كانت إذا وُجدت في أي مكان تملأ الدنيا فرحا ومرحا وسعادة.. لكن الواقع كان غير ذلك.. كان مليئا بالحزن والألم والدموع.. حين بدأت أكتب مذكراتها كانت أيام شتاء.. وكانت شادية تكره وقت الغروب وهو الوقت الذي كنت ألتقي فيه بها.. فتقوم بإسدال الستائر لكي لا تري جو الشتاء الكئيب.. ومن تحت البطانية أجلس أمامها وهي تروي لي ظروف حياتها ومآسيها.. يضفي علي هذا الجو الدرامي صوت الناي الحزين المنبعث من عازف الناي الذي يجلس علي النيل نوعا من الحزن والشجن. فشلت شادية في زواجها ثلاث مرات.. وكانت أمنية حياتها أن تصبح أما.. وأن يرزقها الله بطفل.. لكن القدر لم يشأ.. وفقدت شادية أعز حلم في حياتها. ووسط هذا الضباب الكثيف والشعور بالفشل ظهر في حياتها فريد الأطرش، وكان الحب الكبير في حياتها.. لكن هذا الحب وصل إلي طريق مسدود بسبب »الشلة» التي كانت تسهر عنده يوميا والكرم الزائد عنده الذي كان من الصعب أن يتنازل عنه. حين جاءت أول فرصة عمل معه ورشحني المخرج يوسف شاهين للمشاركة في بطولة فيلم »ودعت حبك» اكتشفت أنه إنسان آخر غير الذي كنت أعرفه من قبل.. إنه إنسان طيب وحنون جدا وكريم إلي أبعد الحدود.. إن قلبه طيب كقلب طفل.. كما اكتشفت أيضا أنه خفيف الظل علي عكس ما كان يُشاع عنه.. أشياء بسيطة تفرحه أما النقد القاسي فكان يبكيه.. ووجدته مثالا للرجل »الچينتلمان» الذي يعامل المرأة باحترام.. أحببت فريد الأطرش.. وكانت ذكريات رائعة تلك التي قضيتها معه.. لم يكن يكدرها سوي غيرته التي كان يشعلها في قلبه بعض المقربين له من الذين لاحظوا انشغاله بي عنهم.. أمضيت معه أياما حلوة مرحة.. لكنها كانت حياة مرهقة قلقة غير مستقرة من الصعب أن يغيرها.. حياة مليئة بالسهر والأصدقاء والكرم الزائد الذي لا ينتهي.. كان يريد الناس باستمرار من حوله.. الاستقرار بالنسبة له شيء صعب.. أما بالنسبة لي فهو شيء ضروري.. وبدأت أشعر أن حياتنا لا يمكن أن تستمر بهذه الصورة.. وقررت الهروب منه بحثا عن الاستقرار.. ظننت أن ارتباطي برجل آخر هو الحل الوحيد.. لذلك تزوجت عزيز فتحي.. وكان هذا القرار المتسرع أكبر خطأ ارتكبته في حياتي.. أمضيت عشرة أشهر زواجا منها خمسة شهور في المحاكم وطلبني في بيت الطاعة. • رغم فارق السن بينهما تزوجت شادية عماد حمدي »فتي الشاشة الأول» وأمضت معه أربعة أعوام ذاقت فيها حلاوة الحياة ومرارتها كما تقول: »إنه مثال للرجل الذي ترتاح إليه المرأة وتشعر إلي جانبه بالاطمئنان.. كنت أتمني أن أنجب أطفالا في ذلك الوقت لكني لاأزال صغيرة ولابد أن أهتم أولا بعملي رغم حبي الشديد للأطفال ومشاعر الأمومة القوية في داخلي. لكن الغيرة القاتلة بدأت تهدد حياتنا، فعماد أصبح يغضب بسرعة كلما شاهدني أتحدث مع شخص آخر.. إنني بطبيعتي إنسانة أحب المرح والضحك وهو بطبيعته إنسان جاد ووقور. إن فارق السن بيننا كان له دوره في فشل هذا الزواج.. وبدأت الخلافات تدب وتصل إلي صفحات الجرائد والمجلات.. وأصبحنا في حالة توتر.. ووجدنا أن الانفصال بالطلاق هو الحل.. وافترقنا.
