كان المهندس عاصم عبد الماجد أسرع في رد فعله من جماعته وقادتها. القيادي التاريخي للجماعة الإسلامية عز عليه تبرؤ رفقاء الجهاد المسلح قبل نحو ثلاثين عاماً، من كلماته ودعواته الصادمة في أغلب الأحيان. الرجل أبي أيضاً أن يكون كبش فداء في معركة الاستقطاب بين التيارات الإسلامية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين من جانب، والتيارات الليبرالية والعلمانية والسلطة القضائية والإعلام الخاص، وربما الكنيسة والأقباط أيضاً، من جانب آخر. فأعلن استقالته من عضوية مجلس شوري الجماعة الإسلامية، ليرفع عنها الحرج، وكذا ليؤكد علي ضعف مواقفها وردود أفعالها في عدد من القضايا، مع استمراره فيها من دون تحمل أي مسئولية رسمية، كأحد كوادرها المخلصين. استقالة عبد الماجد المباغتة أربكت الجماعة الإسلامية علي نحو لافت. عدد من قادتها ومتحدثيها الرسميين ممن سارعوا الأسبوع الماضي، في تصريحات وبيانات رسمية، قاموا بنفي أي صلة لهم بدعوة عبد الماجد لحصار المحاكم ومنازل القضاة وناديهم "لتطهير السلطة القضائية والقائمين عليها من الفاسدين"، علي حد قوله. سمات الجماعة الإسلامية عدم التراشق بين قادتها وأعضائها علنا إلا أنهم سحبوا منه مهمة المتحدث الإعلامي قبل بضعة أشهر. غضب عبد الماجد ساعتها، وقدم استقالته فعلياً، لكنهم رفضوا قبولها. فالتزم بالقرار "المهين" من وجهة نظره، لكنه لم يصمت وواصل هجومه علي الإعلام والثوار والقوي المدنية والإعلام والأقباط. الطلاق بينه وبين الجماعة الإسلامية أصبح بديهياً. خاصة أن الأمر بينهما تجاوز مساحة الخلاف في الرأي بين الجماعة وأحد قادتها، ليعكس تضاداً حاداً في الأفكار والمنهج بين الطرفين، حتي ولو بدت هناك، من باب المصلحة، أو من باب أنصر أخاك "الإسلامي" ظالماً أو مظلوماً، بعض الاتفاقات المتفرقة بينهما هنا أو هناك. الفراق أصبح أبغض الحلال للاثنين، ولم لا ودعوة عبد الماجد المفاجئة لمحاصرة المستشارين وأعضاء الهيئات القضائية، في منازلهم، وداخل ناديهم، علي غرار ما حدث من قبل مع المحكمة الدستورية العليا، إنما تتجاوز الإطار المتشح ظاهرياً، بثوب حرية الرأي والتعبير، بينما تجر الجماعة الإسلامية جراً إلي دائرة الداعين للعنف والتطرف. ولا يخفي علي القاصي والداني أن الجماعة الإسلامية، الحليفة الحالية للإخوان المسلمين، تسعي بشتي الطرق، منذ دخولها المعترك السياسي بعد ثورة 25 يناير، لأن يغض المجتمع الطرف عن تاريخها الدموي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وتصدير مبادرتها الشهيرة لوقف العنف، والمعلنة في العام 1997 باعتبارها حداً فاصلاً بين تركها السلاح نهائياً، وانتهاجها الدعوة السلمية، فضلاً عن استخدام قصص اضطهاد الأمن لأعضائها وتعذيبهم بأبشع الصور والتضييق عليهم من جهاز أمن الدولة المنحل، طيلة عصر مبارك (ولهم كل الحق في تلك النقطة)، لجذب تعاطف القوي السياسية معهم. غير أن تحريض عبد الماجد علي القضاة، وكلامه كذلك طيلة الأسبوع الماضي، عن أن قوي اليسار والشيوعيين والاشتراكيين الثوريين "هدامون"، ودعوته طلاب الجامعة لترك البيوت والاعتكاف بالمساجد من أجل