الحسينى أبو ضيف الرصاصة لم تكسر إرادته، فقط كسرت جمجمته، صحيح أن "مخه" ينزف لكن قلبه بقي علي حاله.. صورة طبق الأصل من ميدان التحرير؛ يتسع لوطن بأكمله. في مستشفي الزهراء الجامعي يرقد زميلنا الحسيني أبو ضيف، هناك من يزوره وينتحب علي فتي – ما أبهي طلته– طالته يد الغدر، وهناك من يذهب إليه ليستمد منه القوة التي مازال قادرا علي أن يمنحها. يزدحم الممر أمام غرفة العناية المركزة بزملاء ونشطاء سياسيين يرفعون أكفهم للسماء بينما دموعهم تتساقط علي الأرض، علي وجوههم علامات عدم التصديق وفي أفئدتهم إيمان لا يكذب وعلي ألسنتهم أسئلة حيري حول مصير مجهول ينتظر الولد والبلد! يوم الجمعة الماضية نظم الصحفيون له مسيرة انطلقت من النقابة إلي ميدان التحرير أطلقوا عليها " كلنا الحسيني أبو ضيف" وهتفوا فيها له ولمصر بحناجر مذبوحة بالألم. لم يكن الحسيني هذه المرة بينهم (وهو الذي لم يتغيب أبدا عن مسيرة) يرفع شعاراته المطالبة بالحرية كعادته ذلك لأنه كان الشعار وكان كل من في المسيرة هو الحسيني. "أبو ضيف يا ولد.. دمك بيحرر بلد" هتف بها زملاؤه وهم يرفعون صورته التي يشير فيها بعلامة النصر وانطلقوا إلي ميدان التحرير – رمز الثورة - يطالبون بالقصاص لشاب لم يتخط ال 27عاما، أرجأ التخطيط لحياته بعد أن تحصل بلاده علي نصيبها من الحرية، كانت وجوه الصحفيين في المسيرة تسبح في دموع لم تستطع الشمس المصوبة عليهم تجفيفها. من يعرف أبو ضيف سيقول لك ببساطة إنه "ابن موت"، يذهب إلي قدره ولا ينتظر أن يأتي إليه، يتعامل مع مصر علي أنها "عرضه" فما بالك والحسيني صعيدي وما هي الطريقة التي سيتصرف بها إذا فكر أحدهم (مجرد تفكير) أن يقترب من عرضه؟! في محافظة سوهاج حمل أبو ضيف حقيبته وأتي إلي القاهرة ليقول كلمة حق في وقت لاذ فيه الكثيرون بالصمت، دافع الحسيني عن حقوق شهداء بني سويف، رأيته وهو يصطحب أرامل الشهداء في معرض الكتاب قبل ثلاث سنوات ليعرض مطالبهم علي الحضور، بينما وزير الثقافة – الأسبق– فاروق حسني يتحدث بعنجهية عن فنانين قال إنهم يتحملون خطأ موتهم، وأنه لو كان هناك لهشهم بالعصا، ووقف الشاب الجسور ينطق الصدق داخل قاعة صفقت لأكاذيب الوزير! لم يكن الحسيني ينظر في عيون من يصافحه، دائما ما يصوب بصره إلي نقطة بعيده يراها وحده، يؤجل ابتسامة كان من المفترض أن تزهر علي شفتيه، ويصمت كأنه أصيب لتوه بالخرس، وعندما يبدأ في الكلام لا يحميك منه إلا الإنصات لما يقول. إذا وجدته في النقابة يشاور لك فاعلم مسبقا أنه سيدعوك لوقفة احتجاجية، أو تظاهرة سلمية، أو مسيرة.. الخ.. ولن يتركك قبل أن يأخذ منك وعدا بأنك ستأتي في الوقت المحدد. عارض مبارك قبل أن يكون هناك أمل في الثورة علي نظامه الفاسد، شكّل مع القليلين أمثاله هذا الأمل حتي إذا أشرقت ثورة يناير وهب قلمه وكاميرته لكشف الحقيقة، وواصل كفاحه أمام العسكر ولم يستطع استكمال مشواره بعد أن أصابته الرصاصة أمام قصر الاتحادية وهو يسجل ما يحدث أمامه فوقع علي الأرض كأي نخلة صعيدية يتمدد جزعها ويبقي جذرها ضاربا في الأعماق. الصحفيون نوعان فيهم من يتباهي بمهنته ومنهم كالحسيني تتباهي به المهنة ويكون مثالا علي ما يجب أن يقدمه كل من أراد العمل في بلاط صاحبة الجلالة، لم يكن أبو ضيف من هواة الجلوس علي المكاتب، هو لا ينتمي إلي أولئك المغرمين برابطات العنق واحتساء القهوة علي مهل وعمل التحقيقات الصحفية عبر الهاتف، لم يكن مفلسا حتي يتملق رئيسه في العمل ويسعي لتكوين صداقات تضمن له مكانة أعلي وراتبا إضافيا يمكنه من ارتياد المقاهي الفاخرة. كان ملتصقا بالشارع، أينما يكون الحق كان، وكلما اختبأ الخبر في حلق النار ذهب إليه وأتي به، قلبه دليله، يقوده إلي قدره فلا يستطيع رده. كتب في آخر تويته له - ونتمني ألا تكون الأخيرة - "إذا استشهدت لا أطلب منكم سوي استكمال الثورة.. نقطة".. ونحن أيضا نطلب من الله (وهو القادر) أن تستكملها معنا. في تقريرها المبدئي عن الحالة وصفت الدكتورة مريم كساب (طبيبة المخ والأعصاب) طلقة الخرطوش التي أصيب بها الحسيني ب "المقصودة"، وقالت إنها انتشرت في الفص الأيمن من المخ، ويعتقد أنه مضروب من مسافة قريبة مع تهتك ونزيف شديدين في المخ، وكسر بقاع الجمجمة، وفي الفقرة العنقية الأولي. كما تحدث التقرير عن وجود "هواء" في المخ، وغيبوبة عميقة فضلا عن تشنجات وهو ما جعل الحسيني يوضع علي جهاز تنفس صناعي. والسؤال: من الذي أزاح المستقبل عن شاب لم يسع طيلة حياته إلا في صناعة مستقبل الوطن.. من صاحب المصلحة في منع الحقيقة من الظهور واغتيالها بيده – تبت يده – التي تتستر علي الجرائم؟! نقطة ومن أول السطر: مهد الزميل العزيز لنشاطه السياسي في كلية الحقوق عام 2007حين رفع دعوي قضائية ضد إدارة الجامعة ورئيسها بصفته، بهدف استرداد مصروفات دراسية دفعها خلال ثلاث سنوات في الكلية والزام الجامعة بتحصيل 14جنيها فقط من كل طالب وفقا للقانون، وهو ما جعل إدارة الجامعة تقوم بفصله مما دفع زملاءه إلي تدشين حركة طلابية باسم "حقي" انضم إليها العديد من الطلاب في جامعات مصر المختلفة تطالب بدفع المصروفات المحددة في القانون.. وهو الآن يرقد جريحا لا حول لله ولا قوة فإذا استطاع الحق أن يكون فوق القوة سنعرف القاتل ونقتص منه وإذا لم يكن فأهلا بالشهادة في سبيل الحق.