكي نبيلاً فى كل شيء، وكنت دائماً ما أبحث عن فرصة لفتح صندوق الذكريات لديه وأجلس أمامه مستمتعاً ومتعلماً كيف يكون الرقي والنبل فى الاختلاف حول القضايا الوطنية. تم إعتقاله فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر وقام الرئيس السادات بفصله من عمله ودفعه إلى مغادرة البلاد ورغم ذلك رفض أن يكون معولا يتم استخدامه من قبل أحد الأنظمة العربية فى ذلك الوقت للنيل من الدولة المصرية. كان صحفياً بكل معاني الكلمة مهنياً حافظ على أصول المهنة وتقاليدها حيث قدمت له خبراً فى عام 2000م أثار حفيظة إحدى الجهات السيادية والتي طلبته للتحقيق وكان السؤال الوحيد من الصحفى الذي أتى بالخبر لأن الموضوع تم نشره بدون اسم وكان رده كأن رئيس التحرير هو المسئول وأن الجريدة مستعدة للتصحيح إذا كان هناك خطأ رغم أن الأزمة فى صحة المعلومات المنشورة وكيفية الحصول عليها. علمنى الأستاذ نبيل زكي الدرس الأخير فى واقعة مقتل الصحفى السعودي «خاشقجي» حيث اختلفت مع وجهة نظره فى القضية وناقشني كثيراً وكان سعيداً وأنا أقول له أليس من حقي أن تكون لي وجهة نظر مختلفة عما تعتقده؟ وابتسم قائلا سأقوم بالرد على ما تكتبه فى عمودي عاجل للأهمية، وهكذا كان نبيل زكي فارساً نبيلاً مثقفاً تعلمت منه أن الخلاف لا يفسد الود. تاريخ طويل من الشرف ونبل الأخلاق والنزاهة وداعاً نبيل زكي. منصور عبد الغني مناضل من طراز خاص فى الفترة الأخيرة من تاريخ حزبنا العريق حزب التجمع، لم نكد نفيق من الحزب على رحيل رفيقه أو رفيق، حتى يفاجئنا آخر بالرحيل بصدق لم نعد نستطيع أن نحتمل المزيد بعد رحيل أحد أهم فرسانه ونبلائه الرائعين. لقد رحل الأستاذ النبيل حقاً «نبيل زكي» فقد كان نبيلا فى تعامله معنا عندما كان رئيساً لتحرير الأهالي، ومتحدثاً رسمياً باسم الحزب، ومحللا سياسيا كبيرا على كافة القنوات التليفزيونية المصرية والعربية، تعلمنا منه الكثير فقد كان مدافعاً قويا عن حقوق المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية ومعنى استقلال الوطن اقتصادياً وسياسياً وأهمية الوحدة العربية الحقيقية فى مواجهة العدو الصهيوني والامبريالية العالمية، كما كان على مدار تاريخه السياسي والصحفى مناضلا قويا، لم يتراجع عن مبادئه ولا مواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني فى دولة تمتد حدودها إلى الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، كما كان يؤكد دائماً أن عدونا الرئيسي هو العدو الإسرائيلي والصهيونية العالمية، وهذا هو موقف حزب التجمع المبدئي وليست قوى أو دول أخرى فى المنطقة، حيث تسعى إسرائيل إلى خلق عدو آخر وتكوين جبهة ضد إيران. هذه بعض مواقف الأستاذ الكبير نبيل زكي، رحمه الله « أقولها وأنا أكاد لا أصدق نفسي، فمازال صوته يتردد فى أذني عندما اتصلت به تليفونيا، لأسأل عن صحته، وهل معه أحد يساعده أو يمرضه، فقال لي بأسي شديد، أنا وحدي وهناك قريب لي يزورني ويعطيني الدواء، ثم يتركني فى المساء. وسألته عن ابنته وهي تعيش وتعمل فى دبي، فقال إنها لم تأت بعد «ثم استطرد قائلا هذه طبيعة الحياة هل سنقف فى طريق مستقبل أبنائنا علينا أن نضحي من أجل مستقبل أفضل لهم. وأتذكر منذ ثلاثة أشهر وتحديدا ليلة رأس السنة، عندما سألته، كيف ستحتفل بهذه المناسبة يا أستاذ فرد على بحزن وأسى لن أحتفل فقد رحل كل