إذا ذكرت القدس ذكر الشعر، جاءت سيرة محمود درويش ونزار قباني وأحمد مطر ومظفر النواب ومئات الأدباء والمبدعين الذين تغنوا بالمدينة المقدسة في دواوينهم ورواياتهم. عندما يبدأ الشاعر العربي الكتابة فإن قصيدته الأولي تكون حول القدس، ذلك لأنها المدينة الملهمة التي تهدي المبدعين الدهشة، المدينة الممغنطة التي تجذبهم إليها فيلتصقون في أحضان معانيها، المدينة التي تعلمهم فن النظم والسرد وتزرع في نفوسهم المقاومة والسلام. د.أبو الفضل بدران الأمين العام السابق للمجلس الأعلي للثقافة يشير إلي أن معظم الشعراء تحدثوا في قصائدهم عن القدس والواقع العربي بل إن بعضهم أوقف معظم شعره علي القضية الفلسطينية فقط، وهنالك شعراء حولوا القضية الفلسطينية إلي مقدمة طلالية لمعظم قصائدهم. بل إن القصائد الغزلية حولت فلسطينالقدس إلي محبوبة يتغزل فيها باعتبارها رمزا للحلم والحرية ومقاومة المحتل. ولو نظرنا إلي أغلب إنتاج محمود درويش وسميح القاسم سنلمح ذلك بسهولة، وكذلك في الجانب السياسي في شعر نزار قباني وهاشم رشيد. ويضيف أستاذ الأدب العربي بجامعة جنوب الوادي: إن القضية الفلسطينية منذ 48 وحتي الآن هي القضية الأولي والجوهرية المحورية في الأدب، ليس فقط علي مستوي الشعر ولكن أيضا في الجانب السردي ولا سيما الرواية وفي أدب المهجر نلاحظ أن القضية تحتل الجانب الأكبر والأبرز، ومن خلال الأدب الفلسطيني أو القضية الفلسطينية أو القدس اتجه الشعراء إلي محاكاة الشعوب والولاة كما رأينا في قصائد مظفر.. وتحولت القضية إلي تيمة تعجن في جميع كلمات وقصائد وروايات الأدباء. ويكشف د. حسام عقل أستاذ الأدب والنقد بكلية التربية بجامعة عين شمس أنه كان قريبا من الأدب الفلسطيني بحكم تعاون كلية التربية وجامعة الأقصي في نظام الأسرات المشترك للرسائل العلمية بين الجامعتين. ويقول: "مكنني الأمر من الاطلاع علي الإبداع السردي والشعري الجديد، وبالنظر للمسألة وجدت أن أفضل من عبر عن قضية القدس هم الأدباء الفلسطينيون بوصفهم الأكثر فهما ودراية بلعبة التوازنات وبحقيقة القضية". ونستطيع تطبيق تلك القاعدة علي المنجز الشعري لمحمود درويش وسميح القاسم ولا ننسي عز الدين المناصرة وهؤلاء الثلاثة من أفضل من كتبوا عن الوطنيات والعروبيات والمقدسيات وبعض قصائد المناصرة تحديدا تحولت إلي أناشيد، وكانت تغني منذ السبعينيات وحتي الآن. ويتابع: لا يجب أن ننسي الرائع غسان كنفاني خصوصا في بعض الأعمال غير المشهورة التي أثار فيها القضية المقدسية، وهو ممن تحدثوا عن القدس والمسجد الأقصي بدرجة عالية من الفهم والوعي والتنوع الطائفي، فهو يري أن القضية لا تخص المسلمين والمسيحيين وحدهم بل تخص كل صاحب قضية، وهنا نتذكر صيحة الثلاثة الذين حبسوا داخل الشاحنة في نهاية رواية رجال تحت الشمس عندما قال لهم السائق أبو الخيزران لماذا لم تثقبوا الجدار وقنعتم بالموت داخل الشاحنة، وهي عبارة رمزية فلماذا لم نحطم الحدود والجدران لنصل بالقضية إلي كل قرية وكفر ونجع. وفي دول الخليج وخاصة سلطنة عمان بإمكاننا العثور علي تجارب سردية رائعة عن القدس، ففي نادي القصة في مسقط وجدت أن معظم النصوص التي تلقي شفاهيا ثلاثة أرباعها تدور حول قضية القدس والمسجد الأقصي وهو ما يعني أنها تمثل انشغالا فكريا واجتماعيا ووطنيا لدي المبدعين في الخليج بشكل عام. ولا يجب أن نغفل الأدب الجزائري فمعظم ما كتبه المبدعون الجزائريون مثل واسيني الأعرج أو