ما كان يوما المظهر الخارجي دالا علي جوانيات الانسان وكاشفا عن أعماقه وما يضمره من خير أو شر ولكن العمل الصادق وحده هو المقبول عند الله تحقيقا لقول الرسول "صلي الله عليه وسلم" ان الله لا ينظر إلي صوركم ولكن ينظر إلي قلوبكم.. ومن ثم كان الانسان السوي هو الذي تتفق جوانياته مع تصرفاته أو بمعني آخر تتفق تصرفاته مع ما يمكنه في صدره ويخفيه والانسان غير السوي هو الذي يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب.. ولذلك أكد القرآن الكريم ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار إذ ان المنافق يكذب عليك بمظهره الناعم الذي يبهرك بحديثه الرقيق ويخدعك ليصل إلي تحقيق غرضه بإيذائك والحاق الضرر بك دون أن تتنبه إلي ما يحكيه لك من سوء ودون أن تدري حقيقته فلا تأخذ حذرك منه ولا تتقي خبث نيته وشياطينه تأمره. قفزت كل تلك المعاني إلي ذهني حين تذكرت ذلك الشيخ ذا اللحية الوقورة البيضاء وأثر السجود في جبهته يؤلف الكتب الدينية ويطبعها ويحرص علي توزيعها ولا يتحدث إلا مستشهدا بآيات من القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية ويوهم كل من حوله بتقواه المصطنعة ويحكي مأساته مع أولاده وزوجته التي تسيء معاملته وتحط من شأنه لدي أولاده وأهله يكاد يبكي حزنا وضعفا مما يلاقيه منها ومن أولاده الذين وصلوا إلي درجة عالية من التعليم واحتلوا مناصب يتمناها مثلهم من الشباب وعندما تسأله عن سبب ذلك لا يذكر سببا إلا ان الزوجة صاحبة المال وهي التي تنفق علي المنزل والأولاد أقامت لهم عمارة في كل مكان شبه راق في المدينة التي يسكنها ولا يجد مستمعه أي تعليق أو رد سوي النصيحة بالصبر وبالصبر وحده يفوز برضاها ورضا أولاده.. يرجع مستمعوه ذلك كله إلي انها لا تعرف أهمية ما يقوم به من عمل ثقافي في الدين والاهتمام بالخط العربي الذي عمل ليل نهار علي نشره عن طريق تجميع أعمال الخطاطين القدامي في كتب يطبعها له صديقه الذي يؤمن بأهمية الحفاظ علي القرآن الكريم ولغته العربية عن طريق نشر الأعمال الخطية الرائعة للفنانين المسلمين في الوطن العربي وتركيا وبذل معه من ماله الكثير في سبيل نشر تلك الأعمال دون انتظار ربح مادي أو تعويضه عما ينفقه وحين اشتكي من حرمانه من حقوقه الزوجية لدي تلك الزوجة أو تحدث عما كان يؤديه سابقا نهره هذا الصديق مؤكدا عليه ان هذه أسرار لا ينبغي البوح بها في مجالسه العامة.. ومن فرط احساس صديقه فقد يكون مظلوما من تلك الزوجة حسبما يشكو.. كان يطلق عليه لقب تولستوي تشبيها له في ظلمه من زوجته الجاهلة وكان صديقه في مجالسه الخاصة يتناول الحديث عن تقواه وورعه وعن مساهمته في الكتابة عن الدين ونشر الثقافة الاسلامية وعزم صديقه أن ينشيء كتابا عنه يتضمن حياته والصلاح الذي كان يظنه فيه ويلتبس عليه مظهره وما كان يعلم ان ذلك كله لم يكن إلا مرضا اصاب عقله وقلبه ولم يكن خالصا لوجه الله.. وصدق استاذنا المفكر الكبير خالد محمد خالد في قوله "التدين قد يكون مرضا" نعم ان التدين المبالغ فيه والالحاح في الحديث عن الفضيلة والشرف والاطناب في مدح النفس وما تعانيه من ظلم الآخرين قد يخفي مرضا اعتري النفس ونفاقا تغلغل في الأعماق لا يبغي منه صاحب إلا ايهام الآخرين علي غير الحقيقة باستحقاقه وبجدارته أن يكون متبوعا ينال عطفهم وتقديرهم افة المجتمع هو وجود مثل هذا الرجل الذي يتقلب في الغش وينهل من الكذب ويغرق في ازياء التدين المزيف ويمضغ الأحقاد والشر. لم يستطع الرجل أن يستمر في غشه ونفاقه ففي أول همسة