يبدو أن الديمقراطية الوليدة في مصر مازالت تعيش في سلسلة متصلة من الدوامات التي تركت آثارها علي الشعب المصري في صراع القوي والنخب السياسية الذي لم يتوقف علي مدي عام ونصف العام بعد ثورة يناير، فبعد أن اقترب الشعب من الخطوة الأخيرة في انتقال السلطة إلي رئيس منتخب جرت في النهر مياه كثيرة أصابت المصريين يما يشبه الصدمة التي لم يفق الكثيرون منها حتي هذه اللحظة! خارطة الطريق التي تم رسمها من خلال استفتاء مارس من العام الماضي تحولت إلي لوغاريتمات وألغاز بفضل العبقريات التي ظهرت فجأة علي السطح والتف أصحابها حول من يدير شئون البلاد من خلال تفسيراتهم الفذة، فكانت الطامة الكبري حين تمت عدة تعديلات علي الإعلان الدستوري أسهمت في حالة الفوضي الشاملة التي أوصلتنا في النهاية للمشهد الحالي، كما أسهمت الفضائيات التي ابتلينا بها طوال هذه الفترة في تعكير حياتنا ليلا ونهارا، فزادت من قتامة المشهد رغم نقاط الإضاءة التي لايمكن إنكارها كالانتخابات البرلمانية التي شهد بنزاهتها العالم والشعور بالحرية لدي كافة المصريين، وإن تحول بعضها عند البعض وهو ليس بالقليل إلي فوضي شهدتها كافة مناطق مصر والحوادث الدامية التي ارتكبها ما أطلق عليه بالطرف الثالث أو اللهو الخفي الذي غالبا ما أطل علينا كلما اقتربنا خطوة من أي استحقاق سياسي! لكن ماحدث خلال الأيام القليلة الماضية أصاب المصريين بما يشبه الصدمة ، فبعد انتهاء الأزمة الكبيرة بين البرلمان والحكومة طفت علي السطح أزمة البرلمان والقضاء بعد حكم القاضي أحمد رفعت في قضية مبارك ونجليه والعادلي وأعوانه بداية الشهر الحالي، وحالة الغضب المتصاعد في الشارع تجاه الأحكام خاصة التي تتعلق بمساعدي العادلي وتبرئتهم من قتل الثوار، وسبقها وتلاها أحكام متوالية من المحاكم باختلاف درجاتها علي الضباط بالبراءة ، وبعد تعليق نواب الشعب وغيرهم علي هذه الأحكام خرج علينا المستشار أحمد الزند بتصريحات نارية كان هدفها كما قال الدفاع عن هيبة القضاء والقضاة، ولكنه وجه اتهامات وانتقادات حادة لتيار بعينه مما أحدث شرخا عميقا بين سلطتي القضاء والتشريع خاصة عندما أعلن رفض تنفيذ أي قوانين تصدر من البرلمان، وبدا في الأفق أن ثمة أجواء وفصولا ساخنة قادمة في العلاقة بين الطرفين مع اقتراب النظر في دستورية قانون العزل السياسي الذي استهدف أركان ورموز النظام القديم وكذلك دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب. ثم جاء قرار وزير العدل بمنح الضبطية القضائية للعسكريين ليزيد الامور اشتعالاً. وقبل 48 ساعة من انطلاق جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة كانت صدمة جديدة من سرعة النظر والفصل – علي عكس السوابق التاريخية للمحكمة الدستورية العليا في مثل هذه القضايا - في قانون العزل السياسي مع توقعات بعدم دستوريته، لكن الصدمة جاءت من عدم دستورية نظام انتخاب البرلمان المتعلق بالنظام الفردي، وبالتالي يصبح ثلث المجلس الحالي باطلا، ولكن التصريحات توالت أن البطلان وعدم الدستورية يمتد للبرلمان كله، ثم صدر قرار المشير طنطاوي بحل المجلس ومنع النواب من دخوله ، كل ذلك جري قبل وخلال جولة الإعادة مما ألقي بأجواء ضبابية وقاتمة علي المشهد السياسي برمته، وربما كانت له تأثيراته في الكتل التصويتية وتغيرها بعد الإحساس العام لدي الكثيرين بأن الفترة الانتقالية ستطول وربما العودة للبدايات بإعادة انتخابات البرلمان ووضع الدستور قبل ذلك وهو مايبدو عليه الحال خلال الفترة القادمة. وجاءت انتخابات الرئاسة في جولة الإعادة وسط هذه الأجواء المشحونة وحالات الاستقطاب الواسعة للكتل التصويتية من كل جانب وتحركات الحملات المختلفة لكسب الأصوات علي مساحة الجمهورية كلها، وكانت المنافسة تقوم علي أن كلا المرشحين في جولة الإعادة يمثل تيارا سياسيا أحدهما يمثل الماضي والآخر يمثل الثورة لكن الكتل التصويتية ذهبت مذاهب شتي. فكتلة (شفيق) تمثلت في كل أركان النظام القديم من أجهزة ارتبطت به واستفادت منه ومن ضاقوا بنتائج الثورة، وانضم إليهم كتلة كبيرة من الأقباط بسبب هواجس ومخاوف لديهم من التيار الإسلامي ومن غضبوا من ممارسات هذا التيار خلال الفترة الماضية ، بينما ضمت كتلة مرشح الثورة (مرسي) كل الغاضبين من النظام القديم وكافة أطياف التيار الإسلامي والكثير من شباب الثورة وحملات المرشحين الذين لم يحالفهم الحظ في الجولة الأولي للانتخابات وخرجوا من السباق، ثم انطلقت الانتخابات ومع قرب انتهائها فوجيء الجميع بصدور الإعلان الدستوري المكمل لتضاف صدمة جديدة لسابقاتها !! وهنا لابد من التوقف لمحاولة الفهم ونتساءل : إلي متي يصاب المشهد السياسي بمثل تلك التعقيدات وحرب الطعون التي تشهدها المحاكم والصراعات والارتباكات التي تشهدها الساحة السياسية علي فترات متقاربة، ألم يحصن الإعلان الدستوري من الطعن عليه، ألم يشارك قضاة المحكمة الدستورية في المناقشات التي جرت حول قانون انتخاب مجلس الشعب ، ولماذا مثل تلك السرعة في الفصل في دستورية انتخابات مجلس الشعب وفي مثل هذا التوقيت؟! وكذلك الإعلان الدستوري المكمل، ألا يعني ذلك أننا نعود للمربع صفر في المشهد السياسي، فالرئيس القادم سيأتي دون وجود برلمان أو دستور، وماهي الصلاحيات التي سيتمتع بها ليمارسها بحرية. المشهد برمته مرتبك وغامض ولا أحد يملك مفاتيح فهمه بصورة واضحة، ويحمل نذر خلافات وصراعات قادمة علي الطريق ونحن ندفع ثمن خلافات القوي والنخب السياسية علي ثمار لم تنضج بعد للثورة وتجربة ديمقراطية وليدة اعتراها الكثير من أوجه الخلل والتخبط والارتباك، ولا حل أمام الجميع الآن سوي الاصطفاف الوطني والابتعاد عن كل الأوجه السلبية التي شابت العملية الديمقراطية والتوقف عن حملات التخوين والإقصاء والتربص من أجل أن تنهض مصر من كبوتها ويرفع كل مصري رأسه من جديد.