أحلام مستغانمي أو كاتب ياسين، وتيارات الأدب الجزائري بموجاته المتلاحقة تعرض لقضية القدس ويمكننا أن نقول إن الإعلام الجزائري من أكثر أشكال الميديا العربية حفاوة بالقضية الفلسطينية وإفرادا مساحة للحديث عنها في السنوات الأخيرة. أما في المغرب فإن القدس نشطة في الحركة الأدبية فما كتبه الكاتب المسرحي الكبير عبد السلام لحيادي كان يدور أيضا حول القدس والقضية الفلسطينية، وكذلك الشاعرة ابتسام حسني لا يخلو ديوان لها من الحديث عن القضية الفلسطينية، حتي الأكاديميين مثل د. خديجة وادي ود.خديجة مدني عدوي، معظم ما كتبوه من أبحاث أكاديمية تدور حول نفس القضية. إضافة إلي أن معظم ما يكتب من أدب مقال أو فن مقالات في الحركات الادبية في السودان يتمحور حول القدس وهو ما يعني أن القضية الفلسطينية محورية وحاضرة في الأدب العربي. ولكننا لا يجب أن نغض النظر علي أننا نعاني من مشكلة كبيرة في مصر فمنذ السبعينيات نشأ تيار انعزالي في الحركة الثقافية، وهذا التيار يتشكك في كل ما له صلة بالقضية الفلسطينية، فبدأ يحدث فجوة بيننا وبين القضية الفلسطينية وتطوراتها، ووصل الأمر إلي قمته بتصريحات يوسف زيدان الأخيرة بأنه لا يوجد ما يسمي بالقدس، علي العكس الإبداع العربي الذي يسخر أدواته لخدمة الدفاع عن القدس. ولدينا أيضا مشكلة حقيقية في التعريف بالأدباء الفلسطينيين، ويتساءل د. عقل: مَن مِن الأجيال الجديدة يقرأ الآن للشعراء والأدباء الفلسطينيين؟ يجب علينا هدم أسوار العزلة والتكريس لإنهاء هذا النوع من التطبيع، خاصة أن الأدب العبري بدأ في الانتشار خلال العشر سنوات الماضية مثل أدب عاموس عوز وغيره من الأدباء العبريين. وفي أحدث رسالة ماجستير حول القدس في الأدب العبري ذكرت الباحثة لمياء عصام أن القدس في الأدب الإسرائيلي وردت في صورتين: إيجابية من خلال تمجيدها والتغزل فيها، والأخري سلبية من خلال السخط عليها ووصفها بأبشع الصور. هي عند بعض الشعراء الأرض والوطن والأم والحبيبة والملاذ الآمن، وهي الماضي العتيق والحاضر الجميل والمستقبل المزهر. ونجدها عند شعراء آخرين مكانا موحشا لا يحمل سوي الألم والحسرة لهم، وهي الوجه المُظلم لحياتهم والسبب في اغترابهم واكتئابهم. وقالت إن الشاعر العبري يهودا عميحاي الذي تم ترشيحه عدة مرات لجائزة نوبل لديه كلتا الصورتين المتناقضتين في قصائده. ورغم أن عميحاي سمي بشاعر القدس، ولكن عند سؤاله عن سر هذه التسمية وما إذا كان عشقه قويًا للقدس أم لا؟ أجاب "إن ذلك ليس صحيحًا، بل إنني لستُ سعيدًا إلي حد ما بحياتي في القدس." وفي قصيدة له بعنوان "في جبال يصفها بأنها القدس بأنها لا تحمل له سوي الذكري والحسرة، ولم تُخلف وراءها سوي أسماء قتلي الحروب من الإسرائيليين الذين لم يجنوا سوي الموت، حتي تلك الأسماء التي يجب أن تُكرَّم وفقًا لرؤيته أصبحت بلا أهمية وأنه أصبح لا يوجد بالقدس سوي الجبال والأطلال والجروح العميقة، حتي الإنسان أصبح مجرد بِرَك مياه منتشرة في كل مكان"، فيقول: لأن في هذه الجبال الصيف والشتاء فقط مهمين فقط اليابس والرطب: وأيضاً البشر ليسوا سوي برَك مياه منتشرة في كل مكان، كالآبار وكالجبال وكمنابع المياه الجوفية. وهذه النظرة التشاؤمية تؤكد حالة الاغتراب المكاني لدي الشاعر، وعدم انتمائه لهذا المكان. وبالنظر إلي وقت كتابة هذه القصيدة نجده كتبها في عام 1979م، فقد كان لحرب أكتوبر 1973م دورًا كبيرًا في تلك الحالة الانهزامية.