الأيام تَمُرُّ والأَشْهُر تجري وراءها تسحب معها السنين وتُجَرُّ خلفها الأعمار وتُطْوَي حياة جيلي بعد جيل. ومِن الناس من تفارقنا أجسادهم وأبدانهم وتبقي سِيرَتُهم حيَّة متحركةً فاعِلةً عامِلة. تنشر علي الدنيا ربيع عِلمِهم وعبير فضلهم وحسن خُلُقهم. ومع أنَّنا نعيش عصراً حَالَ فيه ضَبَاب المادَّة وغيوم المَدَنِيّة الزائفة- عن رؤية صفاء السماء وما يُشرِق فيها من شُموسي وأقمار وما يَلتَمِع فيها من نجومي وكواكب. أقول مع هذا كله: إلاّ أنَّ هناك من الأقمار والنجوم ما يُبَدِّد نُورُه ذلك الضبابَ- وما يخترق نوره تلك الغيوم. ليبقي هذا الكوكب وهذا النجم متألقاً مشرقاً ينشرُ علي الدنيا نورَه وينثر علي الناس وعلي الأرض ضياءَه ولِمَ لا؟! وهؤلاء حقاً أقمارى ساطعةى تستمدُّ نورها دائماً وأبداً من شمس النبوة. تلك الشمس الكريمة التي لا يغيبُ نورها ولا يخبوا ضياءُها. إنَّنا اليوم علي موعدي مع إمامي كبيري مِن هذا الطِّراز مع إمامي أراني الآن وأنا أُقدِّمه لحضراتكم في هذه الدقائق المعدودات مُعدِّداً مَنَاقِبَه وفَضَائِله ومَآَثِرَه- أراني الآن كَمَنْ يَدُلُّ علي إشراق الصباح بمصباح- وأنَّي لِنور السُهي مِن شمس الضُحي. ولِمَ لا؟! وقد قال عَنْه تلميذه الوفِيُّ الذكيُّ النجيب إمام أهل السُنّة- الإمام أحمد- قال عن شيخه هذا... الذي نحن بِصَدَدِ الحديث عنه اليوم- قال عنه أحمد: كان كالشمس للدنيا وكالعافية للنّاس فانظر... هل تري لهذين من عوضي؟! أوهل تري لهما من خَلَفِ؟! إنه فقيه المِلَّة. وناصر السُنَّة. وسيِّد أهل زمانه الذي حاز المراتب العالية وفاز بالمناقب الساميَة فهوالعالم بالقرآن وعلومه العالم بالحديث وأصوله العالم بالفقه وقواعده العالم باللغة والأدب والشعر وفرائضه العالم بالأنساب وأيام الناس بل العالم بالطب في زمانه العابد الزاهد التقيّ النقيّ القُرَشِيُّ ثُمَّ المَطْلَبِي... ¢محمد بن إدريس الشافعي¢. إنَّنا اليوم علي موعدي مع الشافعيِّ الإمام. ووالله إنِّي لأُحِسُّ بخجلي شديدي وأنا أريدُ اليوم أن أُقدِّم لحضرتكم ¢الشافعي¢ في هذه الدقائق المعدودات المعلومات. وُلِد الشافعيُّ سنَة مِائةي وخمسين من الهجرة بمدينة غزَّة علي أصَحِّ الأقوال لأهل العلم. ولمَّا بَلَغ الشافعيّ سنتين... انتقلت به أًمُّه الفقيهة العالمة الحكيمة بعد موت أبيه إلي ¢مكة¢- زادها الله تشريفاَ وتعظيماَ وإجلالاَ وتكريماَ. وفي ظِلال الكعبة. وبين رُبوع بيت الله الحرام نَشَأ الشافعيّ الإمام وفي سِنّي مُبكِّرةي جداً أيُها الأحبَّة دفعت أُمُّ الشافعيِّ الشافعيَّ إلي شيخي من شيوخ الحَرَم المكِّي ليُحفِّظه القرآن الكريم فحَفِظ الشافعيُّ القرآنَ كلَّه في السابعة من عمره ثم انتقل بعد ذلك إلي طلب العلم الشرعيِّ بشَغَفي شديدي وحافظةي عجيبةي وذِهني وقَّادي حادّي علي يَدِّ أوَّل أستاذ له وهوشيخ الحرم المكي حينذاك... الإمام العَلَم ¢مُسلِمُ ابن خالد الزِّنجيِّ¢ رحمه الله تعالي. يقول الشافعي نَفْسُه: 1⁄41⁄4 ثم انتقلتُ بعد ذلك من ¢مكة¢ إلي ¢قبيلة هُدَيل¢ لأتعلم منها اللغة العربية فلقد كانت قبيلة هُدَيلي أفصح العرب بياناً ولغةً وكلاماً. يقول: فرجعت بعد ذلك إلي ¢مكة¢ لأُرَدِّد الأشعار وأَذْكُر الآداب والأخبار وأيام العرب. فلَقِيَني رجلى من ¢الزُبَيْرِيين¢ من بني عَمِّي فقال لي: يا ¢أبا عبد الله¢... والله إنّه ليَعِزُّ عليَّ ألاَّ يكونَ مع هذه الفصاحة والبلاغة والذكاء فقه. يقول الشافعيُّ: فقلت له: فمَنْ مِن العلماء نقصِدهُ لطلب الفقه؟ يقول الشافعيّ: فقال لي هذا الرجل: تقصدُ "سيد المسلمين" مالك بن أنس¢ في مدينة رسول الله- صلي الله عليه وسلم- يقول: فوَقعَتْ هذه القَوْلَةُ في قلبي- انتبهوا يا طلبة العلم- يقول الشافعي: فذهبتُ إلي رجلي مِن أهل ¢مكة¢ عَلِمتُ أنَّه يَحوِي عنده ¢مُوطَّأ الإمام مالك¢ يقول: فذهبت إليه واستَعَرْتُ مِنه الموطأ وعكفت عليه فحفظتُ الموطأ عن ظهر قلبي في تسع ليال. - حفظ القرآن في سبع سنينِ وحفظ موطأ الإمام مالك في تسع ليال لا في تسع سنين- يقول: فلمَّا انتهيتُ من حفظ الموطأ أخذتُ رسالةً مِن والِي مكة ومِن شيخي وذهبتُ إلي ¢الإمام مالك¢. وقَصَّ الشافعيُّ رحلةً طويلةً جميلةً عذبةً لا يَتَّسِع الوقت لسردها أمّا بإيجازِ شديدِ قال: وصلتُ إلي الإمام مالك. فلمّا كلَّمهُ وأُعجِبَ الإمام مالك بذكائه وفصاحته ولُغته وبيانه وإعرابه» قال مالكى لهذا: يا غلام ما اسمك؟ قال¢ محمد. فقال مالكى: "يا محمد... إنّي أري الله قد ألقي علي قلبك نوراً فلا تُطفأه بظلمة المعصية فإنّي أري أنّه سيكون لكَ شأنى كبيرى- إن شاء الله عز وجل". - ثم قال مالكى للشافعيِّ: يا فتي... إذا كان الغدُّ تجِيء. ويَجِيءُ من يقرأُ لكَ المُوطّأ. فقال الشافعي: أنا قارئ. أنا أقرأُ- إن شاء الله تعالي- يقول: فلمّا كان الغدّ أخذتُ الموطأ في يدي وجلستُ بين يدي شيخي مالك وأخذتُ أقرأ عليه الموطأ من حفظي وكلما نظرتُ إلي مالكي وتَهَيَّبتُ مالكاً» أردتُ أن أقطع القراءة- وكان مالكى قد أُعجِبَ ببلاغتي وقراءتي وحسن إعرابي- فكلما أردتُ أن أُنهِي القراءة في الموطأ نظر إليَّ مالكى وقال: زِدْ يا