النجاح في العمل ليس هو كل شيء بالنسبة للمرأة.. إنها مهما نجحت في عملها وحتي لو وصلت إلي منصب المديرة أو الوزيرة فهي تشعر أن هذا النجاح لا قيمة له إذا لم تكن قد أنجبت أطفالا.. الأمومة أعظم شيء في حياة المرأة بل هي حياتها كلها. إن الرجل قد يجد نفسه في نجاحه، في عمله.. لكن المرأة لا تجد نفسها إلا في تجربة الأمومة.. وهذا الشعور بالنقص لن يزول إلا يوم أن تصبح أما مثل كل الأمهات وأنجبت طفلة جميلة أو طفلا وديعا تعطيه حبها ووقتها بل وحياتها نفسها.. أمنية تحققها كل يوم عشرات الأمهات.. لكن حياتي غير المستقرة حرمتني من هذه الأمنية. وتجري سنوات العمر بسرعة وأشعر بالفزع عندما أتصور نفسي وصلت إلي سن الأربعين أو الخمسين دون أن يكون لي طفل أو طفلة يملؤون عليّ بيتي وحياتي.. لقد حققت كممثلة نجاحا لم أكن أحلم به.. لكن من هو الرجل الذي سأنجب منه طفلي وأعرف معه معني حياة الاستقرار.
رن جرس التليفون: آلو أنا صلاح ذوالفقار.. فتذكرته إنه ذلك الشاب الذي قدمه شقيقه المخرج عز الدين ذوالفقار في فيلم »عيون سهرانة» وهو يريد أن أشاركه بطولة فيلم »أغلي من حياتي».. كان صلاح يعمل بصدق وإحساس لدرجة أنني أحسست أنها تكاد أن تكون قصة حياته.. وحرّكت المناظر الخارجية التي اختارها شقيقه المخرج محمود ذوالفقار في مرسي مطروح أحاسيسي علي النحو السريع لهذا الحب في قلبي وقلب صلاح.. وعادت إلينا مشاعر المراهقة وأصبحنا نجري ونمرح ونتصرف كالمراهقين.. إن دور صلاح ذوالفقار في فيلم »أغلي من حياتي» ليس فقط هو الذي جعلنا نعيش كزوجين في بيت واحد مع الاستقرار.. بل هو أيضا الذي ارتفع باسم صلاح ذوالفقار إلي مصاف كبار النجوم. كان النظام من أهم مميزات صلاح.. لقد تعوّد النظام الدقيق في عمله كضابط بوليس.. وبدأ ينظم لي حياتي المرتبكة.. فتولي مهمة الضرائب التي كانت من أكبر مشاكلي.. لكن كان الصوت العالي من أبرز عيوبه.. فقد كنت أستيقظ فزعة بسبب صوته الغاضب وشجاره مع الطباخ. كانت فرصة للإنجاب بعد أن قدمت (150فيلما).. من حقي أن أستريح قليلا وأن أهتم بحياتي الخاصة بعد هذه الرحلة الفنية الطويلة الشاقة.. وبدأت أنفذ هذا القرار بدقة عندما بدأت أشعر بحركة الجنين في أحشائي.. شعور جديد لم أعرفه من قبل يستولي علي قلبي وكل أحاسيسي.. ونمت علي ظهري كما أمر الطبيب سبعة أشهر عن طيب خاطر وأنا أحلم بالطفل.. ولم يعد باقيا سوي شهرين.. وبدأت أعد الأيام الذي سيخرج فيه الجنين إلي الوجود.. ومع منتصف الليل شعرت فجأة بآلام مبرحة ونقلوني بسرعة إلي المستشفي.. فغبت عن وعيي.. لم أشعر بشيء.. وعندما أفقت كان بطني ساكنا هادئا لا حركة فيه.. وكدت أصرخ لكن الذهول قيّد لساني.. ما هذا الكابوس المزعج. لم أفق من ذهولي إلا في اليوم التالي عندما عدت إلي البيت وتمددت فوق السرير والحزن يعتصر قلبي ومن حولي صلاح وأختي وبقية الأهل.. وبكيت كما لم أبكِ من قبل.. في نفس الوقت سمعت صوت الناي.. ولكن صوته اليوم حزين وهو يعزف »واحشني وانت قصاد عيني».. فمع هذا الصوت كنت سأدلل طفلي.. وانفجرت مرة أخري بالبكاء.. وكأن عازف الناي شعر بمأساتي فتوقف عن العزف مع غروب الشمس الذي أحسست فيه بغروب الأمل.
