أنني كلما زرت نيويورك زاد إعجابي بهذه المدينة المتوحشة.. المتنوعة.. المتكبرة.. المغرورة بما يحتويه رحمها لكل مقومات الحياة المتجددة. خليط غريب من البشر يعيشون فيها.. يتمنون رضاها. لأن النجاح فيها.. معناه صك الصعود إلي قمم نجاح أخري فهي الغابة التي ظلت عصية علي الترويض.. فإذا ناطحت حيواناتها المتوحشة واستطعت الصمود فيها.. فثق أنك قادر علي تحدي كل المعوقات في أي مدينة أخري.. ناهيك عن بقية دول العالم.. وأنا كسائحة غير تقليدية.. لا أنكر أنني استقيت معلوماتي قبل الزيارة الأولي منذ سنوات كثيرة لا أذكرها.. من الأفلام وحلقات التليفزيون.. التي تصور لنا.. توحش المدينة وغليانها.. بكل مظاهر الحياة غير التقليدية.. فعندما تصف أحدا بالغرابة.. والعنجهية.. والجنون أحيانا.. يتهامس أهل المدن الأخري مفسرين التصرفات الخاصة جدا بأنها نيويوركية.. التكون والنشأة والمزاج.. أي توقع منها أو منه أي شيء. فهي الرائدة.. في اللاتقليدي واللامعقول.. علي مستوي الفنون.. والسياسة.. والاقتصاد.. والعلاقات العجيبة.. والموضة المجنونة.. ربما حلم جميع الشباب أن يبدأوا حياتهم المهنية في »وول ستريت« أو شارع المال والاقتصاد.. ولكن عندما يبدأون في تكوين العائلة. فأول شيء يفكرون فيه هو الابتعاد عن المدينة ومجانينها وشذوذها.. ومجرميها.. وأفكارها التي »تودي« في داهية. من تلك النقطة الصغيرة.. تفهم سر المدينة.. إنها لا تصلح إلا للشباب.. المقاتلين.. الذين مازالوا في بداية الطريق.. يحاولون أن يضيفوا شيئا مختلفا لعصرهم الذي يبدأونه من بدايته.. هنا لا مكان لكبار السن.. أو الضعفاء.. والذين يحلمون بعالم مثالي وأفكار رومانسية وربما العدل والحرية.. لا.. تلك الصفات هجرتها المدينة.. كما هجر معني العدل.. تمثالها الذي أول ما يقابلك وأنت مقبل علي المدينة.. بحرا أو جوا.. أعترف أنني ظللت سنوات بعد غزو العراق أرفض زيارة القارة الأمريكية.. شعرت أنها غدرت بي.. خدعتني بمبدأ العدالة.. وأرض الحرية والفرص المتاحة للجميع لتحقيق أحلام.. عجز موطنهم الأصلي أن يحققها لهم.. وكانت هي أرض الميعاد الحقيقية لكل من كسرت نفسه في الوطن الأم. فلم يجد عدالة أو حرية أو كرامة.. أو حتي حياة نصف كريمة.. كان الحل هو الهجرة إلي أمريكا.. ولكن حتي هذا الحلم.. حرمنا من مجرد التمني بحدوثه.. بعد أن رأينا تمثال الحرية.. يتحول إلي فتاة ليل.. بيديها خنجر وقنبلة عنقودية.. تحصد به ثروات الجميع، من لم يقع في أسر جمالها وخديعته كشفت عن وجهها المشوه المريض وأطلقت قنابلها في وجهك.. ونالت أرضك.. عرضك.. تاريخك وقبل كل هذا.. هدفها الأساسي.. ثرواتك!! لذلك.. لم أجد بي الرغبة الحقيقية في أخذ المركب السياحي لينقلني إلي جزيرة تمثال الحرية. شعرت أنها نكتة سخيفة أو لعبة الثلاث ورقات.. أو أن هذه المرأة المحترمة.. التي كانت تنادي بالعدالة للجميع. اكتشفنا أنها مجرد.. واجهة لأشياء يعاقب عليها القانون.. الإنساني والاجتماعي قبل السياسي.. لقد أصبحت رمزا