لا أحد يحمل ضميراً حياً، يقبل بالتصالح مع جريمة بشعة، كتلك التي جرت للصحفى السعودي جمال خاشقجي، أيا كانت دوافعها، لاسيما لو صحت التسريبات التركية عبر وسائل الإعلام وليس سلطات التحقيق، والتي يلعب بها الرئيس التركي «أردوغان» لكسب أعلى الاثمان، وأشارت إلى تقطيع جثته والتخلص منها، فضلًا عن الخديعة التي حيكت فى مقار مخابرات دولية، وقادته إلى العودة للقنصلية السعودية ليلقي مصيره بهذه الطريقة الثأرية القبيحة وغير الإنسانية. لكن التداعيات التي أعقبتها، والتجييش الإعلامي الدولي حولها، والذي لا يكف عن المطالبة بالإطاحة بولي العهد الأمير «محمد بن سلمان» الذي يرتبط باسمه، مشروع الإصلاح والتحديث فى المملكة، يشكك فى دوافع الضغوط الدولية السائدة، التي تخلط قضية جنائية، بمصالح مالية مكشوفة، وتستثمر القضية لتحقيق مكاسب سياسية، لا تغيب عن فطنة أحد، تحت ذرائع الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. والمعركة الدائرة فى الداخل الأمريكي بهدف الحشد لمنع صفقات السلاح للسعودية، ليست موجهة للمملكة، بل للرئيس الأمريكي نفسه، فالمعارضون له، مثل المؤيدين له، يضعون تحت أعينهم إنتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكي التي تجري فى السابع من الشهر المقبل، ومنع ترامب من تصدير صفقات سلاح وصلت قيمتها كما قال إلى 450 مليار دولار، هو خطر يدرك معه أنه يهدد حظوظ الحزب الجمهوري فى الانتخابات، وهو ما وسم تصريحاته فى تلك الأزمة بالتناقض والارتباك. وفضلًا عن ابتزاز المملكة ونهب ثرواتها، فإن الضغوط الغربية والتركية عليها تسعى إلى دفع السعودية لتعديل سياساتها وتحالفاتها الإقليمية. وكل متابع لحملات الحشد والتجييش والابتزاز للسعودية، لا يخطئه الأهداف التي تصوب إليها سهامها وعدوانها. وأول تلك الأهداف، وقف التوجه الإصلاحي للمملكة، الذي بدأ قبل أكثر من عامين، ولعب دورًا أساسيًّا فى غل يد الفئات الدينية المتشددة والمحافظة عن التدخل فى الحياة الإجتماعية والسياسية، وسن قوانين لتقييد حرية هؤلاء فى الخطب بالمساجد وفى سلطات الإفتاء، وشكل إطلاق يد هؤلاء العامل الأساسي لتراجع خطوات التحديث فى السعودية، ووقفها تمامًا، كما ساهم فى تشكيل أفكار الإرهاب الجهادي الذي عم دول المنطقة وامتد إلى خارجها. الهدف الآخر لتلك الضغوط رفع المقاطعة الخليجية عن قطر، وهو أمر لم يعد مستبعدًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار اللهجة الودية التي يتعامل بها قادة المملكة هذه الأيام مع قطر ومع تركيا، ولا يحق لأحد أن يعترض على مصالحة قطرية مع دول الخليج، ولا أخرى بين السعودية وتركيا والإمارات، شريطة ألا تتراجع أبوظبي والرياض عن قرارهما بإدراج جماعة الإخوان فى قائمة المنظمات الإرهابية والزام تركياوقطر بالتعهد بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، وعدم تنازلهما فى سباق التوصل لتسوية لقضية خاشقجي، عن المحور العربي الذي يضمهما مع مصر والبحرين، والذي بات واضحًا أن هدمه هو أحد الأهداف التي تصبو إليها الحملة على المملكة. لا أظن أن أحدًا يشكك فى رغبة «أردوغان» البادية لتقديم نفسه للعالم، بأنه القائد الإقليمي للمنطقة بل الزعيم السنى للعالم الاسلامي كله. وليس بعيدًا عن ذلك تصريح وزير الخارجية التركي، الذي شكك فى الرمزية الدينية التي يحملها الملك السعودي «كخادم للحرمين» إذا ما ثبت تورط أفراد من العائلة المالكة فى قضية خاشقجي، وإذا كان هناك معنى لذلك فإن رسم خريطة جديدة للتحالفات داخل المنطقة، يهدم التحالف السعودي المصري، هو هدف أسمى للحملة الدولية على المملكة والتشكيك فى التحالف الذي يجمعها مع مصر والإمارات. ولا بديل أمام القيادة السعودية للتحرر من تلك الضغوط، ووقف الضجة المغلفة بالمصالح فى الاتجاهات الأربعة، إلا وضع معايير لمحاكمة عادلة للمتهمين، تلتزم بالحياد والاختصاص والعلانية والشفافية، وتنطوي على مبدأ حقوقي دولي، أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، وتنطوي علنية المحاكمة على ميزة الإفادة بأن أية اعترافات لم يتم أخذها بالإكراه، كما تمنح المشككين والمجيشين والمبتزين أدلة قاطعة على استقلال القضاء السعودي. إتمام المصالحة بين قطر ودول الخليج، دون شروط، ستعزز لدى الإمارة نزوعها بدعم من تركيا، للتدخل فى الشئون الداخلية لدول المنطقة لتصفية الحساب معها، وإعادة تأهيل جماعة الإخوان المسلمين لدمجها مرة أخرى فى المجتمعات العربية، لمواصلة مشروعها التخريبي للدول الوطنية فى العالم العربي.