من حاقد اندفع كالثور الهائج يحطم كل عاطفة ويدمر كل اعجاب مهددا بعض من حوله بالويل والثبور وعظائم الأمور ما لم يعطه هذا الصديق ما يعتقد انه حقه لديه كناشر وأنفق الكثير في طبع أعمال ذلك الرجل دون توزيع لها لعدم اقبال الناس عليها وحين عرض صديقه عليه ما لديه من نسخ الكتب مقابل أن يعطيه ما انفق هاج وماج وأرغي وأزبد وادعي كذبا ان الناشر قام بطبعها دون اذن منه مستغلا في ذلك اصدقاء ابن له يشغل منصبا هاما في الصاق الاتهام بأن صديقه الناشر طبع دون اذن منه بعد ما تمكن اصدقاء ابنه من اقتحام مكتب الصديق وسرقة الأصول التي كان قد سلمها اليه فيما قبل. وفي التحقيقات اقسم الايمان المغلظة انه لا يعرف الناشر ولم يتعامل معه ولم يأذن له.. وفي ذات النطاق قدم ضد صديق لهما عشرات الشكاوي إلي الجهات المعنية بجميع أطيافها ولم يترك مسئولا ولا رئيسا الا وقدم شكوي ضد هذا الصديق ولم يبق سوي الأممالمتحدة ومجلس الأمن!!! متهما الأخير بأنه يعاون الناشر في الخروج من الاتهام المسند اليه وحين سئل بالتحقيقات عن صحة ما قدمه من شكاوي قرر انه اضطر إلي ذلك اعملا لنصيحة منافق مثله خوفا من أن يقدم الصديق مذكرة بالحقيقة أو يشهد بها. هذه صورة بذيئة للنفاق والمنافقين وبمثلهم يفسد المجتمع ومنهم الكثير.. فقد يتصدي انسان للعمل العام ليس بغرض الاصلاح أو النفع للغير وانما بغرض ارضاء سلطات أعلي منه وجهات يكون بيدها قرار الرفع أو الخفض مستغلا ما حباه الله من حسن الكلام الذي لا يتجاوز اطراف اللسان ومن العجيب ان الناس قد تخدع بمثل هؤلاء وتري فيهم ما لم يكن في أعماقهم أو في نواياهم ولهذا قرر القرآن ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولم يقل الكافرين. ان المنافق خطر علي الخير وعلي الانسانية كلها من الكافر لأن الأخير واضح وظاهر وعداوته ظاهرة اما المنافق واما الكاذب يأتي شره من حيث لا يتوقع الآخرون. العالم المتحضر عرف خطورة الكذب وأثره في المجتمع لذلك كانت محاسبة أحد روساء الدول الكبري فيما سبق عما أخفاه من تصرفات لا علي ما نسب اليه من علاقات نسائية. وكان الاسلام اسبق التشريعات والحضارات في ذم الكذب والنفاق ومدح الصادقين.. وسئل الرسول صلي الله عليه وسلم عما اذا كان المؤمن كاذبا فنفي اجتماع الايمان مع الكذب وتوقع صلي الله عليه وسلم أي خطأ آخر من المؤمن إلا الكذب وفي حديث للرسول صلي الله عليه وسلم قرر ان الأعمال بالنيات وخطأ من يفهم ان عمل الانسان يقبل طالما كانت النية سليمة.. بل أراد الرسول أن ينبه إلي أن الأعمال لابد أن تتفق مع النيات حتي تقبل عند الله فإذا ساءت النية واضمرت الشر وخططت له في الخفاء فلن تقبل الأعمال التي يأتيها صاحبها بغرض الظهور شكلا واخفاء ما في نيته بمعني ان جوانيات الانسان علي حد قول الدكتور عثمان أمين لابد أن تتفق مع البرانيات وهو ما أوضحه الحديث الرائع لسيدنا رسول الله حين قال ليس الايمان بالتمني ولا بالتحلي وهو ما وقر في القلب وصدقه العمل وان قوما غرتهم الأماني وقعدوا عن العمل وقالوا لقد أحسنا الظن بالله كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. هكذا يهتف رسول الله فينا بأن الايمان ليس مظهرا أو أبهة.. كلحية كثيفة أو حديث معسول ولا ظنا حسنا بغير عمل صالح انما العمل الصالح والسلوك القويم ونشر الخير والحق والاستقامة مبعثها كلها من النية الصادقة والظن الحسن وإلا كان كل ما يأتيه الانسان غير مقبول عند الله. وبذلك تتقدم الأمم وتنهض الشعوب وتنافس في صنع الحضارات الانسانية.