فاضحا للخديعة والضرب علي القفا.. كما استيقظنا يوما.. بعد خديعة 11سبتمبر التي لا نعرف فاعلها الحقيقي، كما عرفوا تماما إخفاء سر مقتل كيندي.. للعجب حتي الآن.. أخفوا تماما.. أسرار تلك العملية المكتملة الأركان. ولكن مازال السؤال يتردد في ذهني أسأل عن المستفيد من الجريمة.. تعرف فاعلها. نعم استيقظت .. الست حرية وقالت ببجاحة.. بلا حرية.. بلا ديالو.. اطلع بقانون طوارئ مستورد طازة من البلاد الشمولية الاستبدادية.. المتخصصة في التعذيب.. وقول سلامو عليكو علي رأي فنانا العظيم إسماعيل ياسين للحقوق المدنية. وهات يااعتقالات وهات يا إهدار لحقوق الإنسان.. وخاصة المسلمين وذوي الأصول العربية.. وهات ياتنصت علي المكالمات.. وفك أسرار.. البيوت المحترمة.. وخلعت ست الحرية.. رداء الحرية ولبست بدلا منه.. دروع القتال وأدوات التعذيب وردحت وشردحت ولا أجدعها ولية في أجدعها حارة مصرية.. فقدت بريقها ومصداقيتها.. ومن ثم نظرت إليها باحتقار.. فعذرا ياسيدتي.. فلم أعد أصدق بأنك بنت بنوت محترمة.. لذلك سحبت عرض الزواج أو حتي التعارف والإقامة.. فلم تعودي تفرقين. ياسيدة نيويورك.. بينك وبين أي بائعة للمتعة الحرام!! كلتاكما مجرمة. ❊ ❊ ❊ ومع ذلك يظل للمدينة سحرها.. إذا أزلت عن »مخك« الأفكار الرومانسية السياسية.. فقلت إنها مدينة مثل كل المدائن لها جانبها المشرق.. وجانبها القبيح.. وبما أنني في إجازة.. لأركز علي ما هو جميل وما أجمل من الفن.. المسرح في شارع برودواي.. MUSICAL.. أو المسرحيات الموسيقية.. حيث يثبت الفنان موهبته بلا تدخل تكنولوجي.. أمام متفرجين مثقفين.. معتادين علي درجة متفوقة من الفن الراقي الحقيقي.. هنا لا مكان لأنصاف الموهبين. هنا لا مكان للواسطة.. الفن يحكم ويتحكم.. وشباك التذاكر يقول كلمته النهائية في نجاح العرض أو فشله.. حتي لو أشاد النقاد وقال شباك التذاكر كلمته.. فالنتيجة تكون دائما للمال.. الفن له احترامه وللمال الكلمة الأخيرة.. هكذا هي أصول الرأسمالية.. كله يصب في رصيد البنك.. ولكن يظل الشارع متاحا للفن الذي لم يجد فرصة بعد.. للمواهب التي يمكن بعد أعوام قليلة أن تنتقل من الرصيف إلي الإعلانات المضيئة التي تحول الليل إلي نهار في ميدان Time square.. الذي ابتكر حيلة شديدة الروعة هو أنك تستطيع أن تتحول إلي وجه يبرق في أشهر ميدان لمدة ثوان أو نصف دقيقة هو أن ترسل صورتك عن طريق النت لكي تنقل مباشرة علي شاشة أكبر إعلان.. أعترف أنني لا أعرف كيف يفعلون ذلك.. ولكنني رأيت الشباب يفعلونها ويضحكون وهم يعلقون علي صورهم. أو يبعثون بتحيات إلي أصدقائهم الذين لم يسعدهم الحظ في زيارة مدينة نيويورك العفية. التي وجدت في هذا الميدان الذي يسهر حتي الصباح.. في أن تستغله إلي أقصي درجة لإمتاع سائحيها وأخذ كل مليم في جيوبهم الممتلئة أو اللي علي قد الحال.. أقفلت جزءا من الميدان للمتريضين ووضعت لهم موائد وكراسي مجانا.. وبل أقامت لهم مدرجا مثل مدرجات الكرة ليجلسوا عليها.. والأمر طبعا سيحتاج إلي