يتسم المشهد السياسي الفلسطيني بالسعي الحثيث وراء الهدف لكن غالبا دون جدوي، فبعد أكثر من عقدين من المفاوضات المتقطعة ما زال حلم الدولة بعيد المنال فضلا عن تقدم سن القيادات الفلسطينية واعتلال صحة بعضهم. وخلال الشهور القليلة الماضية دخل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي سيبلغ الثالثة والثمانين من العمر في مارس المقبل، المستشفي لإجراء فحوص طبية كما تلقي العلاج في الخارج، ويواجه الرجل احتجاجات داخلية غير مسبوقة إضافة لصورة قاتمة علي المستوي الدولي، فبعد وعود، أطلقها في سبتمبر 2015، بإجراء إصلاحات تضخ دماء جديدة في أروقة السلطة وأجهزتها، وانعقاد المجلس الوطني التشريعي (البرلمان)، لم يحدث شيء من ذلك. تعليقاً علي الوضع الراهن يقول دبلوماسي غربي، فضل عدم ذكر اسمه، لصحيفة لوموند الفرنسية: »يبدو أننا بصدد اضمحلال متسارع». ولصحيفة لوموند الفرنسية أيضاً يقول هاني المصري، مدير مركز مسارات للدراسات السياسية بالضفة الغربية،: »أبو مازن رجل مُنهك، لم يعد قادراً علي تنفيذ كل ما يريد.. والخلافات تزداد حدة يومياً في أوساط فتح بخصوص من يخلفه»، فضلاً عن ذلك فهناك حالة احتقان تجاه الرجل في الإعلام كما في الجامعات الفلسطينية، حيث هناك مراقبون من السلطة يحذفون أي مادة تحريرية تنتقده، ورجال أمن غلاظ يتصدون لأي مظاهرة شبابية تندلع ضده، ويوضح هاني المصري: »في ديسمبر الماضي قمعت السلطة بشكل عنيف مظاهرتين في شمال رام الله بالقرب من مستوطنة بيت إيل، حيث تقع مواجهات معتادة ضد جنود الاحتلال ورداَ علي ذلك قاطع غالبية أعضاء اللجنة المركزية في فتح الاحتفال السنوي الذي تُقيمه السلطة الفلسطينية في الأول من يناير من كل عام». أما صائب عريقات كبير المفاوضين في عملية السلام فإنه يصغر عباس بعشرين عاماً ويحب رياضة الجري لكنه يعاني من التليف الرئوي ويحتاج إلي زرع رئة. ويقول مساعدون لعباس إنه ما زال قويا أما من يعملون مع عريقات فيصفونه بأنه يعمل بلا كلل حتي وهو يستخدم اسطوانة أكسجين لمساعدته في التنفس. وفي رسالة بالبريد الإلكتروني رفض عريقات مناقشة حالته الصحية بالتفصيل ووصفها بأنها مسألة خاصة. وقال »أود أن يظل الأمر كذلك». وأثار تقدم سن اثنين من أبرز القيادات الفلسطينية علي الساحة العالمية واحتياج أحدهما لجراحة لإنقاذ حياته تساؤلات في كل من إسرائيل والأراضي المحتلة حول ما قد يحدث مستقبلا. ومن الأسئلة الشائكة: من سيتحمل المسؤولية في حال غياب الرئيس الذي يتولي السلطة علي مدي 12 عاما وكبير مفاوضيه عن المشهد السياسي؟ وما هي مخاطر اندلاع صراع داخلي مسلح في ظل الخلافات الحادة بين حركة فتح التي يتزعمها عباس وحركة حماس التي تسيطر علي قطاع غزة؟ يري معظم المراقبين للشؤون الفلسطينية أن احتمال اندلاع صراع شامل بين حركتي فتح وحماس بعيد خاصة أن إسرائيل، التي تبقي غزة تحت حصار محكم وتحتل الضفة الغربية والقدس الشرقية، لها مصلحة في منع اندلاع هذا الصراع. في الوقت نفسه، رغم هيمنة عباس علي المشهد منذ وفاة ياسر عرفات في 2004 إلا أن الفلسطينيين لديهم هياكل سياسية تسمح بإيجاد بديل بل إن عدة أسماء طرحت بالفعل في هذا الصدد. وقال خليل الشقاقي مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية »في الوقت الراهن لا يوجد أي مؤشر علي أن الأمور تتجه صوب العنف» رغم أن الأرض مهيأة لذلك. وأضاف »العامل الأهم هو أن الانقسام بين فتح وحماس، رغم أنه مثير للإحباط، إلا أنه يبدد الثقة بينهما ويجعل من الصعب عليهما العمل معا لشن هجمات عنيفة». وإضافة إلي ذلك فإن قوات الأمن الفلسطينية تنسق مع القوات الإسرائيلية الأمن الضفة الغربية بشكل يومي رغم معارضة المدنيين. ولذلك تبدو احتمالات اندلاع أعمال عنف واسعة النطاق، سواء داخلية أو موجهة نحو إسرائيل محدودة. وقد يكون الباعث الأكبر علي القلق هو كيفية إدارة أي عملية انتقال للسلطة وما إذا كان ذلك سيتم بسلاسة. فراغ في السلطة يقول جرانت روملي وهو باحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن وشارك في كتابة سيرة عباس »الوضع مهيأ لفراغ في السلطة». وأضاف »إذا احتشد الفلسطينيون خلف شخصية واحدة فأعتقد أن هناك فرصة لانتقال سلمي لكن هذه الفرصة تتضاءل شيئاً فشيئاً مع مضي الوقت». ويحكم عباس قبضته علي السلطة منذ انتخابه لولاية مدتها أربع سنوات عام 2005. ولم تجر انتخابات الرئاسة منذ ذلك الحين. وغادر معارضون، مثل محمد دحلان رئيس جهاز الأمن الوقائي السابق في غزة، إلي المنفي. بالنسبة لعباس تعتبر حماس بفكرها الإسلامي المتشدد عدوا مثلها مثل إسرائيل. ورغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يرفض علنا الاعتراف بعباس شريكاً للسلام، فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تحب قبضته القوية وحقيقة أنه يفضل المقاومة السلمية علي العنف. وللدائرة المقربة من عباس المرشحة لخلافته نفس المنظور. وقال ناثان ثرال وهو محلل كبير بمجموعة إدارة الأزمات الدولية »كل المرشحين الرئيسيين لخلافة عباس يشاركونه برنامجه السياسي.. احتمال أن يدعم أحد خلفائه المقاومة المسلحة أو يدعو لها ضئيل للغاية». وفي الوقت الراهن هناك اسمان يترددان في أغلب الأحيان لخلافة عباس وهما ماجد فرج (55 عاماً) رئيس جهاز المخابرات الذي كثيراً ما ينضم إلي عريقات في المفاوضات ومحمود العالول (67 عاماً) النائب الأول لعباس في فتح ومحافظ نابلس الأسبق. وفي الشوارع غالباً ما يتحدث الجمهور عن مروان البرغوثي (59 سنة)، الذي يقضي خمس عقوبات بالسجن مدي الحياة في سجن إسرائيلي بتهم القتل، كزعيم في المستقبل ويحتل مراكز متقدمة في استطلاعات الرأي. ولكن من غير المرجح علي الإطلاق أن يُفرج عنه ويقول الفلسطينيون أنفسهم إنه إذا تم الإفراج عنه فمن المحتمل ألا يتمتع بذات الشعبية. وبدلاً من ذلك فإن التوقعات هي أن يبرز المحيطون بعباس وحزبه ويحافظوا علي مساره وهو ما تريده إسرائيل. وقال ثرال »وجهة النظر الرئيسية في إسرائيل هي إعطاء الأولوية