مر وقت طويل قبل أن أتماسك وأعاود حياتي العادية وبدأت أنشغل بمجموعة من الأفلام الكوميدية التي كانت بدايتها الناجحة »مراتي مدير عام» و»الزوجة 13» و»عفريت مراتي» و»كرامة زوجتي».. رد فعل طبيعي للحالة التي انتابتني.. كنا نؤدي معا أنا وصلاح دور الزوجين في البيت وعلي الشاشة أيضا.. واستطعنا بذلك أن نتعرض لمشاكل المرأة العاملة وهي مشاكل جديدة علي الشاشة. وكان فطين عبدالوهاب.. رحمه الله.. مخرج هذه السلسلة الكوميدية من الأفلام الناجحة.. كان بالنسبة لي صديقا عزيزا يحاول في كل وقت أن يرفِّه عني بضحكاته لينقلني إلي جو مرح بعيدا عن أحزاني.. ذلك الفنان الساخر الطيب صاحب القلب الكبير الذي يتسع لكل آلام البشر.. بل هو نوع نادر من الرجال الذين التقيت بهم في حياتي.. إن البعض يقولون إن الصداقة بين رجل وامرأة أصبحت شيئا مستحيلا في هذا الزمان.. الصداقة المخلصة البعيدة عن الأغراض والمنزهة عن الأخطاء.. فدائما نسمع أن الرجل والمرأة لا يجتمعان إلا إذا كان الشيطان ثالثهما.. لكني أقول لهؤلاء الذين يتصورون الصداقة بين الرجل والمرأة نادرة الوجود.. أقول لهم »إن فطين عبدالوهاب كان ذلك الصديق الوفي والرجل الذي يحترم المرأة دون غرض شخصي.. وتطورت صداقتنا من خلال العمل.. وبمرور الوقت تفاهمنا وتقاربنا أكثر.. كان يفهم بسرعة مذهلة ما يدور في عقلي قبل أن أنطق به.. وينفذ لي ما أريده قبل أن أطلبه.. كان يشعر بأحاسيسي الداخلية دون أن أشكو.. يعرف إذا ما كنت حزينة أو سعيدة أن العمل معه متعة شديدة.. وذلك بالرغم من أنه كان يعاني من أشياء كثيرة أخفاها في صدره منها انفصاله عن زوجته ليلي مراد وكانت حالته النفسية سيئة وأيضا حالته الصحية.. وكان وقتها يخرج فيلم »أضواء المدينة».. كنا نتألم ونحاول أن نخفي عنه دموعنا وأشفاقنا عليه.. وكان لابد أن يتأثر الفيلم بذلك كله.. لكن فطين ظل يعمل حتي آخر يوم في حياته.. وبعد رحيله كنت أتحاشي أن أمشي في شارع عدلي الذي كان يعيش فيه.. رحل فطين عبدالوهاب.. لكن تظل أفلامه تعيش في ذاكرتنا ووجداننا.
من أجمل ما قالته لي شادية: »الشموع تنطفئ بعد أن تضيء للناس طريق الحياة». تصادف أننا أنا وهي من مواليد برج الدلو.. وربما نتمتع بنفس الصفات.. فبرج الدلو هو برج العطاء وأصحابه هم الذين يعطون بسخاء ولا يأخذون شيئا.. »لقد أعطيت الكثير ولم آخذ شيئا.. ولكن تبقي من الإنسان الذكري. لقد حان وقت الاعتزال.. وسأترك الأضواء قبل أن تتركني»..
لن أنسي أبدا يوم ذهبت لأؤدي واجب العزاء لشادية في وفاة شقيقها الذي كان كتوأم لها.. الذي توفي متأثرا بمرض السرطان.. لكني لم أجدها بالمنزل وقالوا لي إنها ذهبت إلي المسرح.. ذهبت شادية لتؤدي دورها »ريا» في هذه المسرحية الناجحة »ريا وسكينة» التي شاركها فيها سهير البابلي.. ومدبولي.. وأحمد بدير.. كم يعاني الفنان الملتزم بالمسئولية.. فما ذنب الجمهور الذي ينتظرها بشوق.. فحتي (حرية الحزن) والبكاء لا يستطيع أن يتمتع بها.. وذهبت إلي المسرح لأشاهدها وهي تقدم البهجة والسعادة لجمهورها بينما قلبها يدمي بالبكاء.