أبواق النظام الفاسد، تضليل الرأي العام، الدعاية لمشروع توريث الوطن، فساد مالي وإداري، القضاء علي الكفاءات، التعاون مع الأجهزة الأمنية غير الوطنية.. تهم كثيرة تطارد الصحف القومية والعاملين فيها بعد الثورة، يضاف إليها حالة من التدني المهني وديون تقدر بالمليارات، وهزة مالية عنيفة في أعقاب الثورة وتداعياتها، مع حالة فوران بين العاملين بها تطالب بالحقوق الضائعة علي مدي عقود. كل هذا وأكثر يشكل ملامح أزمة الصحافة القومية، ناهيك عن دعاوي التفكيك والخصخصة وما تحمله من تهديدات، يقرؤها البعض علي أنها نوع من تصفية الحسابات من بعض التيارات. وعلينا بداية أن نقر بصحة معظم التهم المنسوبة إلينا كخطوة أولي نحو تغيير الأوضاع. علينا أن نقر أن صحفنا عملت بوقا لنظام الستينات الاشتراكي، ورقصت علي طبول الانفتاح في السبعينات، ووصلت إلي قمة الإسفاف في الحقبة المباركية. وعلينا أن نعترف أن صحفنا ضللت الرأي العام منذ تأميمها وحتي الآن. وأن زمرة من الصحفيين والقيادات الصحفية كانت جزءا من مخطط توريث الوطن. وأن حالة من الفساد المالي والإداري قد وصلت إلي حد التبجح قد سادت وخاصة في المؤسسات الكبري، أهدرت مئات الملايين من أموال الشعب وحقوق العاملين. وأن ثمن التمديد لقيادات الفساد قد دفع علي هيئة سيارات فارهة وساعات من الماس لمعظم أصحاب المناصب. وأن هذا حدث بالتزامن مع قتل روح الصحافة الشريفة، وإهدار متعمد للكفاءات. شاهدنا بأعيننا رؤساء تحرير يتلقون تعليمات تليفونية من أمن الدولة. كم من موضوعات أهدرت وكم من سبق تعطل من ضباط جهلاء أملوا علي أصحاب الرأي وتحكموا فيما يكتبون. ومن هنا فلا مفر من التغيير الآن وبسرعة. مللنا من الوقفات الاحتجاجية وأصبح من المسلم به أن مجلس العسكر لا يريد للصحافة أن تتحرر. لأنه يريدها لتؤدي نفس الدور الذي أدته لصالح من فوضهم لإدارة شئون البلاد. والحقيقة أن عبء المطالبة بالتغيير والتطهير قد وقع علي عاتق مجموعات لا تمثل الأغلبية. بينما وقف الأغلبية صامتين. الآن أصبحت المشاركة فريضة لأننا نتحدث عن الوجود في ظل ما يحاك لهذه الصحف. هذه الوقفة تهدف في المقام الأول إلي إنقاذ أصول الدولة وأموالها، والتي تقدر بالمليارات، كما تهدف إلي إحياء دور هذه الكيانات التي مثلت قلاعا لريادة مصر ونهضتها منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتي ما بعد منتصف القرن العشرين. فمهما كان رأينا في سياسات إدارات المؤسسات الصحفية القومية، ومهما كان موقفنا من أدائها الصحفي قبل الثورة وبعدها، إلا أننا لا يجب أن ننسي أننا في مجال الحديث عن ثروة مصرية مادية ومعنوية لا مثيل لها في المنطقة. نتحدث عن دار الهلال ودورها الثقافي العريق، أو عن الأهرام وريادتها وعملقتها، وعن أخبار اليوم وقيادتها لحركة التجديد الصحفي علي مستوي العالم العربي، وعن روزاليوسف وارتباطها