أجمل الأفلام وأقواها تأثيراً، تلك التي تثير لدي المشاهد شهية التساؤل، ولاتمنحه الإجابات القاطعة، فالأفلام ليست مثل مقررات الكيمياء والفيزياء ، تتضمن حقائق ثابتة، ومعادلات لاسبيل لمناقشتها، ولكنها تداعب الخيال وتوقظ مراكز التفكير والاجتهاد لدي المتلقي، وفيلم"الجزيرة المنشطرة" أو shutter island من تلك النوعية التي ترفع معدلات الاجتهاد ، وتثير التساؤلات! الفيلم من إخراج أحد عباقرة فن السينما المعاصرين"مارتن سكورسيزي" الذي يفاجأ جمهوره من حين لآخر، بعمل فني خارج كل التوقعات، حيث لاتستطيع أن تتكهن بمضمونه، حتي لو كنت تعرف "الحكاية " التي يطرحها، فالأفلام عند سكورسيزي ، لاتعتمد علي الحواديت والحكايات، بقدر ماتعتمد علي طريقة السرد السينمائي باستخدام، كافة الوسائل البصرية والسمعية! فيلم "الجزيرة المنشطرة" ، بدأ عرضه في أمريكا منذ أسبوعين، وقفز إلي قمة الايرادات، وهو من بطولة ليوناردو دي كابريو، وبن كينجسلي، والممثل السويدي النابغة "ماكس فون سيدو"، وأحداث الفيلم مأخوذة عن رواية "لدينيس ليهان" تحمل نفس الاسم ، وضع لها السيناريو" ليتا كلوجريدس"، ويمكن أن تقرأ تعليقات عشرات المشاهدين الذين تابعوا أحداث الفيلم من خلال موقع imdb السينمائي، وسوف تكتشف تبايناً شاسعاً في تفسير الأحداث ، وخاصة نقطة النهاية! مع اتفاقهم علي أن الفيلم واحد من أهم الأفلام التي قدمها سكورسيزي ، في السنوات الأخيرة! يبدو الفيلم من بدايته، وكأنه أحد أفلام الرعب، الجو العام يوحي بذلك، في عام 1954يذهب المارشال تيدي دانيال" ليوناردو دي كابريو" إلي جزيرة منعزلة مقام عليها مستشفي خاص لعلاج المساجين المصابين بأمراض عقلية، الجزيرة يصعب اختراقها أو الهرب منها، ومحاطة بكوردون أمني ، يجعل التفكير في الهرب فكرة عبثية لايمكن أن تتحقق، أما أسباب ذهاب المارشال "تيدي دانييل"لتلك الجزيرة، فهو التحقيق في سر اختفاء امراة، كانت تقضي فترة عقوبة، بعد أن قامت بقتل أطفالها الثلاثة، وإغراقهم بعد ذلك، مما أدي الي إصابتها بالجنون، ومن ثم إيداعها هذا المستشفي المقام علي الجزيرة، بمجرد وصول المارشال تيدي دانييل، مع زميله" تشاك أوول "، يستشعر أن المكان مليء بالأسرار والغموض، ويبدأ في استجواب طبيب المستشفي بن كينجسلي، ومديرها المستشار الألماني "ماكس فون سيدو"، ولكنه لايصل الي شيء، فيقرر أن يستجوب المرضي، وبقية العاملين في المستشفي، ويبحث في غرفة المريضة الهاربة، ويتأكد من استحالة هروبها، ولكنه أثناء ذلك ، يتعرض الي كوابيس مخيفة، تمنحنا القدرة علي الدخول الي عالمه الخاص، وقراءة تاريخه الإنساني الذي كنا نجهله، حيث كان أحد جنود الحرب العالمية، وشارك في قتل المئات، بأعصاب باردة، مما منحه درجة ملحوظة من العنف، تظهر في سلوكه وطريقته في استجواب المرضي والعاملين في المستشفي، ويظل أسيرا لكابوس يطارده، في صورة شبح زوجته السابقة التي تدخل عليه في أي مكان يتواجد فيه، ويبادرها بسؤال لماذا أنت مبتلة هكذا، فتخبره مرة أن الأمطار تهطل في الخارج، ومرة بأنها سقطت في البحيرة، ولكن سؤاله يظل يتردد كلما التقاها في كوابيسه، وتسوء حالته النفسية ، وخاصة عندما تتعرض الجزيرة لإعصار شديد ، يعزلها عن العالم الخارجي، بعد أن تعطلت كل وسائل الاتصال، ويبدو أن طبيب المستشفي ومديرها متورطان في أمر ما، ثم يتضح أن المريضة الهاربة كانت طوال الوقت موجودة