لست ممن يفضلون ركوب مترو الأنفاق.. أشعر بمتاهة إذا اضطرتني الظروف لاستخدامه.. عشرات السلالم عليّ أن أصعدها أو أهبطها.. ممرات طويلة مملة.. ولافتات استرشادية في كل مكان تصيبك بالحيرة.. هنا المرج.. هنا حلوان.. لاتتوقف المتاهة بمجرد وصولك لمحطتك بل تصاحبك حتي النهاية لتقودك إلي الشوارع المتفرعة.. هنا دار القضاء العالي.. إلي شارع 62 يوليو.. وهكذا أجد نفسي مضطرة للتركيز الذي يفقدني هوايتي المفضلة في السرحان والتوهان في ملكوت الله وخلق الله. لكن برغم أن المترو ليس وسيلتي المفضلة للانتقال إلا أنني بالطبع أقدر قيمته كوسيلة مواصلات سريعة وأكثر راحة مقارنة بغيره ده بالتأكيد قبل أن تتكرر أعطاله وتكثر شكاوي راكبيه وبغض النظر عن كل ذلك تبقي الميزة الأهم للمترو كامنة في تلك العربة المخصصة للسيدات. صحيح أن الأمر لايسلم من بعض العيوب.. منها كثرة الضجيج وأحاديث السيدات التي لاتتوقف ولاتجد إحداهن تلتقط أنفاسها بين الجملة والأخري حتي تشتبك أخري معها.. ومنها أيضا اقتحام خصوصيتك بكل سهولة في محاولة لكسر الملل واقتناص فرصة للتعرف علي هموم الأخريات طبقا للمثل الشهير الذي تولع به النساء »اللي يشوف بلاوي غيره تهون عليه بلوته«.. أما البلوي الأكثر التي يجب علي كل راكبة أن تتحملها فهي تلك الحالة من العشم الزائد عن الحد الذي يصدر من نساء ذوات الأحجام الثقيلة واللاتي لايراعين في الغالب الأطنان التي تحملها أجسادهن متخذة من أجساد الأخريات مسندا أو متكأ أو حائطا يعطيها قدرا من الراحة غير عابئة بتألمهن أو مبالية له »وح أعملكو إيه.. ماإحنا ستات في بعض وكل واحدة لازم تستحمل شوية«. وبعيدا عن معاناة »الحشر« بين الأجساد المكتنزة المترهلة ستظل لعربة السيدات ميزتها وتميزها فيكفي أنها تحمي الراكبات من »تحرش« بعض ممن يفتقدون النخوة والرجولة الذين يتفننون في استغلال أزمة الزحام لمضايقة الراكبات وإهدار آدميتهن لكن يبدو أن أنصاف الرجال هؤلاء لم يعد يكفيهم مضايقات الأتوبيس فبدأوا في »تلقيح« جتتهم علي راكبات المترو والغريب ألا يقتصر ذلك علي العربات المشتركة بل وصل التبجح إلي العربات الخاصة.. اشتكت لي أكثر من راكبة اعتادت استخدام المترو من هذه الظاهرة »فجأة نجد رجلا بيننا لا نعرف كيف اقتحم العربة.. بمجرد ظهوره تتعالي الصرخات والاحتجاجات محاولين بكل الطرق طرده من العربة.. إلا أنه يقابل كل هذه الصيحات ليس فقط ببرود وإنما بهجوم مضاد وقح ممطرا إيانا بسيل من الشتائم والبذاءات « يابنت تييت « اللي مش عاجبها تنزل تاخد تاكسي«. هذه الروايات لا يجرح مصداقيتها أي نوع من المبالغة أو التهويل لكنها حقيقية وصادمة أكدت ذلك تلك الحادثة التي نشرتها جريدة »التحرير« يوم الإثنين 5 نوفمبر الماضي صاحبتها إحدي راكبات المترو التي فوجئت برجل يقتحم عربة السيدات فطلبت منه النزول واستعانت بقوات الأمن التابعين لشرطة السياحة الذين نجحوا بالفعل في إنزال الرجل وما إن عادت للعربة حتي فوجئت برجلين آخرين كررت ماحدث وطلبت إنزالهما فإذا بوابل من السباب والشتائم المخلة بالآداب والخادشة للحياء« كما جاء بالخبر وعندما سارعت بطلب النجدة فوجئت بمن يجذبها بقوة من حجابها ويطرحها أرضا لتقع مابين الرصيف والمترو وبصعوبة حاولت أختها مساعدتها لتكتشف في النهاية أن من قام بذلك هو سائق المترو الذي توجه بعد الحادثة إلي مقصورة القيادة.. يعني حاميها حراميها.. بالله عليكم هل هذا يليق.. لن أترحم علي نخوة الرجال.. ولن أدين أخلاقهم التي تتدهور يوما بعد آخر ابتداء من غض النظر وإدعاء اللامبالاة أمام سيدة أو فتاة تقف لفترات طويلة بينما هو ينعم بجلوس هادئ مفضلا النظر من النافذة في محاولة لوأد صوت ضميره ده إذا كان عنده ضمير أصلا.. فمنطق هؤلاء الذي أصبحنا نعرفه عن ظهر قلب »وانتو إيه اللي خرجكوا للشغل.. إشربوا بقي.. مش عايزين مساواة«.. عايزين ياسيدي مساواة وبناقص كرسي الأتوبيس.. لكن البجاحة لا تتوقف عند ذلك الحد فما يستفزني حقا هو رؤية سيدة حامل أو شيخ مسن أو عجوز تتألم ومع ذلك لا يحرك منظر أي منهم ساكنا في رجولة ونخوة هؤلاء المفقودة.. وغالبا ماتسرع فتاة أو سيدة لنجدة هؤلاء مهما تحملت من معاناة الوقوف وتستمد قوتها من تلك الدعوات التي يمطرونها بها وحرم منها »أخونا الشهم«. مازلنا نحتاج لثورة لتغيير ليس فقط حالتنا السياسية وإنما الأخلاقية.. الثورة ستظل مستمرة لأننا لم نتغير بعد: الكرامة الإنسانية مازالت مهدرة في الأتوبيس وفي الوطن كله مازال الشعب يريد إسقاط المتحرشين.. بكرامة النساء وبكرامة البلد أيضا.