بتاريخ الوطنية المصرية، وعن دار المعارف كصرح ثقافي، ناهيك عن أدوار مؤسسات أخري تمثل في مجموعها ثروة طائلة يملكها الشعب المصري، وطاقات هائلة يمكن الاستفادة منها، وتاريخا عريقا يحملنا مسئولية إجراء الجراحات الدقيقة لإنقاذ روح هذا الوطن. ففي كل واحد من إصدارات الصحافة القومية جزء من روح الوطن، وفي كل مكان عاش كتاب وأدباء وصحفيون عظام، ووطنيون بواسل. في كل جريدة أو مجلة خاض نفر من أبناء المهنة الشرفاء معارك التحرير والتنوير. وإذا كانت المؤسسات القومية قد جري تفريغها بشكل شبه تام من الكفاءات، ومن الكثير من مبادئ المهنة وأهدافها، فلا يجب أن ننسي أن هذا هو حال كل القطاعات. لقد عشنا حقبا من تجريف الوطن وإفقاره والقضاء علي روحه، كان علي الصحافة أن تصمد وتمنع، وقد فعلت قدر استطاعتها، لكن تعيين الموالين غير الأكفاء في مناصب القيادة لفترات طويلة كان كفيلا بانحدار وصل مداه في السنوات الأخيرة. ربما لا يعرف الكثيرون تفاصيل وأد المواهب والكفاءات بشكل منظم علي مدي عقود، ربما لا يعلمون سياسة ضخ نوعية بعينها من الصحفيين في شرايين المهنة أضرت بقيمة الصحافة، واحترامها وتصعيدهم ليموت أصحاب الكفاءة والمبادئ كمدا. ربما لا يعرف الكثيرون سياسات الحصار المادي والمهني التي مورست علي أجيال كاملة، ولا حالة الإحباط التي سيطرت علي أجيال تعلمت من عظماء المهنة، ولم يتح لها أن تورث ما تعلمته لأجيال تالية. هذه الأجيال التي وجدت نفسها منقطعة الصلة عن تاريخ وروح المهنة. وكما حدث للمصريين من التيه عن ماضيهم وهويتهم، وإلهائهم بلقمة العيش وإفقادهم الثقة في أنفسهم، حدث نفس الشيء مع الصحفيين. هناك أجيال كاملة حرمت من التحقق بعضهم وصل إلي سن المعاش وهو ما زال ذكري لموهبة مجهضة بفعل فاعل. حدث هذا في نفس الصحف والمجلات التي كانت في زمن مضي تطلق كل يوم نجوما من الشباب في العشرينات من أعمارهم أصبحوا من رموز الوطن وأساتذة المهنة. الآن يتحدثون عن إعادة هيكلة يتأنون فيها لتفصيل الأوضاع الجديدة علي مقاس النظام القادم، والبعض يريد إطلاق رصاصة الرحمة علي تاريخ وقيمة لا يمكن تعويضها. برغم كل شيء هناك داخل الصحف كفاءات، والدليل أن الصحف المستقلة يقودها من خرجوا من تلك المؤسسات، وفقط عندما منحوا الفرصة بعيدا عن الروتين ومعايير الأقدمية وسياسة قتل المواهب. وبرغم كل شيء ما زالت تملك أسماء يمكن البناء عليها إذا كنا جادين في إحداث تغيير حقيقي يراعي المهنية ومصلحة الوطن. لكن بدلا من أن يقوم الجنزوري رئيس وزراء مبارك بالمطالبة بمليارات متأخرة علي الصحف القومية، كان عليه أن يقوم بإسقاط ديون الصحف للدولة، لأن الدولة ورجالها هم سبب تلك الديون. يكفي أن نعرف أن كبار المسئولين في العصر البائد قد تقاضوا رشاوي من الصحف القومية تقدر بمئات الملايين من الجنيهات علي مدي السنوات الماضية تحت بند هدايا. وأن