العمل عبادة .. عبارة نسمعها ليل نهار لكنها تغيب عنا في شهر رمضان الكريم، فرمضان كان ولا يزال هو شهر العمل والبطولات الإسلامية، لم يكن الشهر يوما عنوانا للكسل والبعد عن العمل، بل إن الصيام كان دافعا للاقتراب من الله بالعمل والعبادة فيجمع المؤمن بين الحسنيين. فالصيام صحة للجسد ويجعله أقدر علي ممارسة أعماله، في هذه السطور نبحث كيف نجعل من شهر الصوم قوة دفع للعمل والإنتاج والبعد عن التراخي والكسل. دكتور عبد الحميد الأطرش ، رئيس لجنة الفتوي الأسبق يقول : المولي عز وجل ذكر في كتابه العزيز "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم" وهذا دليل علي أن الصيام مصدر لصحة الأجسام ولم يثبت في يوم من الأيام أن الطعام والشراب هو المصدر للصحة ، ولو نظرنا إلي أحوال المرضي حين يذهبون للأطباء فيحدد لهم قدرا ونوعا معينا من الطعام والشراب فلو كانا مصدرا للصحة ما كان منعهما الطبيب عن المريض .. ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقول (صوموا تصحوا) ولم يثبت في يوم من الأيام أن العمل يعطل في رمضان وإنما شهر نشاط وعمل وكدح ولو نظرنا إلي سيرة النبي صلي الله عليه وسلم لوجدنا أن جميع غزواته كانت في رمضان وأن الإنتاج يزيد ولا يقل لأن الصائم أكثر قوة وحيوية ونشاطا والمعدة امتلأت نامت الفكرة ، لأن من كثر طعامه كثر شرابه فكثر نومه فمحيت بركة عمره. ويضيف من رحمة الله بعباده أن جعله فريضة علي القادر أما المريض والمسافر وأصحاب الأعمال الشاقة والمحاجر والمناجم أباح لهم الفطر لأنه يحافظ علي صحة المسلم أكثر من محافظة المسلم علي صحته، والعلة في هذا الأمر أن المريض وصاحب العمل الشاق لا يستطيع أن يتخلي عنه لأنه مصدر رزقه اليومي فأباح له القضاء في أيام العطلة وإذا كان مستمرا فعليه فدية من طعام مسكين (وعلي الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) بمعني الذين لا يقدرون .. ولم يطلب من عباده أن ينظروا إليه علي أنه شهر "نرفزة" وصعب كما ينظر بعض الناس لأن هذه صورة سيئة خلاف صورة المسلم الصائم مثل الوردة المتفتحة في بستان إذا نظر إليها من بعيد سره منظرها وجمالها وإذا وضع يده علي ورقها وجد ملمسا ناعما كالحرير إن سبه أحد أو قاتله يقول "اللهم إني صائم". مؤكدا أن الإنسان إذا التزم بمجاهدة النفس وترويح القلب لمضاعفة العمل والإنتاج يرتفع بدرجته إلي درجة أعلي من الملائكة لأن الملائكة لا يأكلون لا يشربون لا يتناكحون ولا يتناسلون لأنهم لا يخلقون بشهوة أما الإنسان حين يقاوم شهواته يرتفع لدرجة أعلي من الملائكة، أبعد الله إنسانا أدرك رمضان ولم يغفر له .. معني رمضان مأخوذ من الرمضاء أي الحجارة المحماة ويقصد بذلك أنه يمحو الذنوب أي يحرقها وكل هذا يؤكد أنه ليس شهرا للكسل ولا للأكل والشرب وإنما الأجر علي قدر المشقة وكلما جاع وعطش الإنسان وكد عمل يباعد بينه وبين النار سبعين خريفا فهو مصدر لقوة الأجسام والأبدان والأجر والثواب لن يؤخذ "ببلاش" . لابد أن يتحمل الإنسان فمن رحمة الله أن رمضان يمر علي فصول