نعم لابد من الاعتراف بأن اللغة العربية تتعرض الآن لأخطر عملية محرقة في تاريخها.. هولوكوست لغوي.. مع سبق الاصرار والترصد .. محرقة علي كل المستويات المحلية والعالمية .. علي المستوي السياسي والاقتصادي .. علي مستوي الأفراد والجماعات .. في المدارس والجامعات.. في الشوارع والمحلات التجارية الكبري منها والصغري.. في كل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة .. علي المستوي الرسمي وفي المحافل الدولية.. وعلي المستوي الشعبي والعامي. دعونا نعترف بأننا أسوأ شعوب تهين اللغة العربية وتطعنها كل يوم مئات بل آلاف الطعنات الغادرة والقاتلة.. نصفها بأنها لغتنا الجميلة .. ونحن نعريها ونكسوها بكل لسان عامي قبيح .. نتعبد بها. ثم نكرهها كراهية التحريم.. نسأل الله الحسنات بعدد الحروف منها وبقدر ما نقرأ من القرآن ثم نفضل عليها لكنة أخري غريبة.. ونتفنن في كل ما يهدمها ويبعدنا وشبابنا عنها.. نبني بيننا وبينها أسوارا من الغربة ثم نشكو أنها صعبة وغريبة بيننا.. و ثقيلة علينا وعلي الابناء.. نهرب منها حتي في التعليم .. نتخفف منها ونتحلل من قواعدها ونكتفي بالقشور.. الناطقون بها يهربون من استخدامها في المؤتمرات العلمية وخاصة التي يشارك فيها أجانب.. لا يتحدثون بها خوفا من التندر عليهم بعد انكشاف سوءاتهم وعورات السنتهم وعدم قدرتها علي النطق الصحيح بالعربية.. لا نحترمها في برامجنا الإعلامية أو غيرها .. والعامية هي الأقرب والأسهل.. والفصحي للتندر والاستهزاء أو للتنكيت والتبكيت. ومما يؤسف له في هذا الإطار أن أساتذة الأزهر وبعض المشايخ في البرامج الفضائية يستخدمون الفاظا أجنبية في حديثهم وفي ردهم علي فتاوي المشاهدين .. استظرافا وتفكها.. فيما لا يجوز فيه فكاهة أو عوج لسان .. يخشي ان يتبعه عوج في الفهم وشطط في الاستدلال وابتعاد عن جادة الصواب.. ان كثرة الفذلكة والمتفذلكة قد اوردتنا المهالك وضربت اللغة في مقتل.. واصبحنا نعلم أولادنا لغة ملوثة ونزرع قواعد فاسدة.. لا يستقيم معها عقل ولا يستوي فهم .. نرتكب بها جناية شرعية في حق ديننا ولغة القرآن الكريم التي نتعبد بها آناء الليل وأطراف النهار.. ولك ان تتخيل مثلا ماذا نفعل لنتعلم ونعلم ابناءنا اللغة العربية.. وقارن ما تفعله علي المستوي الشخصي و العائلي داخل الأسرة.. وأنت تعلم أولادك أو تتابع دروسهم المدرسية.. قارن حجم ونوع الاهتمام بالمادة.. دروس التقوية وأداء الواجبات .. الرجوع إلي القاموس لمعرفة معاني الكلمات الصعبة أو مفهومها وماذا تعني في المواضع المختلفة أو عند اضافتها لاسماء أو حروف أو إلحاقها بكلمات أو غيرها.. استطيع الجزم بأنه لا أحد يرجع إلي القاموس العربي علي الاطلاق لمعرفة المعاني أو البحث عن كلمات ومفردات .. هذا علي فرض ان القاموس موجود.. مع ملاحظة ان المناهج مختلفة تماما والمستوي لا يمكن مقارنته بين تعليم العربية وأي لغة اجنبية في مدارسنا.. بما في ذلك طباعة الكتب ونوعيتها خاصة