حتي أسبوعين فقط مضيا، كانت النتيجة شبه المؤكدة لانتخابات الرئاسة الفرنسية، من خلال المؤشرات واستطلاعات الرأي، هي فوز المرشح فرانسوا فيون بالاستحقاق المقرر إجراؤه الربيع المقبل، فالرجل يميني محافظ يتبني خطاباً متشدداً ضد مهاجرين ضاق بهم غالبية الفرنسيين ذرعاً، وأمضي من حياته خمس سنوات رئيساً للوزراء في الفترة ما بين 2007 وحتي 2012 حقق خلالها شعبية لا بأس بها، كما أن نجمه سطع في فترة حكم الرئيس الاشتراكي الحالي فرانسوا أولاند الذي لم يعجب أداؤه كثيراً من الفرنسيين علي مدار السنوات الخمس المنقضية. غير أن صحيفة لو كانار إنشينيه قلبت الموازين بتفجير فضيحة مالية تتعلق بمنح فيون لزوجته مبلغ 900 ألف يورو من المال العام علي مدار 12 عاماً حينما كان نائباً بالبرلمان ثم رئيساً للوزراء، وذلك نظير أعمال أغلب الظن أنها لم تقم بها، هذا فضلاً عن منحه لاثنين من أولاده الخمسة، مبلغ 84 ألف يورو نظير أعمال مشابهة. ولأن المصائب لا تأتي فرادي فإن فيون برر للرأي العام ما فعله بقوله إن زوجته كانت تعمل كمساعدة له وكانت تراجع خطبه السياسية، ولكن صحيفة ديلي تليجراف البريطانية بثت مؤخراُ مقطع فيديو لمقابلة أجرتها مع بينيلوب زوجة فيون، وقالت خلالها إنها لم تعمل قط كمساعدة لزوجها. رغم كل ذلك فإن فيون قطع قول كل خطيب، بمؤتمر عقده الأسبوع الماضي، أكد فيه عزمه مواصلة استكمال السباق نحو الإليزيه، متجاهلاً أصوات كثيرين داخل حزبه الجمهوري تطالبه بالتنحي، لتصفه افتتاحية صحيفة لوموند ب»الراكب الإجباري»، لا سيما أنه من الصعب جداً أن يقوم حزب بتغيير مرشحه قبل أقل من ثلاثة أشهر من الانتخابات، وأقل من ثلاثة أسابيع علي إحالة أوراق المرشحين للمجلس الدستوري للتصديق عليها، لا سيما بعدما استند فيون إلي فوزه بالانتخابات التمهيدية داخل حزبه في نوفمبر الماضي مشيراً إلي أنه لا يوجد أي جهة بإمكانها تجريده من شرعيته. في معسكر الجبهة الوطنية حيث اليمين المتشدد، تبدو مرشحته وزعيمة الحزب مارين لوبان، علي خطي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إذ إن لوبان، البالغة من العمر 47 عاماً، استنسخت شعارات الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين بالتلويح ب» الأولوية لفرنسا»، علي غرار »أمريكا أولاً»، كما أنها تتبني نفس السياسات الحمائية، وغير عابئة ب70 عاماً أمضاها قادة القارة العجوز في بناء أوروبا الموحدة، وتتهكم لومند علي لوبان قائلة بإنه »لا شيء يبدو واضحاً من برنامجها الانتخابي سوي الإصرار علي الخروج من منظومة اليورو والعودة للفرنك كعملة محلية كحل لخفض معدلات البطالة ولغياب قدرة فرنسا علي التنافسية في كثير من القطاعات، ولإصلاح المنظومتين الزراعية والمدرسية، بينما تتجاهل السيدة لوبان أن 70٪ من حجم تجارتنا الخارجية يتحقق من خلال شركائنا الأوربيين»، فيما تري صحيفة لوفيجارو الفرنسية خلف هذا التلويح بهدم المنظومة الأوروبية أمورا أخري تؤجلها لوبان إلي حين، ولعل أبرزها العودة مرة أخري لتطبيق عقوبة الإعدام وربما عودة المقصلة. مزيد من السجون علي الصعيد الأمني اقترحت لوبان، فرض»القانون في كل التراب الفرنسي عبر تسليح مكثف لقوات الأمن» وتوظيف 15 ألف شرطي، وإعادة السيطرة علي »أحياء الضواحي التي تنتشر فيها العصابات الإجرامية» واعتقال نحو »5 آلاف منحرف». وتعهدت ببناء مزيد من السجون، وتطبيق سياسة صارمة