تطرح التطورات الأخيرة فى المملكة العربية السعودية، أو ما يسميه البعض بثورة الأمير الشاب تطرح على الواقع الثقافى والسياسي فى البلدان العربية كافة ومجدداً كل ما ترتب على انتشار، بل وتجذر الوهابية فى أوساط قطاعات واسعة جداً من المواطنين العرب.. وكان هذا الانتشار والتجذر من الأسباب الجوهرية التي أدت فى عدد من البلدان العربية إلى انفجار صراعات دموية من الجزائر إلى مصر، ومن ليبيا إلى تونس ومن اليمن إلى العراق ولعل المحنة التي تعيشها سوريا الآن، وقد تعددت فيها الجماعات المسلحة التي تحارب الدولة والجيش السوريين، ولعلها أن تكون الذروة المأساوية فى التراجيديا الوهابية، والتي أسفرت عن سقوط مئات الآلاف من الضحايا فى مجموع البلدان التي لعبت فيها الجماعات المتسترة بالدين، وفى القلب منها الوهابية أدواراً فاصلة فى الصراع الإجتماعي الثقافى وذلك بعد أن نجحت ضمن عوامل أخرى فى تحويل هذا الصراع إلى صراع ديني وطائفي.. وبقيت الوهابية، ولا تزال مكونا رئيسياً، بل لعله أن يكون المرتكز الأساسي للإستراتيجية الإستعمارية الجديدة التي وضع أسسها رجل الأمن القومي الأمريكي «صامويل هنتنجتون» وتقوم على تحويل صراع المصالح فى العالم من صراع اجتماعي اقتصادي سياسي، أو مواجهة بين حركات التحرر فى البلدان المستعمرة من جهة والقوى الإمبريالية من جهة أخرى إلى صراع ديني طائفى أو عرقي عنوانه الهوية.. وبدأ التأسيس لهذه الإستراتيجية منذ نشأة إسرائيل، وقبل سقوط المنظومة الإشتراكية بزمن طويل، بل إن هذه الإستراتيجية نفسها جرى استخدامها على نطاق واسع فى عمليات التحضير لإسقاط المنظومة الاشتراكية بدءًا من الحرب فى أفغانستان التي أسهمت فيها أموال النفط العربي من دول الخليج، وقد تحالفت هذه الدول مع كل من فرنسا ونظام السادات فى مصر، وجرى فى هذا السياق تجنيد آلاف الشبان تحت راية الدفاع عن الإسلام ضد الشيوعية.. وعرف العالم الإسلامي منذ ذلك الحين ظاهرة «العائدون من أفغانستان» وهم شباب مقاتلون متعصبون ومتشددون فقيرو الثقافة، ضيقو الأفق « حيث مكنهم مال النفط من نشر هذا الشكل المتشدد والهدام من الإسلام عبر العالم الإسلامي كله، وفى صفوف المسلمين فى الغرب» كما يقول «برنارد لويس» الباحث فى الإسلاميات والمعادي للعرب والمسلمين، ويضيف «لويس» «ولولا النفط، وقيام المملكة العربية السعودية لبقيت الوهابية جناحاً متطرفاً طائشاً».. ويصف أحد الباحثين السعوديين الثقافة التي تكونت فى ظلها أجيال متعاقبة من الشباب فى العالمين العربي والإسلامي «بثقافة العنف التي تسربت إلى التربية الدينية».. وتغذت هذه الثقافة العنيفة المغلقة فى العالمين العربي والإسلامي على منظومة كاملة من المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية والأسرية عظمها تعثر الإندماج العربي الإسلامي فى الحداثة، وإبقائهما على الدين وحده مرجعية لهما، ونشوب صراع مستتر أحياناً، ومعلن أحيانا أخرى بين الفتوى والقانون.. لذلك، وكما يقول المفكر الراحل «سيد يسن» «فشلت الجامعات المصرية فى إنتاج العقل النقدي، ونجحت نجاحا باهرا فى إنتاج العقل التقليدي الإتباعي».. وبقيت معظم تيارات الفكر العربي مسجونة داخل النفق المظلم نفسه الذي حصر سؤال النهضة فى بعد الدين وحده». كما يضع الأمر المفكر الراحل «نصر حامد أبو زيد». وتتبارى السلطات العربية فى سعيها لاسترضاء هذه الجماعات التي تتبنى ثقافة العنف وتحمل السلاح وينهض الأساس الفكري لها على التكفير واحتقار الغير وإزدراء معتقداتهم، والتمييز ضد المسيحيين والنساء. وغالباً ما يستهدف هذا الاسترضاء الاستعانة بهذه الجماعات ضد الخصوم السياسيين للسلطات، وغالبا ما يتكون هؤلاء الخصوم من الأحزاب والجماعات اليسارية وجسدت تجربة نظام «السادات» هذا التوجه المدمر حين تحالفت السلطة مع الإخوان المسلمين والجماعات المسلحة لضرب اليسار المصري الناهض حينذاك فى الجامعات والمناطق العمالية، وكان نظام السادات يعد بذلك العدة للانقضاض على كل ما هو إيجابي فى التجربة الناصرية. ثم كان أن جرت عملية التفرقة الوهمية بين التيارات «الجهادية» التي اغتالت «السادات» و «المعتدلين»، وكان المقصود بهؤلاء المعتدلين.. «الإخوان المسلمين».. وذاع هذا الوهم على نطاق واسع حتى أصبح المصريون متشوقين لتجربة حكم «الإخوان» بعد أن كان هؤلاء قد مدوا جسورا لهم فى الأوساط الشعبية الفقيرة على نحو خاص، ثم كان أن انتخب المصريون الإخوان المسلمين ليكتشفوا حقيقتهم بعد عام واحد من هذا الحكم، وأخذ باحثون ومثقفون يحفرون فى تاريخ هذه الجماعة الفاشية التكوين والتوجه ليعرفوا بعد التجربة المريرة أن «حسن البنا» مؤسس الجماعة قد استلهم الفكر الوهابي، وكان ينشد محاكاة ما اسماه بالجماعة الإسلامية «الطاهرة» التي أنشأها الإخوان الوهابيون طبقا لتعبيره.. ولعبت جماعة «الإخوان المسلمين» دورا كبيرا جداً فى ترويج الفكر الوهابي، ولا تزال تلعب هذا الدور.. وكان بعض قادتها الذين هربوا من مصر بعد محاولة إغتيال «جمال عبد الناصر» قد أسهموا فى تأسيس رابطة العالم الإسلامي فى مكة، وكانت مهمتها إحياء الوهابية ونشرها على الصعيد العالمي، إذ لم تسع إلى دعوة المسيحيين لاعتناق الإسلام فحسب، بل أيضاً إلى إقناع المسلمين بتبنى الوهابية.. وقامت الرابطة فى هذا السياق بطبع أعمال «ابن تيمية» ومحمد بن عبدالوهاب « و»سيد قطب» وغيرهم فى طبعات شعبية توزع فى العالم كله.. والآن يجري طرح السؤال الشائك، هل ستنجح «ثورة» الأمير السعودي الشاب فى استئصال الوهابية، ولو على المدى الطويل، وهل سيكون بإمكاننا نحن المصريين، وفى ظل ما يدعو له الرئيس «السيسي» فى ثورة دينية أن نتوافق على بناء استراتيجية شاملة للتخلص من هذا النفوذ الوهابي الضارب بجذور عميقة فى أوساط مصريين كثر ؟ إنه السؤال الكبير المفتوح على المستقبل.