هل نحن صادقون مع أنفسنا؟ هل نحن قادرون علي مواجهة أنفسنا والاعتراف بأخطائنا؟ هل نحن قادرون علي التخلي عن ثقافة الكراهية عند مواجهة الحقائق ومحاولة تبرير الاخطاء؟ هل نملك شجاعة الرجوع إلي الحق والاصرار علي احترامه والالتزام به؟ هل نريد حقا التكفير عن سيئاتنا وجرائمنا في حق الأجيال الصغيرة التي تراقب وتحاول ان تفهم ما يحدث الآن؟ هل نحن واثقون من أنفسنا للدرجة التي يمكننا معها اعلان الرفض أو القبول صراحة لما نعتقد انه خطأ ونتصور انه صواب أو لما هو خارج أو في اطار ارادتنا وقدرتنا؟ هل نحن قادرون علي احترام الشخص الذي يفعل ذلك ونشجع أمثاله علي تأكيد هذه الثقافة وتعزيز ذلك السلوك؟ أخشي ان تكون معظم الاجابات بالنفي أو حتي عدم القدرة علي الاجابة.. والسبب ببساطة ان الصدق أصبح عملة نادرة أو مغيبة عن الحياة المعاصرة وصراعاتها المريرة.. واضطر الكثيرون معها إلي ان يضعوا الصدق جانبا ويضيعوا ثقافة الصدق ويمحوا أخلاق الصديقين والصادقين.. لتسود مكانها ثقافة الغش والزيف والخداع والرياء.. وتضليل الناس بأي ثمن وبدون ثمن. لذلك ليس عجيبا ان تري حالات الانزعاج الدائمة علي المستويات الاجتماعية المختلفة.. واستمرار ترديد السؤال ماذا جري للناس؟ وأين ذهبت الأخلاق؟ وإلي متي هذه الفوضي العارمة؟ أما لهذا العبث والجنون الفوضوي من آخر؟! لوكان هناك حرص والتزام بضرورة تحري الصدق وعدم القول إلا الصدق.. لما كان هذا حالنا علي وجه العموم.. ولما وجدنا مسئولا كاذبا حتي ولو كان يتجمل.. حتي وإن أراد المجاملة أو النفاق أو إشعال نار الفتنة ضد الخصوم أو أي فريق.. في وسط هذا الخضم المتلاطم من صراعات سياسية وأيديولوجية وغيرها.. نسينا ان الصدق دائما ينجي.. وانه يمتلك دائما مفاتيح أبواب الأمل ويغلق مصاريع بوابات الشر والندم.. نسينا في غمرة حروب الكراهية والاتهامات بالمتاجرة بالدين ان المؤمن لا يمكن أن يكون كذابا.. لا يعرف الكذب طريقا إلي لسانه أو لا يتسلل إلي عقله وجنانه.. حتي وإن حاول البعض التجمل بتلوين الكذب بالأبيض أو غيره من ألوان. لا بد من الاقرار والاعتراف هنا بأن الكذب كذب.. لا يعرف الايديولوجيا أو الحزبية.. ولا التدين أو غير التدين.. وإن كان الأمر في حالة المتدينين والمتشدقين بالدين أوجب وألزم.. وتكون المصيبة أعظم وأخطر. ولو التزم كل فرد -مسئول أو غير مسئول. كبير أو صغير "الصدق" لما كانت هناك أدني مشكلة وما وقعت البلبلة ولا ثار الناس وما غضبوا أو حنقوا علي أحد بغير وجه حق.. لأن معرفة الحقيقة كفيلة بتحقيق الأمان والسلام النفسي والاجتماعي وقدرا من راحة البال.. ولك ان تتصور إذا تركنا الناس تضرب الأخماس في الأسداس.. إزاء قضية ما أو مشكلة بعينها.. أو لم نقل الحقيقة كاملة وتركنا الباقي للعقول والأفهام..؟ أو تصور اننا خدعنا الناس لبعض الوقت وصدقوا فماذا يمكن ان يحدث بعد ان تتكشف الحقائق إن آجلا أو عاجلا؟!! لنأخذ موقفا علي سبيل المثال.. في أزمة اسطوانات البوتاجاز المشتعلة حاليا.. ماذا استفاد المسئولون مثلا من الادعاء بأن الأزمة مفتعلة.. وان أطرافا عدة تتاجر بمعاناة الشعب.. سواء تجار التجزئة أو السريحة أو أصحاب مزارع الدواجن أو أصحاب مصانع الطوب الأحمر وغيرهم. ثم عندما يحاصرهم الشعب ويطالبهم بالضرب علي أيدي المتلاعبين تفاجأ بتصريحات علي لسان كبار المسئولين بأن الأزمة ترجع إلي نقص في الامدادات وتوقف أو تعطل الشحن.. بسبب سوء الأحوال الجوية.. واغلاق المواني.. أو لأي سبب آخر. إن مثل هؤلاء المسئولين لا يجب التسامح معهم.. لأنهم يزرعون الفتنة بين أبناء الشعب ويؤلبون من حيث لا يدرون الفئات علي بعضها.. ولنا أن نتساءل عن الموقف لو صدق الناس مثل تلك التبريرات وتوجهوا إلي مزارع الدواجن أو مصانع الطوب وحطموها أو احتجزوا السيارات التابعة لها والتابعة لجهات حكومية تحمل هذه السلعة أو تلك؟ .. وقد حدث هذا بالفعل في احدي مدن محافظة المنوفية -في بركة السبع- حيث خرج الناس علي سيارة محملة بأنابيب الغاز وأوقفوا السائق واستولوا علي الاسطوانات ووزعوها علي أنفسهم ودفعوا ثمن الأنابيب للسائق الذي لم يكن في مقدوره مواجهة الناس أو اقناعهم بسلامة موقفه وصحة حمولته!! وهذا مثال من عشرات الأمثلة في ربوع مصر. أما ما يحدث علي صعيد الاعلام فإنه الطامة الكبري وهذا الموضوع يحتاج إلي معالجة خاصة سنعرض لها إن شاء الله قريبا نظرا لخطورة الأمر. هل تعلم ان لفظ "الصدق" ورد في القرآن الكريم في ثلاثة وخمسين ومائة "153" موضعا. جاء في واحد وثلاثين "31" بصيغة الفعل. نحو قوله تعالي: "ولقد صدقكم الله وعده" "آل عمران: 152". وجاء في اثنين وعشرين ومائة "122" موضعا بصيغة الاسم. من ذلك قوله سبحانه: "والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون" "الزمر: 33". وأكثر ما ورد لفظ "الصدق" بصيغة جمع المذكر السالم المنصوب أو المجرور. حيث جاء في خمسين موضعاً "50". من ذلك قوله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" "التوبة: 119". وأكثر ما ورد لفظ "الصدق" باشتقاقاته المختلفة وصفاً للمؤمنين. أو فعلاً من أفعال عباده الصالحين. وجاء من هذه المادة أيضاً بدرجة أقل بمعني "الصدقة" و"التصدق" بمعني بذل المال علي سبيل الوجوب أو الندب. وورد أيضاً بنحو أقل من المعنيين المتقدمين "الصدقات" بضم الدال. بمعني مهر المرأة. * إن القرآن الكريم قسم الناس إلي صادق ومنافق: قال -تعالي-: "ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم" "الأحزاب: 24". فدلت الآية علي أن الناس صنفان: صادقون ومنافقون» فالإيمان أساسه الصدق. والنفاق أساسه الكذب. فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر. * ان مرتبة الصديقية تلي مرتبة النبوة. قال تعالي: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا". * إن الصدق ينجي العبد من أهوال القيامة. فقد أخبر الله تعالي انه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من العذاب إلا صدقه "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم". وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن الصدق يهدي إلي البر وإن البر يهدي إلي الجنة وان الرجل ليصدق حتي يكتب عند الله صديقاً. وإن الكذب يهدي إلي الفجور وان الفجور يهدي إلي النار وان الرجل ليكذب حتي يكتب عند الله كذابا" "متفق عليه". * من توجيهات الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بالصدق ولو قتلك واحذر صديقك إلا الأمين. وقال رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم. فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء. * يقول ابن القيم -رحمه الله تعالي- في مدارج السالكين: الصدق في هذه الثلاثة: الصدق في الأقوال: استواء اللسان علي الأقوال كاستواء السنبلة علي ساقها. والصدق في الأعمال: استواء الأفعال علي الأمر والمتابعة كاستواء الرأس علي الجسد. والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح علي الاخلاص. واستفراغ الوسع وبذل الطاقة. وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صديقيته. ولذلك كان لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- ذروة سنام الصديقية. سمي الصديق علي الاطلاق . والصدق أبلغ من الصدوق. والصدوق أبلغ من الصادق. * قال مالك بن دينار: "الصدق أن لا يكذب اللسان. والصديقية أن لا يكذب القلب". وقيل: من قل صدقه قل صديقه. وأن الصدق: كتاب نادر. لا يطبع منه إلا نسخة واحدة فقط. قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر. قال الجاحظ: لا مروءة لكذوب. ولا ورع لسييء الخلق. وقيل: الناس عند القول أربعة: قائل يقول ولا يقال معه. وقائل لا تأخذ منه منفعة. وقائل لا تحب أن تسمعه. وقائل لا تستحي أن تصفعه.