للمرحلتين الابتدائية والاعدادية .. ورق ممتاز وألوان زاهية وطرق عرض مليئة بالتشويق.. وأعمال ذهنية متعددة وغير ذلك مما يزيدك ارتباطاً بتلك اللغة.. وفي المقابل تبني أسواراً بطريقة مباشرة وغير مباشرة مع لغتك الأم.. فتكرهها وتبتعد عنها ثم تهملها ولا ترغب في الحديث بها. أخطر ما في القضية ما يحاول البعض ترسيخه في اذهان الشباب بأن تعلم اللغة الأجنبية هو ضمان المستقبل في العمل وغيره.. وأن العربية عبء فلم تعد لغة العصر.. ونحن في زمن الهاي تيك.. وسلاحك إنجليزي أو فرنساوي. وبالتالي أصبحت اللغة الأجنبية عنصر التقييم الأقوي والمرغوب والضامن للصعود.. وتراجعت العربية حتي أمام الوظائف التي كانت تتطلب إجادة العربية كتابة ومحادثة.. وفي المقدمة منها الإذاعة والتليفزيون.. الآن المهم الإنجليزية والفرنسية.. وعربي مكسر.. لا يهم. ومن هنا فلا عجب أن تكون إذاعاتنا ومذيعونا في الوسائل المختلفة من عوامل هدم وتدمير البنيان اللغوي. واعوجاج الالسنة. من الطريف أن نسمع ونعيش معارك صباح مساء عن الهوية الإسلامية والعربية في الآونة الأخيرة.. في فترة المد الدستوري وتعديلاته التي تعيشها البلاد منذ ثورة يناير حتي الآن.. أي علي مدي ثلاث سنوات.. ثم لا نجد في الدستور ما يؤكد ويرسخ الاهتمام باللغة العربية وحمايتها ويؤكد ضرورة تعريب العلوم والحد من الاندفاع نحو اللغات الأخري علي حساب اللغة الوطنية.. والغريب أن نحذف المواد والعبارات التي كانت تشير إلي ذلك في التعديلات الأخيرة.. وذلك في الوقت الذي نجد فيه الدول الكبري تكرس كل الجهود لحماية لغتها الوطنية وتفرض عقوبات علي الاستهانة بها خاصة من جانب المسئولين وفي المحافل الدولية.. وتعتبرها جزءاً من السيادة الوطنية كما هو الحال في فرنسا وذلك لمواجهة المد في اللغة الإنجليزية. مشكلتنا اننا لا نتحرك إلي الأمام لمواجهة الخطر المحدق بنا.. سواء فيما يتعلق باللغة العربية أو أي قضايا مصيرية أخري.. كل أمراضنا تم تشخيصها وتم وضع تصورات العلاج والخروج من الأزمة.. لكن علي ما يبدو أننا لا نريد الخروج.. أو بمعني ادق لا يراد لنا الخروج إلي عالم آخر والانسلاخ كلية من ديننا وعقيدتنا ولغتنا التي هي الوعاء الحضاري لذلك والرباط الضامن لوحدتنا وقوتنا علي مر التاريخ.. وفيما يخص اللغة العربية يكفي أن تتعرف علي مئات أو آلاف الابحاث التي تعرضت للمخاطر التي تهدد العربية.. ومئات المؤتمرات العلمية في مشارق الأرض ومغاربها نحو وعي لغوي صحيح.. وعشرات الجمعيات لحماة وحماية اللغة العربية والعديد من المجامع اللغوية هنا وهناك.. ومع ذلك الشكوي مستمرة والحال يتدهور والجديد في مجال اللغة قليل إن لم يكن معدوماً.. حتي في مناسبات الاحتفاء باللغة العربية واليوم العالمي لها أيضا نكتفي ببيانات من هنا وهناك نصرخ ونستصرخ ليوم واحد أو غيره أو نعقد الندوات وننظم اللقاءات ثم ينفض المولد. والحقيقة كلها بيانات تعكس في مضمونها الحال المتردي لاوضاع