فتي. حتي أنهيتُ الموطأ كله في أيامي يسيرة. ثم بعد ذلك لا تظنوا أنّ الشافعي أخذ عن مالكِ ¢الموطأ¢ فقط» وإنَّما أخذَ عنه كُلَّ ما عنده من حديث رسول الله- صلي الله عليه وسلم- لأنّني ذكرتُ آنِفاً في اللقاء الماضي ونحن نتكلم عن مالك أنّ الحديث الذي كان يحفظه مالكى ليس هوالموطأ فحسب- فأخذ الشافعيُّ الحديثَ عن الإمام مالك وأخذ عنه الفقه وفتاوي الصحابة وعَمَلَ أهلِ المدينة- رضوان الله عليهم جميعا. ولَبِث الإمام الشافعي في ¢المدينة المنورة¢ ملازماً لشيخه ملازمة الظل لصاحبه حتي توفي الله مالك -رضي الله عنه- ولم يكتفي الشافعي بعلم مالك وإنما رحل إلي شيوخ المدينة وكان في المدينة حينئذ تزهر بالأئمة الأعلام والشيوخ الكبار وأخذ العلم عنهم جميعا. ولما توفي الإمام مالك رحل الشافعي مرة أخري إلي بلد الله الحرام إلي مكةالمكرمة. وما لبث الشافعي في مكة إلا قليلاً ثم رحل مرةً أخري إلي بلاد اليمن لطلب العلم - والله ما كانوا يركبون طيارات ولا سيارات مكيفة وإنّما يركبون الدواب إما علي الحمار أوعلي الحصان أوعلي البغلة ويمشون تحت وَهَج هذه الشمس الحارقة ينخفضون في وادي ويرتفعون علي جبل. أمّا الآن وقد يُسِّرت لنا- بفضل الله جل وعلا- جميع وسائل وأدوات طلب العلم» إلا أننا نري تكاسلاً رهيباً وفرقاً شاسعاً وبَوْناً كبيراً بيننا وبين هؤلاء الكرام. رحل الشافعي إلي اليمن. وما لبث الشافعي إلا قليلاً حتي انتشر ذكره وعلا قدره وظهر فضله علي جميع الشيوخ والعلماء. وهوالذي ذهب طالباً للعلم حتي قال له شيخه ¢ مسلم بن خالد الزنجي¢ حينما عاد من المدينة إلي مكة قال له: "افتِ يا أبا عبد الله. فإنك الآن أهل للفتية" وهوغلام حدث صغير. فاق الشافعي أقرانه بل وشيوخه في اليمن وكان علي اليمن والي يقال له ¢حمّاد البربري¢ من قِبَل خليفة المسلمين ¢هارون الرشيد¢ وكان ظلوماً غشوماً جهولاً كان يظلم الناس. ولم يصبر الشافعي علي هذا فكثيراً ما كان يُندَّد بظلمه في مجالس علمه فلما سمع هذا الوالي بذلك... أرسل رسالةً إلي خليفة المسلمين "إلي الرشيد" في بغداد يقول له: إنّ عندنا رجلاً من وَلَد ¢شافعي المطلبي¢ لا أمر لي معه ولا نهي. فأصدر الخليفة الرشيد أمراً لهذا الوالي أن يرسله إلي بغداد. وكبَّل هذا الوالي الشافعيَّ بالحديد والقيود بتهمة الخروج علي الدولة- بدعة قديمة حديثة- بتهمة الخروج علي الدولة وكُبِّل الشافعي بالأغلال والقيود وذُهب به إلي خليفة المسلمين في بغداد التي كانت عاصمة الخلافة حينئذي. ونواصل معكم الحديث العدد القادم عن الامام الشافعي بمشيئة الله