فيما يخص العقوبات، إضافة إلي »طرد المجرمين الأجانب بشكل تلقائي لبلدانهم» وذلك عبر فرض اتفاقيات مع هذه الدول لكي يقضوا عقوبة السجن في موطنهم الأصلي. وبالنسبة للهجرة، فقد جعلت لوبان من هذا الملف أبرز أولوياتها، وتقترح في برنامجها الانتخابي »اعتبارالحصول علي أوراق الإقامة أمرا مستحيلا للمهاجرين غير الشرعيين»، وذلك عبر اعتماد سياسة »الطرد المباشر» لبلدانهم الأصلية، وإلغاء قانون يسمح للاجئين والمهاجرين غير الشرعيين بتلقي مساعدة طبية مجانية. كما تقترح لوبان خفض عدد المهاجرين سنويا إلي 10 آلاف فقط، وإلغاء بشكل نهائي سياسة »التجمع العائلي» بالنسبة للأجانب، وكذلك إلغاء ما يعرف ب »حق الأرض» الذي يخول لأبناء المهاجرين الذين يزدادون فوق التراب الفرنسي بالحصول علي الجنسية الفرنسية بشكل أوتوماتيكي. وفي برنامجه الانتخابي ركز اليمين المتطرف علي »التطرف الإسلامي» فقط، وتعهد ب»منع وحل كل المنظمات الإسلامية والمساجد» التي لها صلة بالإسلام المتطرف، وطرد الأئمة والمتشددين الذين لهم صلة بهذه المنظمات إلي بلدانهم الأصلية، إضافة إلي منع التمويل الأجنبي للمساجد في فرنسا. وفيما يخص محاربة التنظيمات الجهادية، تقترح لوبان إسقاط الجنسية عن كل الفرنسيين الذين أدينوا في قضايا إرهاب، وطردهم إلي بلدانهم الأصلية ومنع عودتهم إلي فرنسا بشكل نهائي. وتشدد لوبان في برنامجها الانتخابي، علي »الدفاع عن الهوية الفرنسية» وتعزيزها عبر نشر قيمها وثقافتها، كما تشدد علي ضرورة فرض قيم العلمانية ومحاربة كل أشكال »الانغلاق الطائفي» في فرنسا، عبر محاربة »الفكر الإسلامي السلفي» الذي يتنافي مع القيم الفرنسية. وتقترح مارين لوبان منع كل »الرموز الدينية» في الأماكن العامة، وهو ما يعتبر استهدافا مباشراً للمسلمين، خصوصا النساء المحجبات. بالنسبة للسياسة الدفاعية لفرنسا، فإن لوبان تقترح في حال فوزها ترك القيادة الموحدة لحلف شمال الأطلسي، كي »لا يتم إقحام فرنسا في حروب لا مصلحة لها فيها»، كما أنها ترغب بأن تكون لبلادها »سياسة دفاعية مستقلة» في جميع المجالات. سباق محتدم استطلاعات الرأي التي أجريت علي مدار الأسبوع الماضي، أظهرت احتدام السباق نحو الإليزيه، وباستثناء فيون الذي يطالبه 7 فرنسيين من كل 10 بالتنحي، وبنوا آمون مرشح الحزب الاشتراكي الذي يعاني خلافات حادة فضلاً عن أن آمون نفسه يفتقد للكاريزما، فإن الفرص تبدو متقاربة بين لوبان وإيمانويل ماكرون المرشح المستقل الشاب (39 عاما)، مؤسس حركة »إلي الأمام»، والمنشق علي الحزب الاشتراكي، حيث كان وزير اقتصاد في حكومة أولاند حتي أشهر قليلة مضت، وسيكون بنوا آمون مرشح الحزب الاشتراكي، منافساَ شرساً علي الأرجح. بشعارات ورموز تركز علي »قضايا المستقبل»، بدأ إيمانويل ماكرون الوجه الصاعد علي مسرح السياسة الفرنسية حملته للفوز برئاسة الجمهورية التي كانت، حتي وقت قريب، شبه محسومة لصالح اليمين الساعي للاستفادة بالموجة الشعبوية حول العالم. وقدم ماكرون (39 عاماً) نفسه، خلال مهرجان انتخابي أقامه مؤخراً في مدينة ليون، كوسطي يريد أن تكون فرنسا »أرض التجدد» عبر تحرير العمل وإعادة الالتزام بالشعار الوطني الذي يكاد يدخل طي النسيان »حرية - إخاء ذ مساواة». وأظهر ماكرون أيضاً أنه يستطيع إخراج الشارع الفرنسي من حالة الاستقطاب المتزايد بين اليمين واليسار، لاسيما مع تنامي قوة المرشحة الشعبوية مارين لوبان