للاستقرار.. أي تغيير للحرس في الضفة الغربية تراه تل أبيب تهديداً». انقسام من النقاط التي تثير انقساماً في أوساط السلطة وعلي المستوي الشعبي، مسألة التعاون الأمني مع إسرائيل، الضامن الوحيد للهدوء النسبي في الضفة الغربية، وطبقاً لتصريحات رسمية لماجد فراج مدير مخابرات السلطة، فإن جهازه أحبط 200 هجوم ضد الإسرائيليين خلال 4 أشهر. هذا الوضع لم يعد مقبولاً علي الصعيد الشعبي لا سيما في أوساط الشباب، فمنذ اندلاع موجة العنف الحالية في الأول من أكتوبر 2015، قُتل 172 من الجانب الفلسطيني، مقابل 32 إسرائيلياً، وحاولت السلطة الزواج من هذا الغضب الشعبي في بدايته حتي تمكنت من السيطرة عليه كي تضمن ألا يتحول ضدها لاحقاً. في فتح نفسها يخشي عدد من كوادر الحركة العيش في قطيعة مع الشارع.. المعارض مصطفي البرغوثي المرشح السابق لانتخابات الرئاسة يري أن فتح تواجه » عاصفة عاتية.. كثيرون يؤيدون فكرة أننا نعيش انتفاضة ثالثة ستستمر لأنه لا بديل لها، حتي وإن كانت تشهد مراحل من الهدوء»، وطبقاً لآخر دراسة أجراها المركز الفلسطيني للدراسات والأبحاث السياسية، فإن 65٪ من الفلسطينيين يتمنون استقالة الرئيس أبو مازن ويؤيدون الهجمات بالسكاكين علي الإسرائيليين. الاضطراب في الأوساط السياسية يعود لنظام الحكم الغامض الذي ينفرد به الرئيس عباس، وإلي أطماع لم تعد خفية لخلافته، وأبرز المتنافسين علي شغل منصبه المعارض الأول محمد دحلان الذي يعيش في المنفي، وجبريل الرجوب رئيس اتحاد كرة القدم وعضو اللجنة المركزية بفتح والذي يُطلق من وقت لآخر تصريحات عدائية ضد الرئيس عباس، وفي آخر مقابلة تلفزيونية قال الرجوب بانفعال لكاميرا التلفزيون الرسمي: »عملية السلام انهارت.. ما هو البديل؟ لا شيء نفعله سوي الخوض في جدال عقيم: علاقتنا بحماس، وأهمية انعقاد المجلس التشريعي، وضرورة تطبيق قرارات اللجنة المركزية لفتح». بعد إشاعات متكررة عن حالته الصحية وعن قرب انهيار السلطة الفلسطينية، وهو ما ناقش مجلس الأمن الإسرائيلي تبعاته علي الدولة العبرية حال حدوثه، تكلم الرئيس عباس مستبعداً احتمالية حدوث ذلك، كما استبعد إعادة كل مفاتيح الضفة الغربية لتل أبيب حال حدوث فراغ سياسي فلسطيني من أي نوع، علي اعتبار أن ذلك سيكون انتحاراً سياسياً لرجل أمضي حياته في النضال من أجل دولة فلسطينية. في مناخ من الإحباط يحاول الرئيس الفلسطيني التحرك علي الصعيد الدولي، بعدما فقد الأمل في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وعن هذا النهج الخاص بتدويل الصراع يدافع ماجدي الخالدي المستشار الدبلوماسي للرئيس عباس بقوله: »يسعي الرئيس لوقف الاحتلال علي قاعدة المبادرة العربية في 2002، إنه يسعي لآلية شبيهة بنمط ال5+1 التي سوت أزمة الملف النووي الإيراني». أخيراً لم تعد السلطة تأمل في قرار من مجلس الأمن يفرض علي الاحتلال البدء في مفاوضات، بل كل ما يسعي إليه الرئيس عباس استصدار قرار يوفر حماية دولية للفلسطينيين وإدانة الاستيطان.