السنة الأربعة تاره في الصيف والخريف لأنه من حقه قسط من الراحة فلا مانع أن ينام في القيلولة "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" وإذا أخذ الإنسان جزءا من النهار في راحته فالله يطعمه ويسقيه إن أطال. دكتور مختار الشريف، خبير اقتصادي يقول قلة الإنتاج في مصر توجد بحكم القانون، ساعات العمل تقل في رمضان مواعيد الصباح تتأخر ساعتين ومواعيد الانصرف أيضا وبالتالي وقت الراحة يزداد، ويترتب عليه زيادة مساحة التسلية التي تبعد الناس عن النواحي الاقتصادية وتشغل البال عن العمل، ليس هذا فقط تكدس المواصلات قبل مواعيد الإفطار بساعتين والتكدس المروري والازدحام يعمل أيضا علي تقليل الإنتاج .. إذا تم ترجمة كل هذه الاستقصاءات لنفقات اقتصادية داخل بحوث سريعة لوجدنا أن الدولة تخسر بسبب قلة الإنتاج حوالي 22 مليار جنيه في شهر رمضان، وذلك بعد حساب عدد ساعات العمل التي أهدرت في رمضان وهي تساوي 120 ساعة ثم قسمت هذه الساعات علي قيمة الأجور التي تنفق علي 7 ملايين عامل في الدولة وهي 320 مليار جينه، وبذلك نكون قد حولنا شهر التقوي والإنتاج إلي شهر الإسراف والتسلية والخسائر المادية. دكتورة نجوي خليل أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، تري أن المسسئول الأول عن تغير الإنسان المصري هو عام 2000 وانطلاق بث الفضائيات والثورة التكنولوجية وانتشار التليفونات المحمولة التي اخترقت حتي الريف وعملت بشكل أساسي وواضح علي مضيعة وقت العمل حتي بدأنا نشاهد الآن ونحن نحضر المؤتمرات العلمية معظم الحضور يمسك تليفونه المحمول "يلعب ويلهو" منصرفا عن أشياء هامة يتم عرضها ولم ينتبه إلي تفاصيل جلسات العمل إلا حين يقوم لإلقاء كلمته ولكن للأسف دون أن يستمع إلي الآخر. الأمر الثاني هو أننا فقدنا قيمة احترام العمل فأصبحنا نشاهد طبيبا يخطئ وداعية يخطئ وإعلامياً ينقل معلومات خاطئة فالكل يسهر ولا ينام جيدا ويترتب عليه أنه أصبح لا يفكر جيدا ويعاني من الصداع وآلام الرأس الذي يتسبب في خلل داخل مخ الإنسان، وتؤكد أن العلاقات المفتوحة للأسف أظهرت أسوأ السلوكيات لأننا حولناها بتعاملاتنا من أداة جيدة إلي أداة سلبية. دكتور عبد الفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، يقول من الخطأ الذي شاع بين الناس في هذا المجتمع أن شهر الصيام شهر تراخ وكسل بدعوي أن الناس يجهدهم الصيام ولا يستطيعون أن يؤدوا نفس الأعمال التي كانوا يؤدونها قبله، ومن المعروف أن المسلمين في الزمن الأول ما كانوا يفرقون بين شهر الصيام وغيره من شهور السنة بل إذا استعرضنا الغزوات التي كانوا يقومون بها في الزمن الأول لوجدنا أكثرها كانت تتم في رمضان فإذا اجتمع غزو مع سفر وقطع مسافات مع شدة حرارة الجو علمنا مدي تجلد هؤلاء المسلمين في شهر الصيام وعزمهم علي الإتيان بالعزيمة في ذلك مهما كانت الصعاب والمشاق التي يلاقونها، مثلا غزوة الفتح في العام الثامن من الهجرة فإنها كانت في رمضان وقد خرج الصحابة مع رسول الله إلي أن قطعوا أكثر المسافة بين المدينةومكة وهم صائمون ولم يركبوا الدواب ومعظمهم يسير علي قدميه واشتد بهم الجوع والعطش من مشقة السفر حتي وصلوا إلي موضع قريب من مكة وهم صائمون فأشفق عليهم الصحابة مما بلغ بهم الجهد وشدة الحر ومشقة الصيام والسفر وقالوا نبلغ رسول الله صلي الله عليه وسلم بهذا الأمر..