ضاقت مكة علي رحبها ذرعاً بالإسلام. وبرسول الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم. بعد أن استنفدت قريش ايقاع كل أنواع الإيذاء بالمسلمين المستضعفين بلغ مداه بإزهاق الأرواح. حتي يردوهم عن دينهم. فلم يفلحوا. ولما أعيت الحيل كفار قريش. عرضوا علي بني عبد مناف. قبيلة الرسول صلي الله عليه وسيلم دية مضاعفة علي أن يسلموه لهم. فأبوا ذلك. فأسرعوا إلي أبي طالب عمه. يجددون العرض. بأن يعطوه سيداً من أعظم شبانهم. يتبناه. ويسلم إليهم محمداً. يفعلون به ما يشاءون. فقال لهم قول الحكيم: "عجباً لكم. تعطوني ابنكم أغذوه لكم. وتأخذون ابني تقتلونه؟؟!" وهنا يئست قريش من الوصول إلي حل مع محمد صلي الله عليه وسلم. ودعوته التي فرقتهم شيعاً وفرقت بينهم. وعابت آلهتهم. فأجمعوا علي مقاطعة بني هاشم وبني المطلب. واخراجهم من مكة والتضييق عليهم!!.. لجأت قريش إلي الإعلام في محاربة محمد صلي الله عليه وسلم ودينه. فكتبوا بذلك صحيفة ظالمة. وضعوها في جوف الكعبة لحصار المسلمين. استمر مفعولها ثلاث سنوات.. وكان من أهم توصيات هذه الصحيفة ألا يبيعون ولا يبتاعون منهم شيئاً. وشملت بنود الصحيفة بني هاشم وبني المطلب رهط النبي صلي الله وعليه وسلم. مما دفع محمداً وأصحابه إلي الاحتماء في شعاب الجبل بظاهر مكة. يعانون الحرمان ألواناً. فكانوا في كثير من الأحيان لا يجدون الطعام. ليدفعوا به غائلة الجوع حتي أكلوا أوراق الشجر. ولم يكن يتاح لمحمد والمسلمين الاتصال بالناس والتحدث إليهم إلا في الأشهر ا لحرم. حين يفد العرب إلي مكة حاجين. وحين تضع الخصومات أوزارها. فلا قتل. ولا تعذيب ولا اعتداء ولا انتقام. وهذا الحصار الذي أوقعته قريش بمحمد صلي الله عليه وسلم. وصبره علي أذاهم. حبب إليه كثيراً من القلوب. التي لم تبلغ قسوتها ما بلغت من قلب أبي جهل. وأبي لهب عمه. وأمثالهما!!.. طال الزمن. وكثر ما أصاب المسلمين من عنت قريش. وهم إخوانهم وأصهارهم وأبناء عمومتهم. ولولا أن كان رجال من أهل مكة يعطفون علي المسلمين في هذه المحنة. ويحملون إليهم الطعام والشراب لهلكوا جوعاً. وكان هشام بن عمرو من أشد الناس عطفاً علي المسلمين. فكان يأتي بالبعير. فيحمل عليه طعاماً أو براً. ويسير به في جوف الليل. حتي إذا وصل إلي فم الشعب خلع حطامه. وضربه علي جنبه. فيدخل عليهم الشعب بما حمل من قوت. بل إن هشاماً ضاق ذرعاً بالصحيفة. فعمل علي نقضها. فذهب إلي زهير بن أبي أمية. وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب جد النبي محمد صلي الله عليه وسلم "عمته" ودار بينهما حديث طويل عن الصحيفة. فقال هشام يا زهير: أقد رضيت أن نأكل الطعام ونلبس اللباس. وننكح النساء. وأخوالك حيث قد علمت. أوشكوا علي الهلاك. ولو كانوا أخوال أبي جهل ما نفذت هذه الصحيفة في حقهم. وتعاهد الرجلان علي نقض الصحيفة سراً واستعانوا بالمطعم بن عدي. وأبو البختري بن هشام. وزمعة بن الأسود. وأجمع الخمسة أمرهم علي نقض الصحيفة الظالمة!!. بدأ زهير في اجراءات نقض الصحيفة. فغدا إلي البيت فطاف سبعاً. ثم نادي بأعلي صوته: يا أهل مكة. أنأكل الطعام. ونلبس اللباس. وبنو هاشم والمطلب في شعب الحبل هلكي. لا يبتاعون ولا يبتاع منهم. والله لا أقعد حتي تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فصاح به أبو جهل كذبت. والله لا تشق. وهنا ساعده زمعة وأبو البختري والمطعم. وكلهم يكذبون أبا جهل. ويؤيدون زهيراً. وهنا أدرك أبو جهل أن الأمر قضي بليل. واتفق القوم عليه. وأن مخالفتهم قد تشعل شراً. فأوجس خيفة. وتراجع. وهنا قام المطعم ليشق الصحيفة. فوجد الأرضة قد أكلتها إلا فاتحتها "باسمك اللهم".. عاد محمد وأصحابه إلي مكة بعد تمزيق الصحيفة. واستأنف الدعوة ولم تمض إلا أشهر قلائل علي نقض الصحيفة حتي فجأت محمداً في عام واحد فاجعتان اهتزت لهما نفسه. هما موت أبي طالب وخديجة. فسماه الرسول صلي الله عليه وسلم عام الحزن. وبفقدهما ازداد أذي قريش له ولأصحابه حتي ضاق بهم ذرعاً فخرج إلي الطائف وحيداً. لا يعلم بأمره أحد. يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة لكنه رجع منهم بشر جواب. وأغروا به سفهاءهم يسبونه ويرمونه بالحجارة. ففر منهم إلي بستان لعتبة وشيبة بن ربيعة. فاحتمي به ورجع السفهاء عنه. وجلس في ظل شجرة. وأخذ يدعو ربه قائلاً: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني علي الناس يا أرحم الراحمين إلي قوله: إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. ولكن عافيتك أوسع لي"!! وهنا يتجلي رب العزة علي حبيبه محمد صلي الله عليه وسلم فيسعده بأعظم رحلة في التاريخ مادامت السموات والأرض حين أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي. فيصلي إماماً بجميع الأنبياء. ثم يعرج به إلي السماء في أشرف رحلة فضاء عرفتها البشرية. حتي بلغ سدرة المنتهي. فكان قاب قوسين. أو أدني من العرش بفضل الله وأول "مكوك فضاء" ملك الوحي جبريل عليه السلام الذي صحبه إلي أعلي منزلة ينالها البشر. تسرية عنه. وتخفيفاً لما ناله في سبيل دعوته من آلام لا يتحملها إلا أولو العزم من الرسل. ومن فوق سبع سموات فرضت علي أمة محمد صلي الله عليه وسلم الصلاة. خمساً في العدد. وخمسين في الأجر "ولسوف يعطيك ربك فترضي" الضحي.. والله من وراء القصد. وهو المستعان وربما كان