حصل إسلام بحيري علي الشهرة التي أرادها.. وقدم أوراق اعتماده إلي الجهات التي تلتقط مثل هذا النموذج لتحتفي به وتمجده.. وتصنع منه بطلاً ومفكراً ومجدداً ومجتهداً.. نجحت اللعبة وصار نجماً في المجتمع.. لا تكاد تخلو صحيفة من مقال يقرظه ويدافع عنه.. وهذا هو كل ما كان يطمح إليه.. فلا هو مهموم بالخطاب الديني ولا بقضية التراث.. ولم تكن له سابق تجربة في هذا المجال.. وليس مسلحاً ولا مؤهلاً لخوض عبابه.. مؤهلاته كلها تختصر في الجرأة علي الصحابة والعلماء والأزهر مع قدرة وافرة في ادعاء مفضوح للعلم.. وهذه المؤهلات هي التي شجعت القناة الفضائية علي أن تتيح له فرصة للظهور لا تتاح لمن هم أوفر خطآ منه في العلم والأدب.. والهدف واضح تماما.. إحداث ضجة وصخب وفتنة يتردد معها اسم القناة فتشتهر وتحصل علي الإعلانات.. ويتردد معها اسم الفتي فيتحول الشاب الشتام إلي صاحب قضية ومفكر ومجتهد.. وتتلقفه الدوائر المعروفة في الداخل والخارج لتصنع منه نجماً. كثيرون قبله سبقوه في هذا الاتجاه ونجحت لعبتهم وصارت مضمونة النتائج.. فقد نالوا الشهرة التي نالها.. وأسبغت عليهم الألقاب الفخيمة التي سوف تسبغ عليه..وحصلوا علي الجوائز في الداخل والخارج .. والجوائز الآن في انتظاره.. وتم تقديمهم إلي المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية علي أنهم قادة فكر متطور في مواجهة الإرهاب والإسلام التقليدي.. وما حدث مع الدكتورة نوال السعداوي- علي سبيل المثال- سوف يحدث معه.. لقد مرت مرحلة الصدام وهو الآن في انتظار جني الثمار. اللعبة صارت مكشوفة تماماً وصارت مملة.. يخرج أحدهم للهجوم علي الثوابت والرموز الإسلامية.. مغروراً أو مدفوعاً.. فيغضب الناس خوفاً من الفتنة ويتنادون: أين الأزهر.. أين الأزهر.. وعندما يدخل الأزهر علي خط المواجهة تخرج الميليشيات العلمانية والشيوعية للدعم والمساندة.. وتتحول إلي الهجوم الضاري علي الأزهر وتتهمه بالتطرف والجمود.. وخلال الأيام الماضية رأينا من يتهم الأزهر بممالأة "داعش" وأنصار بيت المقدس بهدف ابتزازه وتخويفه. حقيقة.. لم أكن أود أن أتعرض لهذه القضية التي هي مجرد تكرار لسيناريو مبتذل سئمنا منه علي مدي السنوات الطويلة الماضية.. حيث يتخذ الهجوم علي التراث جسراً للهجوم علي الدين.. وما كنت أود للأزهر أن يدخل في هذا الجدل العقيم الذي جرتنا إليه فتنة إسلام بحيري حول التنوير المغشوش الذي هو في الحقيقة تزوير صريح.. والتجديد الذي هو في الحقيقة تبديد.. لكن ماذا نفعل وماذا يفعل الأزهر إذا كانت مثل المعارك المقصودة تفرض فرضاً علي مجتمعنا بين آن وآخر لتشتيت وعيه واستهلاك طاقاته في الاتجاه الخطأ. هل يعقل أن تناقش قضية التراث عن طريق برنامج تليفزيوني يجلس فيه شخص ما لينهال قدحاً واستهزاء علي علماء بقامة ابن تيمية والشافعي والبخاري؟! هل يمكن أن تتحول قضايا الدين إلي مادة للتوك شو بهذه البساطة؟! في أي بلد في العالم يحدث ذلك ولأي دين غير الدين الإسلامي تعرض هذه الاساءات؟! لو كان اسلام بحيري صاحب مشروع حقيقي لتنقية التراث.. ولو كان باحثاً إسلامياً حقيقياً.. فصار في اتجاه آخر بعيداً عن اللغط والصخب.. إذ كان بمقدوره أن يعد دراسات علمية موثقة ويقدمها إلي الأزهر أو إلي المراكز العلمية المتخصصة.. أو أن يطرح مشروعه في أبحاث علمية محكمة يشرف عليها أساتذة متخصصون.. لكن الواضح أن هذا لم يكن هدفه.. وإنما هدفه كان إثارة الصخب والحصول علي الشهرة السريعة من خلال الكاميرا والميكروفون في برنامج يومي يتيح له أن يقول ما يقول دون حسيب أو رقيب.. وبعد ذلك يطلب من الأزهر أن يرد. إن معركة إسلام بحيري نموذج للحق الذي أريد به باطل.. الحق هنا هو العناوين البراقة المعلنة مثل حرية التعبير وتجديد الخطاب الديني وتطوير الوعي وتنقية التراث.. كل هذه أمور لا خلاف عليها.. لكن الخلاف الذي يواجه باطله هو كيف يتم تناول هذه العناوين وكيف يجري مناقشتها من خلال الجمهور أم من خلال العلماء المتخصصين؟! نحن لا ننكر أن هناك آراءً في التراث تحتاج إلي مراجعة لأنها صارت خارج الاطار الزمني وخارج الإطار العقلي.. وهناك مرويات فيها الكثير من الشطط والشذوذ.. ويجب التعامل مع هذه الآراء والمرويات بشجاعة وعلم وإدراك دون تعد أو سب أو شتم.. ودون تسفيه وازدراء للفقهاء الكبار والتطاول عليهم واتهام عقولهم.. وأن يكون هذا التعامل من خلال الهيئات العلمية القادرة علي النقد والترجيح حتي نقبل ما ينتج عنها.. ونثق في جديته وجدارته.. بعيداً عن اللغط الإعلامي وغواية الشهرة. ولا ننكر أيضا أن هناك من علماء الأزهر من تستهويه الآراء الشاذة والمرويات الغريبة الموجودة في كتب التراث فينطلق إليها يلتمس فيها الدين والإيمان ويطرحها علي الناس غير مبال بالفتن التي يوقظها.. وقد مرت بنا أكثر من ضجة حول إرضاع الكبير وجماع الوداع والتداوي ببول الإبل حتي ظن الناس أن ذلك من الدين.. دون تفرقة بين ما هو أصل في الدين وما هو من التراث والعادات والتقاليد التي تتغير بتغير الزمان والمكان. نرجو أن نتعلم الدرس حتي لا نسيء إلي ديننا وإلي تاريخنا وحضارتنا.. وحتي لا تسيء أيضاً إلي وجودنا وإلي أنفسنا.