أكل وشرب وكله علي قد فلوسه.. والمحلات مفتوحة في الميدان حتي الثانية أو حتي الثالثة فجرا.. والتوك توك أو شبيهة مثل الترسكل.. ينادي عليك للتنزه.. الرسامون المبدعون ينادون عليك ليرسموك.. كأنه حي ال sacre'coeur في باريس.. وشباب من كل موطن وكل لون.. وكهول يكتشفون الحياة بعد التقاعد.. الكل منجذب كالفراشة للمدينة التي تعطي لكل روح فنه ولكل شهوة مطالبها.. ولكنني أعترف بأن تلك المدينة تعطي لك الحق في أن تفعل ماتريد.. بالطريقة التي تريدها في الوقت الذي تريده.. تريد أن تصرخ أصرخ ولا يهمك.. أن تقلع هدومك يللا ولا يهمك.. تمشي حافي.. تصبغ شعرك أحمر وأصفر .. تعري نفسك تغطيها.. لا أحد سوف يلتفت إليك.. الكل هنا.. مدلع نفسه.فقط كسائح. أما المقيم في تلك المدينة المتوحشة فلا وقت له لكل هذا فهو يجري للحفاظ علي عمله.. لأن الأزمة الاقتصادية مازالت تضربهم في مقتل.. الأمر الذي دعا الرئيس أوباما.. بأن يمد إعانة البطالة لمدة سنة كاملة بعد أن كانت ستة أشهر.. حتي يعثر الشباب أو الكبار علي فرصة للعمل مرة أخري.. وإلا سوف تنضم لل Home leSS أو الذين بلا مأوي.. يعيشون ويموتون علي أرصفة الطريق.. ويظلون أياما أمواتا علي كرسي في مترو.. لا يكتشفون إلا صدفة.. فالمدينة لها وجهان مختلفان تماما.. وربنا يحميك من قسوتها عندما تدير لك ظهرها.. البارد!! ❊ ❊ ❊ أجبرت نفسي علي الوقوف أمام مبني الأممالمتحدة لا أعرف لماذا هاجمتني الرغبة لكي أراه وجها لوجه.. ربما لشعوري أنه هو الآخر.. مثل تمثال الحرية.. تخلي عن هويته التي نشأ من أجلها.. فلا الأمم أصبحت متحدة.. ولا قراراتها أصبحت تصدر لحماية المظلوم أو كسر شوكة الظالم.. فقدت هي الأخري هيبتها في نظري وتذكرت الأفلام التي دارت حول المؤامرات التي تحاك في أروقتها والضغوط التي تمارس علي الدول المستضعفة لتمرير قرارات ظالمة ولا أنسي »باول« وزير الدفاع وهو يكذب مع سبق الإصرار والترصد وهو يؤكد أن العراق استوردت من إحدي الدول الأفريقية مواد لإنتاج أسلحة ذرية وضحكت في سري وقاحة أمريكية كانت السبب في القضاء علي بلد عربي باستعمار فج مسلح.. لسرقة بتروله. وقلت في نفسي لابد من تغيير الاسم إلي الولاياتالأمريكية غير المتحدة مع العالم.. ومابين قوسين »قرصانة العصر الحديث« وأدرت لها ظهري حسرة هاهو حلم آخر يلفظ أنفاسه أمامي.. ويذهب حلمي أو ملجأي إللي كنت »شايلاه« لوقت عوزة.. لوقت تضيق علي فيه أمن مركزي بلدي وأفر من احتمالية الضرب حتي الموت علي يد مخبرين مجانين ربما أخطأوا في العنوان.. وأنتقل إلي الرفيق الأعلي.. وأجد بيانا يقول أنني انتحرت لأنني عجزت عن إيجاد مكان لي علي الطائرة المسافرة إلي نيويورك.. كل شئ ممكن حدوثه هنا في نيويورك.. في هذا الأمر تساوت الرؤوس بالفعل!! ❊ ❊ ❊ رأيتها بعيني رأسي.. خسة الصهاينة وبجاحتهم.. وللأسف تنظيمهم وسرعة التحرك وقدرتهم علي كتابة مسرحية تراجيدية.. سياسية تلبس الباطل ثوب الحق وتحول الجريمة إلي دفاع عن الحياة ومقاومة الإرهاب.. حدث