أرسل الرسول [ مصعب بن عمير للمدينة يمهد للدين الجديد ويدعو أهلها للتوحيد بعد يقينه أن المشركين بمكة لن يكفوا عن بطشهم بالمستضعفين ظنا منهم أن التهكم والتنكيل والتعذيب التي يتعرضون له سيجعلهم يعودون عن إسلامهم مرتدين إلي دين آبائهم وزاد هذا العدوان كل من أسلم تمسكا بدين الحق وأخذت أعدادهم تتزايد. وقد أثمرت الغرسة بالمدينة جيلا فريدا.. أقام به الله دولة المسلمين.. كانت كبشة بنت رافع ذات أثر كبير في تاريخ نساء الإسلام ولها مواقف رائعة توجهتا من الأوائل فسارعت بالدخول في الإسلام وبايعت الرسول[ هي زوجة لمعاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل ولدت له سعد وعمرو واياس وأوسا وعقرب وأم حزام. روي ابن اسحاق أن سعد بن زراره خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بن الأشهل ودار بني ظفر فدخلا بئر مرق وجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال أسلموا وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني الأشهل ولازالا علي دينهما عندما سمعا قال سعد لاسيد انطلق لهذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما وذهب إليهما ووقف فوقهما متشمتا قائلا: ماذا جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة قال: مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره فركز حربته وقال أنصفت وقرأ عليه القرآن وفيما يذكر عنهما والله يعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم وقال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين.. قالا تغتسل وتطهر ثيابك ثم تشهد شهادة الحق وانصرف إلي سعد الذي ما أن رآه حتي قال: جاء أسيد بغير الوجه الذي ذهب به واخبر سعد أن بني حارثة قد خرجوا ليقتلوا أسعد بن زراره وأنهم لعرفوا كونه ابن خالتك فقام سعد وأخذ الحربة معه فلما رآهما ادرك أن أسيد اراده أن يسمع منهما ودخل الإيمان قلبه وانصرف إلي قومه الذين قالوا لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به ووقف علي قومه وقال: يابني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيا قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتي تؤمنوا بالله وبرسوله.. قالا: فوالله ما أمسي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا وأسلما وفي هذا اليوم أسلمت أم سعد بن معاذ ولامس الإيمان شغاف قلبها وأحست بالسعادة تملؤها زادت بعد أن أصبحت دارها مقرا للدعوة الإسلامية.. كان وقتها قد اشتد إيذاء المشركين لأصحاب الحبيب وأذن لهم بالهجرة للمدينة خوفا من اشتداد الإيذاء عليهم ولكي لا يفتنوا في دينهم نزل المهاجرون الأول في رحاب الأنصار الذين استقبلوهم وحافظوا عليهم حتي قدم الرسول المدينة وكان الاستقبال والفرحة برؤية الرسول[ التي كانوا جميعا في اشتياق لها. دور الانصار خير تسابقت ديار الأنصار لخدمة الحبيب وتمنت أم سعد من أعماقها أن ينزل النبي[ في بيتها لتسعد به في الدارين الدنيا والآخرة واختار الله للنبي صلوات الله عليه أن ينزل ببيت أبي أيوب الأنصاري وبدأ الخير يطفو من النساء الأنصاريات وفي مقدمتهن أم سعد ووقف النبي([) أمام تلك التضحيات ليعبر عن سعادته وتقديره لهؤلاء الأنصار الكرام فقال: (ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ دار بني ساعده وفي كل دور الأنصار خير. مواقف لأم السعد لايمكن أن تنسي أو تمحي فلقد كانت أول من بايع النبي من النساء وكانت تحمل أمانة الدين علي كتفيها وترجو وتتمني أن تقدم أي شيء لخدمة الدين حتي لو ضحت بأولادها ومالها ونفسها في سبيل هذا الدين ففي غزوة بدر دفعت بولديها سعد بن معاذ وأخيه عمر بن معاذ للجهاد في سبيل الله وكانت فرحتها كبيرة بهما وهي تقول لهما قاتلا قتال من يبحث عن الشهادة ونصر الله جند المسلمين وعادا ففرحت بهما أمهما أم سعد كبشة بن معاذ بنت رافع بن عبيد. ترافقوا في الجنة خرجت أم سعد مع من خرجن من النساء يوم غزوة أحد ينتظرن عودة رسول الله([) سالما بعد وصول أبناء عن استشهاد عدد من المسلمين ومن بين الشهداء ابنها عمرو وأقبلت تجري نحو أرضي المعركة لتطمئن علي رسول الله ([) وحمدت الله عندما رأته سالما وقالت: أما وقد رأيتك سالما فقد هانت المصيبة فعزاها الرسول ([) بابنها عمرو وقد استهشد من بني الأشهل في هذا اليوم أثنا عشر رجلا من صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقال لها الرسول ([) (أبشري يا أم سعد وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا وقد شفعوا في أهلهم جميعا) قالت : رضينا يا رسول الله أدع الله لمن خلفوا منهم فقال صلي الله عليه وسلم ( اللهم أذهب حزن قلوبهم وأجبر مصيبتهم وأحسن الخلف علي من خلفوا) وعندما نقض بني قريظة عهدهم مع الرسول في غزوة الخندق فأتاهم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء قيل لهم انزلوا علي حكم رسول الله([) فأشار عليهم أبو لبابة بن المنذر انزلوا علي حكم سعد بن معاذ وبعث الرسول ([) إليه فأتي فقال له الرسول([) أحكم فيهم قال: سعد أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذرابهم وتقسم أموالهم فقال رسول الله([) (لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله) وكان سعد كما قال محمود المصري في كتابه صحابيات حول الرسول عن ابن اسحاق أن أم سعد قالت له يوم الخندق أي بني قد أخرت فقلت لها يا أم سعد لوددت أن درع سعد كانت أسبع مما هي فرمي أبن العرقة سعد بسهم قطع منه الأكحل وقال: سعد عرق الله وجهك في النار اللهم أن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقني لها فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه اللهم إن كنت وصعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تتمني حتي تقر عيني من بني قريظة وقالت عائشة رضي الله عنها إن سعد عاد إلي قبته بعد أن كان قد حكم بحكم الله والرسول ([) فحضره الرسول مع أبي بكر وعمر فوالله الذي نفس محمد بيده إني لا أعرق بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي فقد كانوا رحماء بينهم ونزل في بني قريظة قول الله تعالي: (وانزل الذين ظهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتآسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله علي كل شيء قدير) الأحزاب 26 27.. ومات سعد وحزنت أم سعد علي موت ابنها حزنا شديدا وقد عصمها الله بإيمانها وعن ابن محمود بن لبيد قال: لما أصيب اكحل سعد فثقل حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة تداوي الجرحي فكان النبي ([) إذا مر يقول (كيف أصبحت وكيف أمسيت) فيخبره حتي كانت الليلة التي نقله قومه فيها وثقل فاحتملوه إلي بني الاشهل إلي منازلهم وجاء رسول الله ([) فقيل: انطلقوا به فخرج وخرجنا معه وأسرع حتي تقطعت شسوع نعالنا وسقطت أرديتنا فشكا ذلك إليه أصحابه فقال: إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة.. فأنته إلي البيت وهو يغسل وأمه تبكه وتقول ويل أم سعد سعدا حزامه وجدا فقال الرسول([) كل باكيه تكذب إلا أم أسعد) ثم خرج به وقال القوم ما حملنا يا رسول الله ميتا أخف علينا منه قال عليه الصلاة والسلام ما يمنع أن يخف وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم قد حملوه معكم. صبر واحتساب دخل الرسول([) علي سعد قبل موته فقال: (جزاك الله خيرا من سيد قوم فقد انجزت ما وعدته ولينجزنك الله ما وعدك) وقال بعد موته صلي الله عليه وسلم هاهو سعد بن معاذ يهتز لموته عرش الرحمن عز وجل.. وعن اسماء بنت يزيد بن السكن قالت: لما توفي سعد صاحت أمه فقال النبي ([) (ألا يرق دمعك ويذهب حزنك بأن ابنك أول من ضمك الله له واهتز له العرش) وعن جابر قال: خرجنا مع رسول الله يوما إلي سعد بن معاذ حين توفي ووضع في قبره وسوي عليه سبح رسول الله ثم كبر فكبرنا فقيل يا رسول الله لم سبحت ثم كبرت قال: (لقد تضايق علي هذا العبد قبره حتي فرجه الله عز وجل عنه).. وعن ابن عمر قال رسول الله ([) هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش وفتحت أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة لم ينزلوا إلي الأرض قبل ذلك لقد ضم ضلمة القبر ثم أفرج عنه) يعني سعدا فلما سمعت أم سعد كل هذا الخير الذي جيء لابنها كاد قلبها أن يطير فرحا باستشهاده وهي الأم الصابرة الراضية بقضاء الله وتحتسب ابنها الثاني راجية أن تفوز بثواب الصابرين ولقد قال صلي الله عليه وسلم (ما منكن امرأة تقدم بين يديها ثلاثة من ولدها إلا كانوا لها حجابا من النار قالت : امرأة واثنين قال: واثنين ثم قال صلي الله عليه وسلم (بخ بخ لخمس ما أثقلهن بالميزان : لا إله إلا الله وسبحان الله والحمدلله والله أكبر والولد الصالح يتوفي للمرء المسلم فيحتسبه). احتسبت أم سعد ولديها عند الله تعالي وهي من بذلت روحها ومالها وأولادها وكل ما تملك فداء لنصرة الدين والرسول ([) وبقيت علي عبادتها وطاعتها لله حتي رحلت وبقيت سيرتها العطرة وتضحياتها وصبرها واحتسابها نموذج يحتذي به للمرأة المسلمة التي أرضت الله فرضي الله عنها وأرضاها بمقابلة أحبابها في الجنة.