ان تتحول المسلسلات الإذاعية الى تليفزيونية فهذا ما حدث منذ سنوات طويلة، بعد بداية البث التليفزيوني فى مصر فى مطلع الستينيات من القرن الماضي، وحيث كان للمسلسل الاذاعي حينذاك سحره وقوته ونفوذه الكبير على آذان المستمعين، وحتي موعد عرض هذا المسلسل فى السابعة مساء، كان له أهميته فى كونه ملائمًا لاجتماع الاسرة المسائي، ويذكر الكثيرون منا أسماء نجوم هذا الوقت من كتاب ومخرجين ونجوم، وأسماء بعض الأعمال مثل «القط الأسود» و«سمارة»، وحلقات «الف ليلة وليلة» التراثية الرائعة وصوت بطلتها زوزو نبيل تهتف فى نهاية الحلقة قائلة «مولاي». أقول هذه الكلمات بعد ان تغيرت أحوال فن الدراما، وتراجعت دراما الاذاعة لحساب دراما التلفزيون، اي دراما الصورة التي استحوذت على الاهتمام كله، أو ربما أغلبه، فليس لدينا إحصاءات أو جهاز متخصص لرصد اتجاهات الجماهير تجاه الأعمال الفنية، إلا ان الأمر المدهش هذه الأيام جاء من الإذاعة نفسها، ومن أحد فنانيها وهو المخرج على عبد العال الذي فعل ما فعله غيره فى بدايات بث التلفزيون بتحويل المسلسلات الإذاعية الي تلفزيونية، عبد العال اختار مسلسل «أم كلثوم» التلفزيوني ليحوله الي مسلسل إذاعي قدمته إذاعة «الأغانى» فى رمضان الماضي، وتعيد إذاعته هذه الأيام، وهو اختيار ذكي، فهذا العمل الكبير الذي كتبه محفوظ عبد الرحمن وأخرجته أنعام محمد على ووضع موسيقاه التصويرية عمار الشريعي، وشارك فيه مبدعون فى كل التخصصات، ومنها التمثيل بداية من صابرين التي قفز بها دور أم كلثوم ليضعها فى مكانة مستحقة كممثلة، وأيضًا حسن حسني وسميرة عبدالعزيز ومجموعة من أهم وأكثر ممثلينا موهبة وقدرة. المدهش هنا هو قدرة هذا العمل على إعادة جذبك سماعيا بعد ان جذبك سابقا من خلال الصورة بكل مفرداتها وثرائها، وربما لهذا السبب تحديدا فطن المخرج الاذاعي الي ملاءمة العمل لإعادة تقديمه إلى المستمع، سواء كان هذا المستمع قد شاهده عند عرضه التلفزيوني..أو لم يره «عرض مسلسل أم كلثوم عام 1999» وبهذا الفهم، فإنه قادر على الوصول الي مستمعين جدد من الشباب الذين لم يروه فى عرضه التلفزيوني ولكنهم يسمعون الراديو الآن، وإذاعة الأغاني خاصة، بجانب تلك الأجيال الأكبر التي أحبت المسلسل بالفعل، ولديها شغف بالتعامل معه كشريط إذاعي ممتع موسيقيا وتمثيليا، وتحرير مستمعه من قيود المشاهدة التلفزيونية، والحقيقة اننا هنا أمام تحدٍ جديد فى عالم الفن الاذاعي، هو تحويل عمل فى حلقات من صورة بكل مفرداتها الي صوت فقط، واختيار كل العناصر التي تبرز العمل من خلال شريط الصوت فقط، والتعامل معه كأساس لوصول القصة والسيناريو والحوار للمستمع وتأكيد الحضور القوي للدراما برغم تنافسها القوي مع الموسيقي فى العمل، وهوتنافس فيه ندية كبيرة فيما يخص حياة البطلة واكتشاف موهبتها ورحلتها الطويلة الشاقة الي عالم الشهرة وعلاقتها بزملاء العمل من الموسيقيين والملحنين، وبالمنافسين والمنافسات لها، كل هذه المواقف فى حياة ام كلثوم استطاع نص كاتبنا الكبير الراحل محفوظ عبد الرحمن خلقها وحافظت عليها مخرجة العمل القديرة أنعام محمد علي، وأضاف اليها المبدع عمار الشريعي المعادل الموسيقي الموضوعي بداية من لمسات التيتر الغنائي المتعددة القوية من اللحظة الاولي التي التصقت بذهن ووجدان المشاهد كعلامة مسجلة على زمن، وعصر، وليس فقط على قصة حياة اكبر واهم مغنيات هذا العصر. ربما وضع مسلسل (ام كلثوم) صناع الدراما التلفزيونية فى مأزق واضح فيما يخص مسلسلات السيرة الذاتية وكيفية تقديمها، وصولا الي الحديث عن كم الصدق فى تناول هذه الحيوات.غير ان تقديم السير الذاتية للفنانين الكبار فى مواجهة كل ما مروا به من صعوبات إنسانية واجتماعية وعصرية يقدم رسائل مهمة لاجيال. من البشر يفتقدون القدرة على الكفاح ويحتاجون اليها من خلال أكثر وسائل التعلم جاذبية، وهو الفن، ومن هنا تأتي إعادة تقديم هذا العمل الكبير عبر أثير الاذاعة المصرية، وبقدرة فنية عالية جزء مهم من التفاعل المطلوب بين وسائل التواصل، واستعادة لدور الاذاعة الكبير بالنسبة لجمهور بالملايين، انصرف الي جهاز الصورة ذات يوم، ولكن استعادته ممكنة من جهاز يمتلئ بالمبدعين.