ما أجمل الأفق وأبدعه. حين تميل الشمس نحو الغروب. ما أروع الألوان المتناسقة الموحية برقة لا تقاوم. حنان يعم الكون. إنها ملتهبة حباً وشوقاً إلي عناق الأرض الطيبة. والمياه الهادئة هدوءاً يبعث الطمأنينة في النفس. وشوقاً لهدير البحار الهائجة التي تحتج علي غروبها. ورحيلها إلي مكان ليست به أمواج البحار. لوحة بديعة الجمال تشحذ الخيال. وتثير العواطف. وتنمي الاحساس في قدرة الخالق جل في علاه المبدع القادر. ينطلق الخيال لرؤية هذا المنظر البديع. خيال الإنسان الفنان الذي وهبه الله مقدرة المحاكاة للطبيعة وبهاءها رسماً وموسيقي. وتثار العواطف لما يبعثه المنظر الخلاب الذي يحاكي قلب العاشق الولهان المحترق من لحظة الفراق. وينمي الإحساس بتأمل هذه الحركة الكونية فيزيد الإيمان في القلوب ويذكر الناظرين بأن عبادة الله لا تنحصر في الصلاة والصيام فقط. وإنما في تأمل خلق الله والتمتع بمشاهد الظواهر الكونية التي تنبئ بأن الله كرّم الإنسان بعقل يفكر في آلاء الله ومخلوقاته وبقلب يستشعر قوة الله وقدرته ليطمئن إلي أن حركة الحياة دائمة مستمرة لا يعوقها جاحد. ولا يحجبها ساخط فينطلق الإنسان في طريق الخير وإعمار الكون تحقيقاً لقوله تعالي: "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون" سورة يونس الآية "5". وقوله تعالي: "تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا" سورة الإسراء الآية "44". إن بهاء النجوم في السماء وتناثرها تناثراً يبهج النفس. ويسعد الروح. يدفع العقل إلي دروب العلم فيسلكها مفكراً ومحللاً فاتحاً لآفاق بعيدة يريدها الله سبحانه وتعالي لتنفع الإنسانية وترقي بما يقدمه ذلك العقل المفكر قال تعالي: "وعلامات وبالنجم هم يهتدون سورة النحل الآية "16"". وقوله أيضا: "وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون" سورة الأنعام الآية "97". ويستشفها خيال الشاعر فينطلق منشداً ابداعاته في كلمات رقيقة تمس القلب وتهذب الروح وتمتع الاحاسيس أو يعزف الموسيقي نغمات تعبر عن خلجات نفسه الراقية الشفافة فتطير الأرواح في خيالات بعيدة وكأنها تحلق في سماء النغم الجميل كما أن تعانق النجوم والليل يوحي لكل إنسان يملك احساس الفنان ويعبر بريشته عن ذلك الاحساس انطلاقة يعجز المتذوقون عن التعبير عن جمالها وروعتها. "وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون" سورة الأنبياء الآية "33". والقمر ذلك العاشق الولهان يدور في سماء الكون يظلل العباد بضيائه الناعمة يفجر في أعماقهم بحار الإخلاص وشلالات الشفافية فلا يغادر السماء إلا عند شروق شمس النهار فتبعث حركة الحياة في الكون لينهض كل ذي همة وأمل في السعي نحو بناء نفسه وأسرته ووطنه فتدب الحياة في الوجود كله» قال تعالي: "ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال" سورة الرعد الآية "15" . وقوله: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" سورة البقرة الآية "164". والأنهار والبحار والشجر وبهجة الزروع ونماؤها. كل ذلك نعم عظيمة ترقي بالإنسان وتخلق الفنان الذي في إمكانه أن يعبر عن كل ذلك ويحاكيه إما في لوحة. أو قطعة موسيقية تريح النفس وتسعدها. أو في قصيدة يهتف بها شاعر حباه الله بإحساس دافق وشعور متقد. والفنان علي اختلاف