دعوة الناس في المقاهي والطرقات والميادين للالتزام بشرع الله وتعاليم الإسلام، وقبل هذا وذاك مغالاته في المهام الافتراضية ل"اللجان الشعبية" التي كانت الجماعة الإسلامية قد اقترحتها قبل شهور للمساعدة في ضبط الأمن، وسد العجز الشرطي الواضح في الشارع، بحيث تصبح تلك اللجان "قوة للحق تحميه وتدافع عنه"، فضلاً عن تأسيسه حركة الأنصار لمواجهة مناهضي التيارات الدينية والجهاد من أجل "نصرة الحق"، لا يمكن النظر إليها إلا بتشكك كبير حول جدية الجهاديين في التسليم بعدم جدوي العنف، وهل أصبح العمل السياسي خياراً نهائياً بالنسبة لهم، أم أنه مجرد وسيلة مرحلية ترتبط بضعفهم الراهن؟ الواقع أن أزمة الجماعة الإسلامية الآن ليست فقط مع عبد الماجد، فالعديد من قيادات الجماعة وكوادرها، سواء العائدين من الخارج، بعد ثورة 25يناير، أو أولئك المفرج عنهم العام الماضي بعفو رئاسي، من الدكتور محمد مرسي، مثل الشيخ أبو العلا عبد ربه، أحد الضالعين في اغتيال الكاتب والمفكر، فرج فودة في العام 1992 والقيادي التاريخي للجماعة الإسلامية الشيخ رفاعي طه، والمفرج عنه أيضاً بعد براءته في قضية "العائدون من ألبانيا"، وكذا محمد الظوهري، شقيق زعيم القاعدة الحالي، الدكتور أيمن الظواهري (ينتمي في الأصل لتنظيم الجهاد المصري)، عادوا للحديث عن أنهم كانوا يقيمون حدود الله. المفارقة أن عبدالماجد وهو صاحب "ميثاق العمل الإسلامي"، وهو دستور العمل والمنهج الفكري للجماعة الإسلامية، طيلة سنوات الدم، كان أيضاً أحد من ألفوا أربعة كتب للمراجعات الفقهية في السجون، و"النصح والتبيان في تصحيح مفاهيم المحتسبين". ومع ذلك لم يتردد بعد الثورة، في الحديث علي ضرورة مراجعة مفاهيم كتب المراجعات والمبادرة، متبرئاً من تفسير حاكمية الله، وقال إنه لم يوقع علي نصه، محملاً ناجح إبراهيم المسئولية كاملةً عنه. ما يقطع بأن التصريحات المقلقة من رموز العمل الجهادي المسلح السابقين، لم تكن حكراً علي من تحفظوا علي مبادرة وقف العنف والمراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية، أو ممن رفضوا التوقيع عليها، مثلما هو الحال مع كافة قادة جماعة الجهاد، وعلي رأسهم عبود وطارق الزمر، رغم انضوائهما حالياً تحت لواء الجماعة الإسلامية، وإنما تكفل أيضاً نفر من الموقعين علي المبادرة، أو من ساهموا في إخراجها للنور، بمهمة تشكيك الرأي العام والنخب، في مدي التزامهم ببنودها، لاسيما بعد التغيرات التنظيمية التي جرت في جسد الجماعة قبل عام، وأدت لإجبار كل من كرم زهدي وناجح إبراهيم، علي ترك القيادة، لصالح عصام دربالة وصفوت عبدالغني وآل الزمر وغيرهم، وسط اتهامات متبادلة من الفريقين، حيث وجهت اتهامات لزهدي وناجح بأنهما يهادنان الأمن ويقدمان مصلحته، علي مصلحة أفراد وأبناء الجماعة، بينما رد الإثنان بالتشكيك في التزام دربالة وعبد الغني في الالتزام بوقف العنف وتوديع الجهاد المسلح. لا أحد الآن ينكر أن الجماعة الإسلامية نبذت استخدام قوة السلاح والعنف، لكن الخوف كل الخوف ألا يكون عدد كبير من أبنائها، مثلما تؤشر تصريحات عبد الماجد وغيره، لم ينبذ فكر التطرف والإرهاب والدم.