التي تحلم بتكرار تجربة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ظل استطلاعات رأي ترجح خوضها جولة الإعادة. لكن ماكرون، الذي تحدث أمام 16 ألف من أنصاره عن »تجديد القيم الفرنسية»، دون أن يدير ظهره ل»الأفكار التقدمية» ذات الطابع اليساري، سيكون مطالبا بحكم هذا الاستقطاب، بعمل شاق يجنبه آثار هجوم مزدوج بدأ يستهدفه من جانب منافسيه، من اليسار واليمين علي حد سواء. مراجعة سيرة ماكرون تُظهر أنه دائما ما يميل إلي المفاجآت، فبعد مشوار دراسي ناجح توجه بالحصول علي شهادة معهد العلوم السياسية بباريس (2001) والمدرسة العليا للإدارة بمدينة ستراسبورج (2002-2004) إضافة إلي مؤسسات تربوية عريقة أخري، قرر الانخراط في العمل السياسي، دون أن يظهر أي ولاء أيديولوجي أو تنظيمي. وعلي المستوي الشخصي، ارتبط ماكرون، وهو لم يتجاوز ال16 سنة بمدرسة للغة الفرنسية تدعي بريجيت ترونيو كانت تكبره سنا بعشرين عاماً، ثم تزوجها لاحقا، وصارت من بين أسباب نجاحه الرئيسية. أوديل دوكلو (63 عاماً) المدرسة المتقاعدة التي سجلت اسمها عضواً في حركة »إلي الأمام» وشاركت في أول تجمع انتخابي لها في ليون، قالت لقناة فرانس 24: »قبل اليوم كنت أنتخب الحزب الاشتراكي، إلا أن زوجي، ومنذ سنوات عدة، يكرر أمامي أنه لا بد من تجاوز مفهوم اليمين واليسار، وأقنعني بإيمانويل ماكرون». وعزز ماكرون هذه الصورة، بتأكيده المتكرر علي ضرورة ألا يكون هناك منبوذون ومنسيون في فرنسا وضرورة تحسين القدرة الشرائية للمواطنين في حال انتخابه رئيسا للبلاد وبالدفاع عن مشروع متناغم يقوم علي رؤية شاملة. كما تعهد بخفض كلفة العمل للمؤسسات العمومية وإبقاء نظام العمل 35 ساعة في الأسبوع وتحسين القدرة الشرائية للموظفين. ورغم دوره في عهد أولاند، لا يصنف إيمانويل ماكرون في خانة سياسية، فهو لا ينتمي لليسار ولا لليمين. كما أنه لم يعلن ولو مرة واحدة أنه يدعم التوجه اليساري أو الحزب الاشتراكي. ولا ينتمي بذلك لأي تيار سياسي تقليدي بل يشق طريقه برفقة مسانديه ويبلور أفكاراً جديدة أصبحت تلقي صدي كبيراً في المجتمع الفرنسي. ويصف اليمين الفرنسي ماكرون ب»العميل» ويري فيه المنافس الأشرس والذي يمكن أن يشكل عقبة أمام وصول مرشحه فرانسوا فيون إلي الشانزليزيه. أما الحزب الاشتراكي فيطلق عليه »بروتوس جديد»، في إشارة إلي السياسي الفيلسوف الذي شارك في قتل الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر عام 44 قبل ميلاد المسيح، رغم أنه هو الذي صقل مسيرته ومنحه كل النعمات والخيرات. في تقدير الاشتراكيين، فإن ماكرون »مخادع» لأنه خان الرئيس فرانسوا أولاند الذي عينه وزيراً، بعدما عمل مستشارا له في قصر الإليزيه في 2012 كما تبدو استقالته بداية بحثه المنفرد عن السلطة العليا، دون أن يتساءل عن تداعيات الترشح ضد رئيس قدم له كل الدعم والمساندة من أجل البروز في الساحة السياسية الفرنسية والأوروبية. ويبدو ماكرون ولوبان الأقرب لتخطي الجولة الأولي التي ستجري في الثالث والعشرين من أبريل، فيما أشارت النتائج لأول مرة لاحتمالية فوز ماكرون علي مرشحة الجبهة الوطنية في جولة الإعادة التي ستجري في السابع من مايو المقبل. وبذلك ينحصر السباق نحو الإليزيه ما بين امشروع قتل أوروباب علي حد وصف عنوان افتتاحية لوموند لمشروع الجبهة الوطنية، وشاب قليل الخبرة سيكون التصويت له بمثابة القفز إلي المجهول.