ولفظ السقيفة يطير بالذهن فورا إلي مدينة رسول الله صلي اللله عليه وسلم.. المدينةالمنورة وإلي نقطة مفصلية في تاريخ امة الاسلام.. إلي اللحظة الفارقة بنهاية عهد وعصر النبوة.. إلي بداية بوابات الانفتاح الاسلامي علي الدنيا بدون اتصال مباشر في كل وقت وحين بين السماء والارض.. دون توجيه مباشر من الوحي.. فقد اكتمل الدين وانقطع الوحي.. وصعدت روح النبي الخاتم الي بارئها.. وترك فينا ولنا الدستور الاعظم.. ترك كتاب الله و سنته.. موصيا ومؤكدا ومحذرا.. من الضلال او السقوط في الضلالة و البعد عن الحق.. تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا.. كتاب الله و سنتي.. .. اطلاق لفظ السقيفة ليس له من معني الا استدعاء جموع اهل المدينة من الانصار في دار مشورتهم لحظة الارتباك و الوجل والخوف والاضطراب وعدم التصديق لخبر موت رسول الله صلي الله عليه وسلم.. الناس بين مكذب ورافض حتي لسماع الخبر وبين مرتجف ومتردد خشية ان يكون الخبر حقيقة.. حتي حسم الموقف بأعلي صوت للحكمة.. ايها الناس.. من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات.. ومن كان يعبد الله فان الله حي لايموت.. كما قال الحق سبحانه و تعالي: "إِنَّكَ مَيِّتى وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ" "الزمر: 30". وقال ايضا : "وَمَا مُحَمَّدى إِلَّا رَسُولى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ َفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" "آل عمران: 144".. "والسقيفة تعني الصفة. والظلة. وهي شبه البهو الواسع الطويل السقف. وكان لبني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهم حي من الانصار ومنهم سعد بن عبادة نقيبهم ورئيس الخزرج وظلة يجلسون تحتها.. هي دار ندوتهم لفصل القضايا.. اشتهرت "بسقيفة بني ساعدة". اجتمع فيها الانصار.. أوسهم وخزرجهم.. في اول الامر ليختاروا خليفة رسول الله.. وكان من رأيهم ان يبايعوا سعد بن عبادة خليفة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم علي اعتبار انهم الاحق و الاولي.. قبل ان تبدأجلسات المفاوضات التاريخية التي انضم اليها اهل المدينة جميعا من المهاجرين و الانصار.. وتم تسجيل واحدة من اروع الصور الحضارية في تاريخ السياسة ونظم الحكم.. أو افضل تطبيق للشوري أو الديموقراطية كما يقال.. وتوجيه اهم واخطر رسالة لمن يريدون بناء دولهم علي اسس راسخة من العدل والشفافية.. وتجنب حدوث اي فراغ في القيادة أو رئاسة الدولة.. إنها النموذج والمثال علي حالة فريدة ومميزة في التاريخ الانساني لكيف يكون الانتقال السلس للسلطة.. في واحدة من اعقد واصعب صور انتقال السلطة نفسيا واجتماعيا ودينيا.. نموذج لكيفية التعامل مع المراحل الانتقالية واشدها حساسية وخطورة.. نموذج لكيفية الاتفاق علي المصلحة العليا للدين والوطن.. نموذج لكيفية الاختيار وكيف تكون الشوري والمشاورة.. نموذج للزهد في الرئاسة وحب السلطة والرغبة في البعد عنها.. نموذج في الايثار والتضحية وتقدير الكفاءات وانزالها منزلتها.. نموذج للحكمة ورجاحة العقل متي وكيف وأني تكون.. أقول هذا وانا اعلم يقينا ان محاولات الاستدعاء التاريخي لوقائع الفترة النبوية تحديدا.. تصيب الكثيرين بالارتكاريا والحول الفكري والعته الذهني.. في الوقت الذي يطربون فيه بالإحالات التاريخية واللاتاريخية.. لأزمنة واوطان وحقب لا علاقة لها بواقعنا أو ديننا أو اخلاقنا واعرافنا والغريب انهم يعدونها الانموذج والمثال الذي لا يباري ولا يضارع في دنيا البشر.. يفعلون ذلك و هم لايدركون أو حتي يدركون انهم يرتكبون عدة اخطاء وخطايا