مقاصده ومشاربه ما هو إلا عابد متبتل في محراب الكون استشعر جمال الطبيعة التي خلقها الله فعبر عنها في أرق صورة وأبهي تعبير رسماً أو نغماً أو كلمات ساحرة.. وإن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة هكذا قال المصطفي صلي الله عليه وسلم ودلت آيات قرآنية كثيرة علي ابداع الخالق سبحانه وتعالي في خلقه وحثت الإنسان علي التأمل والتفكير في تلك المخلوقات ليتكون الإنسان العالم الذي يستنبط ويحلل ويصل إلي نتيجة مبهرة والإنسان الفنان الذي يحاكي الطبيعة ويبعث في نفوس الناس البهجة والسرور قوله تعالي: "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان" سورة الرحمن الآيات "1 6". "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" سورة الجاثية الآية "13". فإن أعظم درجات العلم هو ذلك العلم المؤمن الذي عرفه الفلكيون أمثال جاليليو وكيلر. ذلك العلم الممزوج بالإيمان. كانوا ينظرون إلي الكواكب لا بعين العقل وحده بل بعين القلب أيضا وكانت السماء والنجوم في نظرهم مخلوقات حية. كانوا يحسون في كتلة النجوم وفي هذا الكون بأكمله الروح الخالقة ويد المبدع الأعظم. ما أروع هذه العبارة من كيلر: "كل الخليقة ليست إلا سيمفونية عجيبة. في مجال الروح والأفكار كما في مجال الأجسام والأحياء.. كل شئ متماسك مرتبط بعري متبادلة لا ينفصم كل شئ يكون كلاً متناسقاً وان الله قد خلقنا وأعطانا الاحساس بالتناسق" "تحت شمس الفكر لتوفيق الحكيم صفحة 84 85". إن الكون في حركته وابداعه لهو حقاً لوحة نادرة حركت وجدان ملايين الناس في شتي العصور. يبث الجمال في عقولهم وقلوبهم والغبطة والفرح والإيمان. ودفعت شعراءهم وفنانيهم إلي أن يكتبوا القصائد أو يرسموا صوراً أو ينحتوا حجراً أو خشباً وطيناً. لكن لم يقل أحد من العقلاء يوماً بأن هؤلاء زادوا في هذه الصور نقصاً لم تستطع قدرة الله إتمامه فتفوقوا علي الله. "الفن التشكيلي والمعماري للدكتور عماد الدين خليل صفحة 35 36". ومن ثم فإن الفنان المسلم هو الإنسان السوي إن صح التعبير الإنسان السليم ذو الفطرة النقية الحساسة. انه يدرك تماماً دونما واسطة أو عناد يستغل طاقاته التي هي أيضا من خلائق الله لكي يسهم فعلاً في الحركة الدارجة التي هي أيضا من خلائق الله ولكي يسهم فعلاً في الحركة صوب الجمال والكمال. "المرجع السابق". والفن الإسلامي في جوهره وروحه هو محاكاة للطبيعة بإبراز ما فيها من جمال لتنطلق الألسن والقلوب بالتسبيح والحمد لله الخالق المبدع الذي علم الإنسان ما لم يعلم. ولسنا في حاجة إلي أن نقرر أن فن التمثيل وهو فن محاكاة النشاط الإنساني وتشخيص أنماط البشر في جميع صورها وحالاتها. فذلك الفن فيه من الإبهار وابراز القدرات البشرية ما يمتع العقول ويبهرها في آن. ولا شك أن قدرة الممثل في اتقان الدور الذي يؤديه والمخالف لشخصيته الحقيقية فن ممتع رائع. وقدرة المؤدي في أدائه المقنع الذي لا يشعر المشاهد ان ذلك تمثيلاً. إنما يوهمه بأن أداة لتصوير تنتقل من مكان لآخر وراء الأحداث والأشخاص وكأن ما يشاهده هو واقع لا محالة لا فضل فيه لقائد العمل سوي تحريك أدواته في أماكن الأحداث وهو لا شك يعد من القدرات البشرية التي حبا الله بها أناساً دون آخرين وهو ما لا يتنافي مع منهج الفن الإسلامي الذي نبتغيه.