أخيرا.. وبعد انتهاء نظام حكم اتسم بالقهر والظلم والتخلف واستمر 24 عاما تمكن أبناء الشعب الليبي الشقيق من إسقاط نظام الطاغية معمر القذافي الذي أذاق الليبيين كل أنواع الذل والمهانة وحجم دور ليبيا في مجتمعها العربي والإقليمي والدولي وحال بينها وبين التقدم والتطور ومواكبة مسيرة الدول المتقدمة والاندماج في المجتمع الدولي بل وأهدر ثرواتها وقدراتها الطبيعية والبشرية وسخرها لأهوائه ونزواته ومغامراته السياسية والعسكرية الطائشة غير المحسوبة وخاصة بعد أن توهم أنه خليفة عبدالناصر في المنطقة. إنها بكل تأكيد مرحلة دموية قاسية تلك التي عاشتها ليبيا وشعبها طوال الأشهر الثمانية الماضية أي بعد اندلاع ثورته يوم 71فبراير الماضي والتي خاضها بكل الجرأة والشجاعة والإصرار علي الصمود حتي النصر.. هذه الثورة المجيدة التي سقط خلالها أكثر من 05 ألف شهيد و07 ألف جريح سالت دماؤهم الطاهرة علي الأرض الليبية لتروي أشجار الحرية وتبني مستقبلا أفضل لهذا الشعب المناضل ينعم خلاله بالحرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان التي حرم منها طوال أربعة عقود من الزمان. وهكذا طويت صفحة سوداء من تاريخ الشعب الليبي المناضل لتبدأ مرحلة جديدة مليئة بالآمال والطموحات.. كما أنها مليئة بالتحديات.. غير أن هذا الشعب الذي صنع معجزة النصر علي الظلم والقهر قادر بإصرار بإرادته القوية علي بناء دولة ليبيا الجديدة دولة مدنية حديثة تقوم علي العدل وسيادة القانون حتي ينعم شعبها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحتي تأخذ ليبيا موقعها اللائق بها وبتاريخها وقدراتها في مجتمعها الإقليمي والدولي.. ولعل من أهم التحديات التي ستواجه ليبيا خلال الأيام القادمة هو تحقيق الأمن والاستقرار حتي تتمكن من الانطلاق نحو بناء الدولة العصرية الجديدة علي أسس قوية وقواعد سليمة تراعي مصالح وأهداف كل فئات الشعب وتؤكد أيضا مصلحة الوطن العليا.. ولأن القذافي ترك ليبيا كيانا هشا بدون هيئات مدنية أو مؤسسات دستورية اللهم إلا كتابه الأخضر الذي تصور بغبائه أنه سيحكم به العالم كله فإنه سيتحتم علي القيادة الليبية الجديدة ضرورة البدء فورا في إنشاء مؤسسات الدولة وفي مقدمتها حكومة انتقالية قوية تضم كافة طوائف الشعب الليبي، إعداد دستور حديث ينظم قواعد العمل السياسي، إنشاء جيش قوي وأجهزة أمن فاعلة قادرة علي حماية الأمن الداخلي وأمن المواطنين وإنشاء هيئات قضائية بكل مستوياتها لإرساء قواعد الأمن والعدالة وإني علي يقين أن مصر بما لديها من كفاءات وقدرات هائلة ومتطورة في كل هذه المجالات يمكن أن تلعب دورا هاما في بناء وتطوير أجهزة الحكم الليبية.. خبراء وأساتذة القانون الدستوري المصريون الذين ساهموا في إعداد العديد من الدساتير العربية والإفريقية بل والدستور التركي يمكن أن يلعبوا دورا بارزا في إنشاء الدستور الليبي الجديد طبقا لمتطلبات ليبيا الحديثة وتماشيا مع النظم الدستورية في أرقي الدول الديمقراطية وخاصة تلك التي تربطها بليبيا علاقات تاريخية قوية مثل إيطاليا وفرنسا وأسبانيا واليونان.. وكذلك القوات المسلحة المصرية بمالها من تاريخ طويل في العسكرية المتطورة مشهود لها علي المستوي الدولي منذ جيش محمد علي مرورا بانتصارات أكتوبر المجيدة يمكن أن تلعب دورا كبيرا في إعداد وتكوين الجيش الليبي القادر علي حماية حدود البلاد