رفاقي. ماجدة عبد البديع فى وداع المعلم فى سرادق العزاء ودعناك جيلي وجيل الشباب وجيلك ودعناه بخشوع وبلا ضجيج وكأنها نفس الحالة التي كنت تتحدث وتشرح لنا بها ما يحاك من مؤامرات وصراعات وما يتحقق من تصالحات بين الدول. لقد كنت الشارح الوطني الأمين واسع الإطلاع والنافذة الأهم على السياسة الدولية، ودعناك ياصديقي ( كما كنت تناديني وتنادي كل من حولك ) بالطريقة التي تليق بوقارك وهدوئك. لقد كنت انتظرك فى اجتماع التجمع كل أسبوع لأسمع منك التحليل السياسي الأسبوعي، ولكن أسفاً ياصديقي فقد سبقنا الأجل المحتوم وكما قيل الموت الجبان الذي يتربص خلسة بمن نحب. وداعاً كاتبنا وأحد معلمينا الكبار نبيل زكي. نبيل عتريس أستاذى..شكراً أنا حزينة جداً.. حزينة من قلبي.. مع السلامة يا استاذ نبيل.. يا أهم رئيس تحرير فى حياتي.. هافضل مديونة لك العمر كله.. وألف كلمة شكر مش هتوفيك حقك.. مع السلامة يا استاذي.. "أنتِ إنسانة تقدري تعملي أي حاجة أنتِ عايزاها".. كانت الجملة التي أجاب بها الأستاذ نبيل زكي على سؤالي، حين ذهبت لزيارته أطلب النصيحة، أصحب ابنتي وابني، وأسأله كيف لي أن أنجح فى مهمة عمل كبيرة توليتها، كنت خائفة برغم إقدامي، وبرغم قبولي للوظيفة، ولم أجد بدًا من الذهاب لاستشارة أستاذ آمن بي حين كنت لا أزال صحفية مر على عملي عدة سنوات دون أمل فى التعيين، وهو رئيس تحرير جديد ل "الأهالي"، وجاء الرد الواضح والمباشر والصريح من الأستاذ نبيل: "يا فاطمة.. أنتِ إنسانة تقدري تعملي أي حاجة أنتِ عايزاها". لم تسعني الدنيا من الفرحة، فأنا طفلة أمام إطراء أساتذتي لا أزل؛ خاصةً وإن كانوا شحيحين فى إبداء إعجابهم (وهي سمة كل من تعلمت على أيديهم)، كان رده قاطعاً بأنه مهما كانت المهمة سأستطيع إنجازها لأنه يعرفني جيداً، وحين تأكد من ارتياحي بعد سماع رأيه الواثق في؛ بدأ فى شرح نصائح مهنية ترشدني لأداء دوري الجديد. يومها كان يتحدث معي، وينظر لابنتي وابني بإعجاب، كان يخشى على نجاحي المهني من الزواج والإنجاب، وكان وهو رئيس التحرير الذي يصر على أنني سأجلس يوماً لا بد على كرسي رئيس تحرير (فى زمن كان هذا منصب حقيقي وصعب المنال) يعلن بوضوح قلقه على مستقبلي حين تمت خطبتي، وحين احتجت لأخذ إجازة الزواج لم أجرؤ على طلبها منه، دخلت زميلتي للحصول على الإمضاء؛ فلم يتردد لكنه قال يا خسارة كانت صحفية كويسة! لكنه هو نفسه المدير الذي لم يخذلني حين عدت من إجازة وضع طفلتي وطلبت استثناءات فى الحضور والانصراف (وكان ذلك أمراً جللاً) لم يتردد على منحي إياه، فكان ذلك إنقاذاً لي للمرة الثانية من أن أخسر مسيرتي المهنية، كانت الأولى حين أصر على تعييني فى الجريدة برغم صغر سني مقارنةً بزملائي، وحين علمني صنعة الديسك، وكيف أكتب صفحة للمنوعات، وكيف أحصل على الخبر من الإنترنت؛ هذا الوحش الذي سيغير وجه المهنة، كان داعمًا من الدرجة الأولى، ولولا إصراره على إلحاقي بنقابة الصحفيين ربما كنت فقدت صبري وغيرت مساري، ولولا تفهمه لوضعي الجديد كأم، ما كنت سأستطيع التوفيق ما بين رعايتي لطفلتي الأولى والاحتفاظ بعملي. الأستاذ نبيل زكي، الصحفى الذي لم يتخل عن دهشته، والكاتب الذي يكتشف الموهبة ويقدرها، ورئيس التحرير الذي كان يناديني ب"رئيسة التحرير"، والرجل الذي احتفى بقدرتي على الصحافة والأمومة معًا..شكراً.. لولاك ما كنت هنا." فاطمة خير