في وقت واحد في حق مجتمعاتهم واوطانهم ودينهم وفي حق الانسانية.. يهيلون التراب بكل لذة علي تجارب المسلمين العظام الاوائل الذين تربوا تربية حقيقية علي المنهج النبوي الاصيل.. مباشرة من رسول الله صلي الله عليه وسلم.. من صحابته وتلامذته الاوفياء المخلصين.. ينسي هؤلاء ويتناسون انهم يدينون انفسهم عندما يتحدثون عن عدم مناسبة تجارب الاولين وما حدث في القرون الاولي للعصر الحديث.. نسوا خطيئتهم أو تناسوا حينما هجروا دينهم ولا اقول باعوه لصالح آخرين أو فكر آخر غير الاسلام.. عندما اجهدوا انفسهم في دراسة وتطوير النظم الاخري الغربية والشرقية وحاولوا بلا جدوي فرضها في ارض غريبة عليها.. وتركوا الاسس العظيمة التي وضعها المسلمون.. اللبنات الحقيقية في شتي العلوم بما فيها علوم السياسة وأصول الحكم. يوم السقيفة.. كان يوم مثقفي الامة وحكمائها وقادة الرأي فيها بامتياز.. كان لهم القدح المعلي.. شعروا بلحظة الخطر المحدق بالدولة والوطن.. ادركوا خطورة الفتنة.. رفضوا الانقسام والتشرذم.. لفظوا كل ابواق الفتنة ودعاة العصبية.. ازاحوا من طريقهم الانتهازيين ومحترفي الصيد في الماء العكر.. اعلنوا صراحة وبكل وضوح لا صوت يعلو فوق صوت العقل والحكمة..فقط لتحقيق المصلحة العليا للدين والوطن.. استدعاء كل قوي الخير واحترام رأيها وتوجهاتها.. لا اقصاء لصاحب رأي أو قادر علي المشورة.. ثم وهو الاهم.. رضوخ للحق ودعم للصواب.. بعد تطبيق حقيقي لكل قواعد ومعادلات المنطق وفك ألغازها وطلاسمها.. حيث تجلت الشوري وتألق الحوار في اسمي صور التجلي.. للانطلاق بجدية وصدق نحو المستقبل. يوم السقيفة كما يقول المؤرخون.. يوم فريد بين أيام المجد الإسلامي الذي سطره أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم. يوم تعانق فيه المهاجرون والأنصار يجددون فيه العهد لرسول الله صلي الله عليه وسلم أخوّة وإيثاراً وصبراً وإبداعاً وجهاداً وعدلاً وفتوحاً ورحمة. يوم سادت فيه قيم الكتاب والسنة في إقرار نظام المحاسبة الشاملة للخليفة وللولاة وخضوع الجميع لدستور الكتاب والسنة. لتتساقط في ذلك اليوم الأغر أماني المنافقين. وتتهاوي فيه مخططات المرتدين. وتتقاصر فيه تطلعات اليهود والصليبيين. وتُسحق فيه تدابير المجوس الحاقدين الذين انقلبوا من بين النّاس إلي أعداء باطنية. ومنظمات سبئية. وضغائن شعوبية. وأدوات جاسوسية. وعقائد قبورية. وتحالفات عدوانية. لا همّ لها سوي الكيد والمكر بأمّة الكتاب والسنّة النبوية! تجلت عبقرية المثقفين في الدولة الذين وعوا وفهموا ما قاله معلمهم ومعلم البشرية..الرسول صلي الله عليه وسلم وأدركوا حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا السياسية والاجتماعية والجيولوجية ايضا قبل ان يتخذوا قرارهم.. تعانق مع هذه العبقرية خبرة ودهاء قادة ساسة عظام خبروا النفوس واحترموا تطلعات ونزعات النفس البشرية.. نظروا بعين البصر والبصيرة فاخترقوا القلوب وسيطروا علي الالباب وقادوا العقول إلي الطريق السوي.. وانظروا ما فعل سعد بن عبادة وكيف تحرك عمر بن الخطاب وكيف تجلت عبقرية ابوبكر وابدع حتي فاض حكمة ومهابة وبلاغة فأجاد وأفاد حتي قال عمر بن الخطاب ¢فتكلَّم أبلغَ الناس¢.. كما تجلت عبقرية عمر و حِكْمة عمر العظيمة في فضِّ النِّزاع في سَقِيفة بني ساعدة. وذلك أنَّه بادرَ فأخذ بيد أبي بكر. فبايعه. فانصبَّ الناس وتتابعوا في مبايعة أبي بكر. وانفض النِّزاع. والحمد لله تعالي. ومن المفارقات الجميلة التي سجلها المحللون والمراقبون لاحداث يوم السقيفة.. قد نفع الله بِخُطبة عمر يوم موت النبِيِّ - صلَّي الله عليه وسلَّم - قبل دخول