اللغة وعدم الرضا علي ذلك وتحمل دعوات للنهوض والتحرك.. ومن ذلك علي سبيل المثال ما صدر عن اتحاد الكتاب العرب وتلاه الكاتب محمد سلماوي والذي كان متحدثاً باسم لجنة تعديل الدستور. أكد البيان علي ضرورة تنفيذ أهداف البند السابع والواردة في نظامه الأساسي علي النحو التالي: "الاهتمام باللغة العربية وتحديث تدريسها وتعزيز مكانتها وكشف إمكاناتها علي مواكبة التطور الحضاري والدفاع عنها في مواجهة ما يتهددها من مخاطر". وأوضح أن لغتنا العربية مازالت أمام موجات متتالية من التغريب والغزو الثقافي عبر الموجات الاستعمارية المتلاحقة التي جاءتها من مناطق وبلدان أوروبية مختلفة. استهدفت نزع اللغة العربية من صدور أبنائها وإحلال لغة الاحتلال الغازي محلها. تمهيداً لمحو الوطنية ذاتها التي تعد اللغة أول مظاهرها. مع ذلك فإن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب يلاحظ خطورة حركة التغريب النابعة من الداخل. خلال الأربعين سنة الماضية. والتي صاحبت حالة الانفتاح الاستهلاكي ومحاولات التشبه بالنموذج الأمريكي في الحياة بمظاهرها المختلفة. وقد انعكس ذلك علي انتشار الاسماء الغريبة للمحلات التجارية في شوارعنا العربية والتوسع في استخدام المصطلحات الأجنبية في الدعاية التجارية والإعلانات رغم وجود بدائل عربية مألوفة فضلا عن شيوع الحديث باللهجة الأمريكية بين الشباب. مقابل انزواء اللغة العربية وشيوع الاخطاء اللغوية والإملائية بين المتخصصين. وفي دواوين الشعر والكتب الأدبية والصحف والمجلات المتخصصة. وخاصة بين العاملين في القنوات الفضائية والإعلام العام والخاص. حتي إن خطب المسئولين السياسيين الكبار لم تخل من الأخطاء الواضحة. ونبه بيان اتحاد الكتاب إلي ضرورة سعي الوزارات والهيئات والاتحادات العربية المعنية باتخاذ التدابير العاجلة لمنع تفاقم الأمر. حيث إن اللغة المكون الرئيس للهوية العربية والوجود العربي ذاته. وكم من مبادرات وبيانات في مناسبات.. ولا يبقي الحال علي ما هو عليه.. بل يزداد سوءاً وانحداراً. ** ذهب الإمام الشافعي إلي أن تعلم اللغة العربية أو معرفتها "فرض" علي كل مسلم حتي يستطيع أن يؤدي فرائض دينه وخصوصاً الصلاة اليومية. ** من أقوال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: إن الجرأة علي اللغة العربية وصلت إلي حد الفحش والسكوت علي هذا الوضع ارتداد صريح عن دين الله.. فاللغة العربية إذا ماتت وضع القرآن في المتاحف وضاع تراثنا العلمي والأدبي كله وقد كان الأزهر يعرف قديماً بعلمائه الذين يتكلمون باللغة العربية في البيوت والشوارع فمازال الغزو الاستعماري يلاحقهم بالنكت والهزر حتي استعجمت ألسنتهم وتركوا الكلام بالنحو.. ويؤكد القرآن في أكثر من موضع أن الحفاظ علي اللغة من شعائر الإسلام وأن دحرجة هذه اللغة إلي منزلة ثانوية خيانة لله ورسوله وأن تعلم النحو والصرف كتعلم التفسير والحديث وأن إقرار الأخطاء اللغوية كإقرار المعاصي سواء بسواء.