هذه الهدايا الباذخة كانت تعطي لمبارك وأفراد عائلته وحاشيته ولوزراء وشخصيات ينتمون إلي السلطات الثلاثة وأجهزة حيوية، وبعضهم مازال في مواقع حساسة. وربما هذا هو سبب عدم فتح الملفات بشكل واضح، رغم وجود ملفات لدي الجهاز المركزي للمحاسبات وبعضها متاح وتم الاطلاع عليه. كما أن هناك بلاغات مدعمة بالمستندات مقدمة لمكتب النائب العام. ولم يقف الفساد عند هذا الحد بل إن بعض المؤسسات الصحفية استخدمت كشركات لتسقيع الأراضي لصالح شخصيات نافذة منهم أبناء المخلوع، وبمساعدة قيادات صحفية وثيقة الصلة بأجهزة حساسة. ولا يعقل أنه بعد الإفساد المتعمد للصحافة القومية والذي شارك فيه الجميع أن تدفع هذه الصحف الفاتورة وحدها، ولا يعقل أنه بعد الامتهان الذي تعرضت له أن يتم التخلص منها والتنكر لها ناسين تاريخها ودورها وما يمكن أن تقوم به لو تم تطهيرها، والحقيقة أن خطيئة التلكؤ في تطهيرها بعد الثورة لهو إثم مضاعف، ومؤشر علي أن من يحكمون البلاد لا يريدون للوطن أن يجني أيا من مكاسب الثورة. الحقيقة أن مستقبل أي وطن مرهون بتحرير صحافتها، لأن الصحافة هي من تشير إلي مواطن الفساد، ولأنها تعبير عن نبض الوطن وأحلامه وتطلعاته. ولا نبالغ إذا قلنا إن تعطيل الصحافة عن دورها هو تعطيل لجهاز المناعة في جسد الوطن، وهو خيانة وتواطؤ مع كل الجراثيم التي ستهاجمه وتقضي عليه. نعلم أن مبارك قد فرغ حكمه والمحيطين به من معاني الوطنية. نعلم أن من حكموا ويحكمون لا يفكرون إلا في مصالحهم وامتيازاتهم وبدلات ولائهم وسبائكهم ومشروعاتهم. نعلم أن الكثير منهم قتل وعلي استعداد لقتل المزيد في التحرير أو محمد محمود أو استاد كرة القدم أو حتي في الحافلات والطرقات. لكن نعلم أيضا أننا نستطيع أن نحقق الكثير عندما نقرر ذلك. عندما نبدد مخاوفنا، عندما ننظر إلي مصلحة الوطن. إنه الوقت لتهب المهنة من سباتها الطويل. وهل هناك وقت بعد تلك الحافة التي وصلنا إليها؟ إننا علي وشك قوانين جديدة. ولا يمكن أن نأمل خيرا من قوانين تقترحها حكومة الجنزوري، ولا يمكن أن نأمل خيرا من قوانين يضعها من وصفتهم الصحف القومية بالمحظورين والإرهابيين وشنت ضدهم الحملات مدفوعة من أمن الدولة في معظم الحالات ومن قناعة وفكر ورأي في بعض الحالات. وأخيرا فإن أداء نقابة الصحفيين لا يناسب تلك المرحلة ولا يتناسب مع النبض الثوري. ومن هنا علي جموع الصحفيين. من شاركوا في الثورة أو ساندوها، أو لديهم غيرة علي المهنة، أو حتي يخشون من أن تضيع مؤسساتهم. المسئولية تقع علي عاتقنا جميعا. والثقة كل الثقة أننا نستطيع، فقط إذا اجتمعنا سويا، إذا اتفقنا علي أننا نريد قوانين جديدة تضمن استقلال المهنة، تضمن ألا نعمل بعد اليوم لحساب حاكم أو نظام، وتضمن أن يكون المعيار للعمل وللقيادة هو الكفاءة. تضمن أن نعمل بأساليب الإدارة الحديثة، وأن نحسن كفاءة الصحفيين وأن نزيد