أبي بكر. فخاف المنافقون. ثم نفع الله بخطبة أبي بكر. فعرف الناسُ الحق. وخطبة أبي بكر في هذا اليوم وكان يوم ثلاثاءأظهرت حسْنُ سياسته. واجمع المؤرخون علي انها ¢بيان سياسي رفيع المستوي ووثيقة لا نجد لها مثيلاً في الفكر السياسي قولاً وعملاً حيث رسم الخليفة الاول لنفسه ولقادة الإسلام ما عليهم أن يعملوه.. وقال بعد ان حمد الله واثني عليه : "أما بعد أيها الناس. فإني وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني وإن أسات فقوموني.. الصدق أمانة. والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتي أعيد إليه حقه إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتي آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل. ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء.. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلي صلاتكم. يرحمكم الله". والملاحظ ان - أنَّ اختيار أبي بكري - رضي الله عنه وبيعته - تَمَّت بعد مُشاورات بين فُضَلاء المهاجرين والأنصار.. و انه لا يُشترط الإجماع التامُّ علي اختيار الخليفة» فلا تضرُّ مخالفة بعض القوم كما لم تضُرَّ مخالفةُ سعْدِ بن عُبَادة - رضي الله عنه.. وان الأداء الرفيع للصحابة في السقيفة. يدل علي نجاح الرسول الكريم - صلي الله عليه وسلم - في تربيته لهم. وأنه رباهم رجالاً شجعاناً أحراراً أسوياء. يعرفون ما لهم وما عليهم. ويتحملون مسئولية هذه المعرفة فيحتملونها ويؤدونها بكفاءة واقتدار. والانتقاص من موقفهم هذا يمكن أن يفسر علي أنه طعن في تربية الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام لهم. بدعوي أنهم تنازعوا علي السلطة فور وفاته فآثروا دنياهم علي دينهم. وأن الصحابة الكرام حين اختاروا خليفتهم العظيم. كانوا قمة في الوعي السياسي. فلم تعش دولة الإسلام الوليدة يوماً واحداً بدون قائد لها. وهذا جعل الدولة تنجو من أي ¢فراغ دستوري¢ كما يعبر أهل القانون. فكانوا دستوريين قبل الدستوريين. وقانونيين قبل القانونيين.. وتلك محمدة تذكر ومنقبة تشكر.. السقيفة إذن.. هي دار المشورة وبيت الحكمة والملاذ الآمن ومركز الانقاذ السريع ومركز ادارة الازمات ومؤهل العلماء ومجمع اهل الحل و العقد واصحاب الخبرة ومقر كبار المفكرين الاستراتيجيين ومرجع العامة في كل النوازل الكبري والصغري.. وهي في حال انعقاد دائم.. لا تحتاج دعوة من احد ولا يعطلها حزب أو فصيل ولا يحرقها ولا يتهمها حاقد أو موتور.. لان كل صاحب راي محترم ومقدر.. مهما كان.. وميزان الحكمة والعدل هو الفيصل.. إذا اردت ان تعرف امة ورؤيتها للمستقبل وكيف تتعامل مع ازماتها الطارئة والمزمنة فانظر إلي دار سقيفتهم و مثقفيهم.. ان خيرا فخير وان كان غير ذلك فاسألوا الله السلامة.. ان كنتم اياه تعبدون.. تري هل نمتلك الان سقيفة وهل يوجد لدينا مثقفون أو حتي اشباه مثقفين يمكن ان نعول عليهم دينا ووطنا؟!! ام لا نزال نعيش في غيابات الجب.. ونخشي الخروج منه.. لاننا غير قادرين غلي الابصار في النور ولا تزال تزعجنا وتؤرقنا صراحة المكاشفة والعيش في النور الدائم.. ** روي الامام البخاري رضي الله عنه عن البراء قال: قال رسول الله: ¢الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنى. وَلا يَبْغَضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقى. فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ. وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ¢. ** قال أبو بكرالصديق رضي الله عنه: ¢والله ما كنت حريصًا علي الإمارة يومًا ولا ليلة ولا سألتها الله في سر ولا علانية¢.