وكذلك فيما يتعلق بأجهزة الأمن الداخلي وجهاز الحكم المحلي. الحقيقة أن العلاقات المصرية الليبية كان يجب أن تكون أفضل من ذلك بكثير في ضوء العلاقات التاريخية الجيدة التي تربط بين الشعبين المصري والليبي وعلاقات الجوار والحدود المشتركة والتي كان يمكن أن تقيم تكاملا اقتصاديا متكاملا ونموذجيا بين البلدين بحكم ثراء وتنوع الثروات في كلا البلدين. والحقيقة أنه لولا السياسات الحمقاء والمتقلبة والتصرفات قصيرة العمر لمن كان يطلق علي نفسه »ملك الملوك« وأنه بحكم ثروات ليبيا النفطية الهائلة يمكن له أن يتزعم ويقود الأمة العربية خاصة مصر لكانت الأمور بين البلدين أفضل من ذلك بكثير لما فيه صالح الشعبين المصري والليبي بل والأمة العربية والإفريقية.. وعندما لم يتمكن من السيطرة علي توجهات الأمة العربية أدار لها ظهره وتوجه إلي القارة الإفريقية لكي يجد نفسه ويشفي غروره هناك وتمكن من خلال رشوة بعض قادتها أن تكون له السيطرة لحين. ولقد رحبت مصر الثورة منذ البداية بثورة فبراير الليبية وأعلنت عن دعمها الأدبي والمادي والفني لها وتم تبادل الزيارات علي مستوي كبار المسئولين والخبراء والفنيين وأعربت القيادة السياسية والشعبية المصرية استعدادها لتقديم كافة المساعدات والدعم لدولة وشعب ليبيا الشقيق.. ولنا أن نتذكر بعض تصرفاته الحمقاء وضحالة فكره السياسي عندما أصدر تعليماته بشأن المسيرة الخضراء إلي مصر لكي يضع القيادة المصرية في مأزق ولكن موقف الرئيس الراحل أنور السادات كان حازما وقاطعا وإعلانه أنه لن يسمح لهذه المسيرة بعبور الحدود المصرية ثم كانت واقعة إسقاط طائرة لوكيربي التي أدت إلي تأزم الموقف الليبي تجاه العالم الغربي وهو ما اضطره في النهاية إلي دفع تعويضات باهظة لأهالي الضحايا البريطانيين من دم الشعب الليبي بالإضافة إلي إصراره علي أن يفرش خيمته في كل العواصم التي يزورها وحوله حرس من السيدات الليبيات غير أن أخطر التحديات التي ستواجهها ليبيا في المرحلة القادمة هي كميات الأسلحة الهائلة في أيدي المواطنين الليبيين والتي ستؤدي إلي زعزعة الأمن بل وربما نشوب حرب أهلية أو علي الأقل معارك مسلحة بين مختلف الطوائف والجماعات خاصة وأن العقيد كان قد جعل من ليبيا ترسانة أسلحة وبالرغم من أنني لست مثل البعض الذين يطالبون بعدم تواجد قوات الحلفاء علي الأرض الليبية ذلك أن المجلس الانتقالي الليبي رفض من البداية وحتي أثناء المعارك دخول قوات برية من قوات التحالف إلي الأراضي وتم الاكتفاء بالقصف الجوي لمواقع كتائب القذافي تدعيما لقوات الثوار إلا أنه ينبغي فورا وقف الطلعات الجوية بعد أن تم القضاء نهائيا علي نظام حكم القذافي وكتائبه المسلحة كما أنه ينبغي فورا رفع الحظر الجوي الذي كان مفروضا علي الأجواء والمياه الإقليمية الليبية. وختاما تهنئة حارة وقلبية لكل أبناء الشعب الليبي بنجاح الثورة وشروق عصر جديد لدولة ليبيا الشقيق لتنضم فيه إلي مصاف الدول الديمقراطية الحديثة ولتكون سندا ودعما لأمتها العربية وعزاء عميق لكل أسر الشهداء الذين ضحوا بدمائهم فداء لوطنهم إن إسقاط الطاغية ونظامه الملعون كان شيئا صعبا وقاسيا ولكن الأصعب هو أن يعبر الشعب الليبي المرحلة القادمة بسلام ونجاح ويبني بلدا جديدا متطورا يسوده العدل وسيادة القانون ومبادئ حقوق الإنسان والقيم العربية النبيلة بعيدا عن روح الانتقام ومشاعر التشفي.