هذا يوم الهجوم علي السفن المتجهة لفك الحصار عن غزة في أوائل يونيو.. كنت في تايم سكوير عائدة من نشاط نسائي بحت طبعا هو التسوق في أسواق نيويورك المغرية.. وأمام الفندق الذي يقع في قلب تايم سكوير وأمام منطقة المشاة بالضبط وهو اختيار ذكي وجدتهم مجتمعين مرتدين القبعات التقليدية.. والضفيرتين اللتين تتدليان من ذقونهم.. دليل التدين الشديد واقفين كهولا ورجالا وشبابا.. يتلون الصلوات.. لينقذوا بني إسرائيل من هجمات المتوحشين الذين يحاولون إزالتها من الوجود.. ودفعهم للشتات مرة أخري. ووراءهم شباب اعتقد أنهم أمريكان وجنسيات أخري يحملون لافتات تقول: نحن معك ياإسرائيل وأخري (دافعي عن نفسك) وبكاء وعويل.. ولم أصدق نفسي.. فلقد كانت المرة الأولي التي أري بعيني هذه البجاحة وفعلا صدق المثال الذي يقول.. (تكلم...!! وإللي فيها تجيبوا فيك).. لقد قتلوا.. دعاة السلام الذين يريدون ايصال المعونات للأطفال والنساء والعجائز المحاصرين.. قتلوهم غدرا وأصابوا من أصابوا.. دعاة سلام.. عزل.. ولكن الصورة قلبت وقالوا إن هذه السفينة كانت تحمل إرهابيين انقضوا علي الجنود الاسرائيليين وأشبعوهم قتلا وطعنا وألقوا بهم جرحي في البحر وقفت أمام هذا الحشد مذهولة.. وكنت في مواجهتهم تماما.. تعالي الصراخ.. وظللت واقفة أمامهم.. وابتسامة متهكمة علي وجهي ساخرة من المسرحية التي كانت في نظري فجة ومكشوفة.. ربما كان هذا هو شعوري فقط لأني أعرف الحقيقة ولكن الأمريكيين لايعرفون سوي ما يعرض عليهم من قناة فوكس المفضوحة المتحيزة بطريقة فجة لكل وجهات النظر الإسرائيلية وال CNN المتحيزة بذكاء لهم.. ظللت واقفة أمامهم لدقائق أنظر إليهم والهتافات تتعالي ولم أجد نفسي سوي أن أقول لهم.. ياقتلة الأطفال.. نظرت إلي الفتاة التي أمامي في ذهول وهي تلتفت حولها لتري هل سمعني أحد غيرها ولكن وجدت من يشدني بعيدا عنهم ويقول لي.. أنت بمفردك سوف يفتكون بك.. أين كنت والمسيرة العربية كانت في نفس المكان في الظهيرة.. لماذا لم تنضمي إليها بدلا من تعريض نفسك للخطر..؟ قلت مذهولة من هذا الغريب.. لم أكن أعرف لقد وصلت أمس وأنت تعرف فرق التوقيت وأنا في إجازة واستيقظت علي برنامج سياحي معد سلفا و.. و..وخجلت أن أقول له أنني »صحفية« فالصحافة لا تأخذ إجازة.. ولكنني كنت محتاجة لها.. وفعلا لم أكن أعرف.. وظللت عن بُعد أراقب انتهاء الوقفة الجبانة وفي المساء وجدت مسئولا إسرائيليا يظهر طبعا في فوكس نيوز يقول إن السفن الست كانت فعلا تحمل ناشطين مسالمين أما السفينة السابعة فكانت كلها مسلحون.. تسللوا إلي هذه القافلة وهم الذين بادروا بإطلاق النار علينا!! ولم أستطع الاستمرار..!! هكذا يتم خداع الناس.. بتحرك سريع.. وإعلام موجه مكثف يقلب الصورة إلي عكسها تماما هذا ما ينقصنا.. لنكف عن الكلام مع أنفسنا.. لنوجه إعلاما متخصصا بالإنجليزية أساسا ثم اللغات الأساسية للعالم لشرح وجهات نظرنا والدفاع عن حقوقنا.. فالحرب اليوم والقضايا.. تكسب إعلاميا أولا وأخيرا.