الشائعات .. خطر كبير . وسلاح غير مأمون العواقب قد يعصف بمجتمع بأكمله. خاصة إذا كان هذا المجتمع يفتقر لآلية سليمة لاستقاء المعلومات. وفي ظل انتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة تصبح المسألة أعقد حيث يصعب تتبع مروج الشائعة أو التحقق من مدي مصداقيتها فيختلط الصدق بالكذب ونصبح إزاء مشهد غير مكتمل المعالم .. وهنا مكمن الخطر. وإطلاق الشائعات ليس بالأمر الجديد بل هو قديم قدم الوجود عاصره رسولنا الكريم في أكثر من واقعة لعل أشهرها وأخطرها "حادث الإفك" الذي قيل في حق السيدة عائشة رضي الله عنها ونزل فيه قرآن كريم يبرئ ساحتها .. في السطور التالية نلقي الضوء علي أبرز الشائعات التي أطلقت في عهد المصطفي صلي الله عليه وسلم وكيفية تعامله معها علنا نقتدي بهديه في زماننا هذا الذي كثر فيه القيل والقال . في البداية يؤكد الدكتور محمد أبو ليلة . أستاذ الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية في كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر. ان الشائعات في كل عصر وكل بلد تقترن بالتجمع البشري الذي لا يكاد يخلو منها خاصة مع تعقد الأمور سياسيا واقتصاديا وتشعب العلاقات الاجتماعية ولاشك ان إطلاق الشائعات يعبر عن إنسان مستضعف يريد أن يحقق كسبا بطريقة سلبية بأن يختلق شيئا ويشيعه أو أن يكبر أمرا صغيرا وينشره . وأحيانا قد تكون الشائعة مبرمجة سياسيا لضرب استقرار مجتمع ما حيث تستخدم شعوب كثيرة سلاح "الإشاعة" في إضعاف معنويات الشعب الذي تحاربه. تطرق أبو ليلة إلي الشائعة في حياة الرسول صلي الله عليه وسلم فقال : في مكة لم تكن هناك شائعات بالمعني المتعارف عليه لأن عرب الجاهلية كانوا هم الطرف القوي . لذلك فقد كانت الشائعات في مكة بسيطة وليست بالحجم الذي ظهرت به في المدينةالمنورة والتي كانت أكبر شائعة بها هي حادثة الإفك التي تخص السيدة عائشة رضي الله عنها حيث كانت في سفر مع رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعدت عن الركب لقضاء حاجتها بعيدا عن أعين الناظرين . ولما رجعت كان الركب قد بدأ مسيرته وتركها لأنها كانت خفيفة فحملوا الهودج وظنوا أنها بداخله وذهبوا للمدينة . وما أن استقروا بها حتي جاءت السيدة عائشة ومعها رجل كان يقود لها الجمل فاتهمها المنافقون في هذا الرجل وهي أشرف النساء والصديقة ابنة الصديق . وروجوا للشائعة حتي ملأت المدينة فحزن الرسول حزنا شديدا حتي نزل القرآن الكريم بتبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها . وتوعد الله المرجفين "مروجي الإشاعات" في الدنيا والآخرة . أضاف د.محمد أبو ليلة : إن هناك شائعة أخري انتشرت في غزوة مؤتة حيث خرج المنافقون مع النبي وانسحبوا في منتصف الطريق مدعين أن المسافة طويلة لإحداث خلخلة بين صفوف المسلمين . وضرب وحدتهم. أوضح د.محمد أبو ليلة أن أكبر علاج للشائعة جاء من عند الله في قوله تعالي: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين" الحجرات 6. ولذا فلابد أن يستوثق الإنسان مما ينقل إليه بأن يعرضه علي عقله ويسأل نفسه هل يمكن أن يكون ذلك صحيحا . ثم يستعلم من أهل العلم ويجمع الآراء ولا يترك عقله صفحة بيضاء لكل من يمسك بقلم . ولا يسلم أذنه لكل صوت يصرخ فيها فالشائعة لها مردود سلبي يتعدي الفرد إلي المجتمع كله.. لفت د.