علي الجزيرة وأنها لم تهرب، وتتحول الأحداث الي البحث في سر غموض المارشال دانييل نفسه، حيث يساورك الشك أنه يتخيل كل تلك الأحداث، وأنه يعاني من مرض نفسي ، يكاد يصل به الي الجنون، وقد تكون تلك الرحلة الي الجزيرة، لم تحدث إلا في عقله هو فقط، وقد يكون تم استدراجه للجزيرة ، وأن زميله هو المكلف باصطحابه إليها، ليضعه في المستشفي التي هرب منها سابقا، بدليل أن عند دخوله للمرة الأولي يقابله بعض المرضي "المجانين "بابتسامة وكأنهم يعرفونه من قبل!! ومن خلال تكرار الكابوس ، تظهر زوجته السابقة التي كانت حب عمره، وهي تقف أمام البحيرة وتبدو ملابسها مبتلة، ويعيد عليها "ليونارد دي كابريو "السؤال لماذا أنت مبتلة هكذا؟ ثم يقفز هذه المرة إلي السؤال التالي ، ونظراته تحمل قدراً هائلاً من التوجس والريبة ، وأين أطفالنا ؟؟ ماذا فعلت بهم ؟؟ وينظر للبحيرة، فيجد أطفاله الثلاثة جثثا غارقة ، فيصاب بحالة من الذعر وينشطر قلبه، يهرع اليهم محاولاً نجدتهم فيتأكد أنهم موتي ، ومن بين دموعه وقلبه يعتصر ألما يطلق الرصاص علي زوجته ويرديها قتيلة ؟؟
سوف تفتك بك الاسئلة ، ولن تصل إلي تفسير حاسم ، فكل الأحتمالات واردة، هل أحال وأسقط المارشال جريمته البشعة علي زوجته حتي يريح ضميره؟؟ هل تعرض المارشال إلي مؤامرة من مدير المستشفي الألماني والطبيب النفسي النابغة؟؟ فقاما بتعريضه لعملية غسيل مخ، لعقابه علي جرائم الحرب التي اقترفها، هل زميله مشارك في المؤامرة عليه؟؟ كل الاحتمالات واردة، وهو أحد أهم اسباب روعة هذا الفيلم، التي سوف تحتم عليك مشاهدته أكثر من مرة، لمتابعة تفاصيله ، فقد تجد في إحداها إجابة علي أسئلتك الحائرة، ولكن من قال إننا نشاهد الأفلام لنجد إجابات ، ونصل الي يقين ؟؟ يكفي هذا القدر الهائل من المتعة التي تحصل عليها من متابعة الفيلم، الذي يذكرني بحالة الحيرة التي تركها فيلم "إشراق " shininig للمخرج ستانلي كوبريك ، في نفسي وبالأسئلة التي بقيت حائرة وبلا إجابة قاطعة حتي الآن. سكورسيزي يقدم فيلماً ممتعاً حقا مستخدماً طاقما من الممثلين العباقرة علي رأسهم بن كينجسلي، وماكس فون سيدو ودي كابريو الذي بلغ درجة ملحوظة من النضج والإبداع ، ولم يعد هذا الشاب "الحليوة" الذي كان عليه في "تيتانك" بل أصبح ممثلاً يخشاه كبار نجوم فن التمثيل في العالم ! مستخدماً الإضاءة ودرجات الرمادي والأخضر، وغموض الجزيرة ومايحيط بها من غابات كثيفة الأشجار، وديكورات عنابر المرضي ، والموسيقي الموحية، وتلال جثث الموتي ، وقد تجمدت بفعل الثلوج ، يضعك المخرج في قلب الأحداث، ويتركك مع حيرتك في محاولة حل الألغاز، التي سوف تخرج منها برسم تاريخ لشخصية المارشال تيدي دانييل، من خلال كوابيسه وهواجسه ! فيلم الجزيرة المنشطرة هو الفيلم الرابع في تاريخ التعاون السينمائي بين المخرج "مارتن سكورسيزي" وليوناردو دي كابريو الذي بدأمع فيلم "عصابات نيويورك" في عام 2002ثم "الملاح" أو الطيار في عام 2004والرحيل أو departed في عام 2006 وسوف يستمر مع فيلم "صعود تيودور روزفلت" المشروع السينمائي القادم لسكورسيزي !وفي خطته أيضا فيلم عن حياة المطرب الأمريكي الأسطورة "فرانك سيناترا" الذي لعب دوراً بارزا في الحياة الفنية والسياسية في أمريكا في سنوات الخمسينيات وارتبط اسمه بالمافيا العالمية ، واستمر في الغناء حتي بلوغه الثمانين من عمره ومات في عام 1998.