دخولهم لنضمن تفرغهم، وأن نعود من جديد لدورنا. الصحف القومية بحاجة إلي إعادة تسويق إصداراتها ومطابعها وخدمات التوزيع بها. الصحف القومية بحاجة إلي إعادة تسويق أسمائها العريقة إلي أجيال جديدة مختلفة وسيظهر اختلافها باطراد. نحن علي أبواب ثورة اجتماعية يجب أن نكون علي الأقل مواكبين لها. من حق الأجيال القادمة أن نشرع في ابتكار صحافتها من الآن. ومن حقنا أن يكون لنا وجود وحضور مع جيل فتح عينيه علي خلع الفرعون، وهتف ضد حكم العسكر، جيل يقول ما يريد، ضحي ومستعد للتضحية، جيل يرسم في الشوارع ويهتف ويعتصم ويضرب. باختصار سنكون خلال سنوات قليلة أمام شعب مختلف. نوعية مختلفة من القراء. لديهم وسائل اتصالهم، لديهم لغتهم. لا يمكن فرض الأمر الواقع عليهم. وهم الجيل الأفضل في تاريخ مصر. الجيل الأشجع والأكثر شرفا وكرامة. كما أن التكنولوجيا تضع تحديات كبيرة أمام الصحافة الورقية. لذلك فإن الدخول إلي عالم الصحافة الإلكترونية والبث التليفزيوني الفضائي بالتوازي مع الجرائد والمجلات بعد تطويرها لهو أمر محتم. ولن نخترع العجلة. التجارب من حولنا في الغرب والشرق. وعلي قدر ما نعتز بتاريخ صحفنا وقيمتها المعنوية علي قدر ما يتحتم علينا العمل بقوانين السوق. حسابات المكسب والخسارة وفنون الإدارة. التحديث وتنمية الموارد البشرية. إعادة النظر في التوجهات والسياسات التحريرية، إعادة التعرف علي الجمهور المستهدف لكل إصدار والتغيرات التي طرأت. تحديث المطابع وخدمات التوزيع والدعاية غير التقليدية وغيرها. إنها تحديات جسيمة تواجهنا وخوضها ليس اختيارا بل هي في الحقيقة معركة وجود. نكون أو لا نكون. نتطور أو ننقرض. لا خيار لدينا الآن. هذه المعركة فرضت علينا. من أجل هذا فإنني أدعو الزملاء المهتمين من كل الإصدارات القومية، ومن شيوخ المهنة غير الملوثة أسماؤهم بالتبعية لنظام مبارك، ندعوهم لتكوين كيان يضم إليه قانونيين وأساتذة إعلام لبلورة رؤية موحدة حول إعادة هيكلة الصحف القومية. من اجل قانون يعيد للصحف استقلالها، ويضمن لها المهنية وفي نفس الوقت العمل بقوانين السوق واعتماد مبدأ الكفاءة. وليكن مؤتمرا عاما لاستطلاع كل وجهات النظر ولتكن مجموعة مختارة تقوم بوضع قانون. وسوف يكون هذا مفيدا في جميع الأحوال. فعلي الأقل ستتضح المبادئ والنقاط الجوهرية التي علي أساسها يسهل الاعتراض علي أي بنود معوقة تدس علي القانون المرتقب، فهل تفاجئنا نقابة الصحفيين وتنتبه لأهم قضايا الصحافة والصحفيين؟ إنها لحظة فارقة في تاريخ الصحافة المصرية. لحظة تحتاج لأن ننحي الخلافات. وأن تتكاتف كل الأجيال لتقرير مصير عملاق الصحافة المريض المثخن بالطعنات. يطالب البعض بإطلاق رصاصة الرحمة، ونقول إنها ستكون رصاصة الخيانة. هذه الكيانات يمكن إنقاذها بل وأن تعود إلي مجدها خلال عدة سنوات. فقط إذا صدقت النوايا، واتحدت العزائم. فهل من مجيب؟