وقالوا إنك تري ما بلغ بأصحابك من الجهد وإنهم ما يفعلون شيئا إلا ما فعلته ولم يترخصوا بالفطر بعضهم رخص فأفطر وبعضهم ظل ممسكا بصيامه حتي نهاية اليوم وهذا دليل علي أن الصحابة لم يكونوا كسالي، والمجتمع في زماننا وكل مجتمع يتعلل بالصيام حتي لا عمي "مجتمع تافه" ولن يكون له رفعه ولا تقدم‘ إذا ما أضيف إلي هذه العلة سوء الأخلاق والبذاءة التي يلاقيها الناس من البعض متعللا بضيق الصدر من الصيام يتنافي مع ما شرع معه الصيام وهو الصبر وحسن الخلق في نفوس الناس، وهذا يعني أن مظاهر الصيام في أكثر فئات المجتمع تنعدم فيها حكمة الصيام التي شرع لأجلها، وأن سوء الخلق ونفاد الصبر والبذاءة في الكلام وعدم التخلق بأخلاق الإسلام هذه المعاصي تفسد الصيام وهذا يعني أن الذين لا يتخلقون بأخلاق الصيام (صيامهم فاسد) كما قال صلي الله عليه وسلم رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش وأخشي أن الذين لا يعملون ولا ينتجون ولا يتخلقون بأخلاق الصيام يكون صيامهم مجرد تعذيب لهم دون أن يكون مقبولا. ويضيف أن المجتمع للأسف يعيش عشوائية تنظيم وقته فإذا علمنا أنه بمجرد غروب الشمس يأتي سيلا من الأعمال الدرامية تظل أفراد الأسرة وتتحلق وسيلة البث إلي الساعات الأولي من طلوع الفجر وكل همها أن تنتقل من فضائية لأخري لتنتقي البرامج التي تحشد حشدا مقصود منه إلهاء الناس عن السباق الذي جعل في هذا الشهر إلي طاعة الله ومرضاته، ورب الأسرة وأفرادها يتحلقون الوسيلة الإعلامية علي هذا النحو طوال الليل فمعني هذا أن النهار لا عمل فيه بعد هذا الحشد الدرامي الليلي بألا يكون هناك عمل ألبتة في النهار، لكن لو نظموا أوقاتهم لكان في هذا الوقت بركة واستطاعوا أن يأتوا بعضهم البعض ويعبدوا الله ليل نهار ويخلصوا النية في أداء أعمالهم واستفاد المجتمع من مزاولتهم لأعمالهم المختلفة. لكن المنظومة الوقتية في شهر الصيام عشوائية لهذا ساعات العمل تكون ساعات نوم وراحة من اللهث طوال الليل خلف الفضائيات التي تعرض الدراما والبرامج المختلفة التي لا تدع أحدا يسترخي للنوم أو يؤدي واجبه ليلا أو نهارا، فينبغي أن ترشد هذه البرامج الدرامية التي تحشد في رمضان ولا تمنع لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم يدعو إلي الترويح عن النفس وقال (روحوا عن القلوب) فالقلوب إذا كلت عميت، وجهاز التليفزيون وسيلة من وسائل التثقيف والتعليم والمعرفة ولابد من وجوده في المنزل ولكن الطاعة في كيف نستفيد من وجود هذا الجهاز في البيت حتي لا يترتب عليه طغيان هذه البرامج علي حياة الناس في الليل والنهار، كما يجب أن تعيد الدولة تنظيم قوانين الإنتاج والعمل في رمضان حتي لا تعود بالخسران علي مسيرة اقتصادها وعلي مسيرة العمل في دواوينها.