أبو ليلة إلي أن هناك نوعا خطيرا من الشائعات الاحترافية يعمد صاحبه إلي التأثير علي المرأة حتي تستسلم لهواه فيختلق حولها الشائعات والشبهات الكثيرة أو يهددها بإثبات الشائعة عليها إن لم تستجب له لتفاجأ المرأة بنفسها تقع ضحية للابتزاز الذي يقوم به بعض الرجال لضرب عفتها والعفاف المجتمعي ككل ولهذا فإن الإسلام نهي عن ذلك كله وحذر منه تحذيرا شديدا وحرم كل ما يؤدي إليه . والإنسان يحاسب علي كل ما يقول . كما أن المسلمين استحدثوا قوانين جديدة لمعاقبة مروجي الشائعات هذه القوانين مبنية علي أبواب مكتملة في الفقه تؤكد أن مواجهة الشائعات تكون بتحصين الإيمان والتأكد من الخبر الذي نتلقاه تجنبا للأثر البغيض للشائعة علي الفرد والمجتمع. قتل محمد! يروي الدكتور عبد الغفار هلال. العميد الأسبق لكلية اللغة العربية - جامعة الأزهر . بعض الشائعات الشهيرة فيقول : إن من أبرز الشائعات التي حدثت في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم ما حدث في غزوة أحد حينما كلف الرسول الرماة بالوقوف خلف الجيش لكن المنافقين أشاعوا أن محمدا قد قتل فنزل عدد كبير من الرماة من فوق الجبل مما أدي إلي تغلب المشركين في أول المعركة .. لكن هذه الشائعة قضي عليها الرسول في الحال بأن أرسل بعض الجنود ينادون في الناس أن رسول الله يدعوكم ويطلبكم وظهر وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب .. هذه الشائعة كان الهدف منها بث الضعف في نفوس الجيش الإسلامي بالترويج لأن رسولهم قد قتل. وأضاف: الشائعة الثانية وقعت في صلح الحديبية حينما كان محمد متجها إلي مكة يريد العمرة والمشركون منعوه من دخول مكة . فأخذ يرسل بعض الرسل ليتفاوضوا مع أهل مكة . وقد أرسل هؤلاء الرسل واحدا تلو الآخر وكان آخرهم عثمان بن عفان أرسله لمكة للتفاوض فتأخر فأشيع أن المشركين قد قتلوه .وهنا بايع الرسول أصحابه علي أن يقاتلوا المشركين ونزل قوله تعالي : "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا" "الفتح 18". وعلم المشركون بأمر المبايعة وكانوا هم من أطلقوا الشائعة فأطلقوا سراح سيدنا عثمان بن عفان وكانوا قد أخروه في مكة. أوضح الدكتور عبد الغفار هلال. أن هناك شائعات كثيرة عاصرها رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو في المدينة أطلقها اليهود لكي يفتوا في عضد المسلمين بإيهامهم بأنهم ضعفاء . لكن الرسول تخلص من هذه الشائعات وأحكم الأمر بالخطط السريعة. اعتبر د.عبد الغفار حادثة الإفك هي الشائعة الكبري التي حدثت في عهد رسول الله لدرجة أن سيدنا أبا بكر الصديق كان ينفق علي مسطح بن أثاثة وكان فقيرا وهو من المشاركين في حديث الإفك فامتنع أبو بكر عن الإنفاق عليه لكن الله تعالي عفا عنه وقال في سورة النور: ".... ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربي والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ...." "النور 22" لذا فقد برأ القرآن الكريم ساحة السيدة عائشة ووجه الرسول لكيفية التغلب علي الشائعات وظهر ذلك في قوله تعالي : "فتبينوا". عن المخرج في حالة انتشار الشائعات قال الدكتور عبد الغفار : علينا البحث عن المصادر الصحيحة. واستقاء الأخبار من الصحف والقنوات المعتدلة التي لا تميل يمينا ولا يسارا ولا تسعي لمصالح حزبية أو خلافه . أما بالنسبة لشبكة الانترنت فعلينا ألا ننساق وراء كل ما ينشر فيها . وأن نتحقق من صحة ما يبث فيها عن طريق القنوات الرسمية للدولة التي تأتي بالأخبار من مصدرها وترد علي الشائعات. شائعات اليهود القي الشيخ فرج نجم- مدير عام الدعوة بأوقاف الإسماعيلية- الضوء علي شائعة أخري حدثت في عهد الرسول عندما بعث رجلا من الصحابة إلي بني المصطلق ليجمع منهم الزكاة أو ليأتي له بخراج الأرض . وتقول الروايات ربما جبن الرجل أن يجمع منهم أموال الزكاة وروايات أخري تقول ربما أتاهم فمنعوه . فلما عاد قال: يا رسول الله. إن بني المصطلق منعوني الزكاة ويجمعون لحربك. فما كان من النبي إلا أن أرسل لهم صحابيا يتحسَّس أخبارهم من بعيد كما نصحه النبي فسمع أذانهم ورآهم وحضر صلاتهم ثم سألهم عن النبي فذكروه بخير فعاد الرجل وقال للنبي : إن بني المصطلق بخير وهم عند عهدهم معك في الدين. لذا فقد عالج النبي الشائعة بأن تحسَّس الخبر ولم يُسلِّم بها مثلما يُسلِّم الناس الآن بكل الأخبار التي يتم تداولها هنا وهناك. أكد الشيخ نجم أن قوله تعالي "ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ...." له قراءة أخري عند الإمام حفص "فتثبتوا" وهي تعطينا حرفية المعني المطلوب من التثبت والتريث والتبين لاستطلاع حقيقة الأمر دون أن نترك عقولنا تشتط فتلك مغبة غير مأمونة. قدم الشيخ نجم عدة نصائح للتعامل مع وسائل التكنولوجيا الحديثة وعلي رأسها شبكة الانترنت قائلا: لابد أن يرسخ في أذهان كل منا أن شبكة المعلومات الدولية هي وسيلة مشاع يكتب فيها من يشاء كل ما يشاء . لذلك فإن كل ما يرد عليها ينبغي أن يراجع من مصدره للتثبت منه ومعرفة أسانيده لأن علم التاريخ الذي نقل إلينا أحداث الدنيا نشأ في أحضان علم الحديث لأنهم كانوا يوثقون الخبر ويتتبعون ناقله. وهل عاصر هذا الناقل من نقل عنه؟ وهل التقي بمن نقل عنه؟ وكيف كانت ذاكرته .. هل تؤهله للنقل الصحيح؟ وهل سبق أن كذب في نقله؟ وهذا علم كبير يسمي علم الرجال الذي نشأ علي هامشه علم الجرح والتعديل الذي يبحث عن أشخاص الرواة وأهليتهم للرواية. لذا نصح الشيخ فرج بضرورة التثبت من حقيقة أي خبر يتم نشره مع اهتمام المسئولين في مجال الاتصالات ببيان المواقع المعتمدة والموثوقة لنشر الخبر وكيفية ضبطها وعدم السماح باختراقها. أنواع الشائعات الشيخ علي أبو الحسن. رئيس لجنة الفتوي الأسبق بالأزهر. أكد أن الشائعات نوعان : نوع يضلل الرأي العام والآخر ينشر الحديث عن الرذيلة وكلاهما حاربه الإسلام واعتبر من يروج للشائعات آثما أكثر ممن يقدم علي الفعل ذاته وبالتالي فإن من يتحدث عن شيء بقصد أن ينشره بين الناس خطأ أو أن ينشر الفعل لكي يسلك الناس نفس الطريق مذنب أكثر ممن يرتكب الفعل ذاته قال تعالي : "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة...." "النور 19" شدد أبو الحسن .علي ضرورة وجود تشريعات ونصوص بقانون العقوبات تردع مروجي الشائعات . وإذا لم تتوافر هذه النصوص فلابد أن يصدر عن الحاكم من القرارات والتعزيرات ما يكون أشد من العقوبة نفسها حتي نقضي علي الشائعات من منابعها.